الخميس، نوفمبر 16، 2017

الثامنة مساء .. دراما الإنتقام والخلاص من ثقل الماضي

في إطار بداية الموسم الشتوي للبيت الفني للمسرح قدمت فرقة مسرح الغد عرض " الثامنة مساء" للكاتبة "ياسمين فرج عرابي" و المخرج "هشام على" والذي يتناول موضوع الإنتقام بشكل أساسي من خلال حكاية تقليدية لأخ وأخت يتأمرون على قاتل والوالدهم بهدف قتله بشكل بطئ ودفعه للجنون .
وبصفة مبدئية فإن موضوع الإنتقام قديم قدم تاريخ الدراما ذاتها ، ففي العادة ما يوفر ذلك الموضوع قاعدة ثرية للكاتب سواء على مستوي أدارة الحدث أو تنمية الصراع أو حتى تشكيل الشخصيات وعالمها النفسي، حيث تعتمد دراما الأنتقام بطبيعتها على التحرك بين زمنين الأول في الماضي حيث وقعت الجريمة الأصلية التي تحتجز الشخصيات وتمنعهم من التقدم في الحياة - بل وتهدم نظام العالم كما نجد في دراما مثل هاملت - وبالمقابل الزمن الحاضر حيث تحقيق الإنتقام هو الخلاص الوحيد الممكن الذي يمكن للعالم من خلاله أستعادة أتزانه ويسمح للماضي بالموت والتقدم صوب المستقبل دون روابط.
ولعل ذلك ما يمكن أن نجده في عرض " الثامنة مساء" حيث يبدأ العرض بالراوي – المعلق – عبد الله حسن الذي يقوم بالتعليق الشعري حول الزمن ثم تبدأ أحداث العرض حيث يجلس بطل العرض قاسم بك (محمد عبد العظيم) الذي ينتظر ساعة موته التي تحل في الثامنة كل يوم لكن موته لا يحل إلا عندما يكتمل أنتقام حسنه (لمياء كرم) وأخيها صابر (نائل على) ولعل موقع الساعة المثبته في منتصف عمق قاعة العرض والتي يتم التأكيد عليها بالإضاءة طوال العرض وعلى توقف الدائم عند الساعة الثامنة يؤكد ذلك الطرح.
ولكن وفي المقابل فإن نص العرض ورغم بناءه الدرامي التقليدي لم ينجح في بناء شبكة العلاقات المعقدة التي تجعل من الماضي حاضراً بثقله طوال الوقت حيث تظل عمليات تقديم المعلومات متعثرة طوال الوقت وذلك نتيجة كثافة المعلومات سواء المتعلقة بتاريخ شخصية قاسم بك المقعد والذي يحمل ذكريات طفولة قاسية أو ذكريات الزوجة (وفاء الحكيم) حول علاقتها الملتبسه بزوجها وموقعه في حياتها وموقعها في حياته بالإضافة إلي  ذكريات كل من الأخ والأخت أصحاب الإنتقام .
أن كل تلك التواريخ التي تثقل الشخصيات وتشكل أفعالها ومواقفها في الحاضر تتناثر - طوال الوقت- عبر العرض لدرجة أن المتفرج يكتشف في لحظة متأخرة جزء أساسي من بناء العالم والمتمثل في وعي قاسم منذ البداية بطبيعة المؤامرة وقبوله بالمشاركة في عملية قتله البطئ عبر خدعة الجنية التي تعشقه و التي يتورط فيها بإرادته وينتهي داخلها.
أن تلك الأزمة التي تنتجها عملية تقديم المعلومات لم يشارك المعلق الأساسي في حلها أو تيسير تمريرها للمتلقي بل ظل يجذب المتلقي عبر الشعر صوب تعليقات تجريدية وتأملات في الحياة والموت والخير والشر والنفس الإنسانية بينما تحمل الممثلين تقديم الشخصيات وتبريرها مواقفها طوال الوقت سواء عبر الأداء الجسدي والصوتي أو عبر المونولوجات التي تتناثر عبر العرض حاملة لحكايات الماضي وعوالمه .
على مستوي أخر قامت مهندسة الديكور(مي زهدي) بتشكيل فضاء مشغول بعشرات التفاصيل و التقاطعات بين فضاء المنزل وفضاء التجسس والمراقبة حيث تشكل عمليات التجسس والمراقبة والأكتشافات المتبادلة بين الشخصيات جزء أساسي في عمليات تقديم عشرات التفاصيل التي لا تقدم على خشبة المسرح . الأمر الذي يجعل من أسقاط أجزء من الديكور في نهاية العرض وبعد أكتمال عملية الانتقام والمكاشفات - على يد الزوجة (وفاء الحكيم) – أمر طبيعياً ، فذلك التشابك والتعقيد والتكدس للتكوينات والتفاصيل التشكيليه بتمازج ما هو واقعي وتعبيري يعكس تكدس الوقائع والزمن الذي يطبق بثقله على عالم العرض ولعل الطبيعة اللونية القاتمة للوحدات التشكيلية (تنويعات الأسود والبني ودرجات الأزرق) تعكس حالة القتامة التي تسيطر على العالم الدرامي.
أننا أمام عرض يحاول من خلال موضوع الإنتقام التقليدي والمعتاد والمقدم في بيئة تقليدية لعمليات الثأر (الصعيد المصري) أن ينفذ نحو محاولة أكتشاف النفس البشرية في تقلبتها وبين الخير والشر وأن الجميع يحملون في داخلهم ثأرهم الشخصي ( تشارك في ذلك كافة الشخصيات تقريباً عدا المنتقم منه قاسم بك والذي يمتلك ثأره الخاص من مظالم طفولته وشبابه) الذي يشكل جانبهم المظلم كما يحملون جانبهم النقي الذي يعكس وجوههم البريئة والمستسلمة لما يحيق بها من عنف وقسوة من العالم .
أن ذلك الطرح الذي نحاول أن نبرزه في العرض يقترب من الطرح الميلودرامي التقليدي الذي تشغل فيه موضوعات الإنتقام وعودة الماضي حيزاً هاماً .. فالشخصيات الأساسية سواء قاسم بك أو صابر أو حسنه نماذج برجوازية بإمتياز فالأول قام ببناء ثروته بعدما نُهب ميراثه من قبل أعمامه بينما (صابر وحسنة) يمتلاكا صك أنتمائهم للطبقة البرجوازية عبر التعلم ، بل يمكن أن نعممه موضوع الإنتماء للبرجوازية على شخصية الزوجة .. وبالتالي فإن الموقع الذي تم اختياره من قبل صناع العرض (الصعيد) لم يحضر بمحدداته الثقافية أو شبكة علاقاته الأجتماعية أو قواعده الأخلاقية بل لم يكن أكثر من خلفية داعمة لعملية الثأر بينما تسبح الشخصيات في فضاء المدينة وقواعدها الأخلاقية التي يصبح فيها للمرأة موقع أساسي في بناء العالم وتشكيله ويتحول الرجل أما إلي موضوع للإنتقام كعقاب له على جرائمه السابقة في الماضي أو موقعه الذكوري القمعي في الواقع ، وحتى الرجل الذي يرفض في النهاية المشاركة في الإنتقام (صابر) يتم قمعه و تهميشه .. ولعل ذلك ما يكشف - في مستوي ما- نمو لوعي نسوى بالعالم الذي تتنازع فيه امرأتان رجل عاجز جنسياً ومقعد ويقمن بتمزيقه والإنتقام منه ومحاوله أمتلاكه في ذات الوقت، حيث يكتمل الإنتقام من خلال الجنية التي تختلقها حسنه بحيث يتحول الجنس والهوس بحضور ظلاله في العرض جزء من بناء العالم.
أن ذلك الحضور لوعى الطبقة الوسطى في العرض بنمط ميلودرامي يتصاعد مع بروز الصوت النسائي القادم من نص العرض والذي تم تدعيمه عبر الصورة المسرحية من خلال هيمنة النساء على الفضاء أو عبر الراقصة والمغنية (باللغة الإنجليزية والتي تبدو ذات معني إذا ما تم تفهمها في ذلك الإطار الذي يحولها لصوت مستقبل تلك الطبقة وهي في طريقها للإنحطاط والتفسخ) والتي هي حسنه حيث صممت "نورهان سمير" زي المغنية ورداء حسنه كوجهين متقابلين يسمح للممثلة بتديل ردائها عبر تحرير رداء حسنة المطوي داخل فستان المؤدية.
أن تلك الرؤى التي تحضر في العرض –وتتخله- تجعل من الممكن تفهم مواقف الشخصيات وأفعالها وذلك ما دعمه الأداء التمثيلي للمؤدين الذين قاموا بتركيز جهودهم لتقديم المواقف النفسية الأقرب للهوس بالإمتلاك لدي الشخصيات فكافة الشخصيات (عدا صابر تقريباً) تمتلك هوسها الخاص بالإمتلاك وأبراز هيمنتها على الفضاء وبالتأكيد فالشخصيات النسائية في المقدمة وهو ما يفسر الميل لتقنيات الدراما النفسية.
أن العرض ربما يحمل - في مستوياته المختلفة- قلق الطبقة الوسطي المصرية التي تعاني اليوم من لحظة ضعف وتآكل لمشروعها الحضاري ودفعها لأستعادة ذلك الحنين لعالم من الممكن فيه طي الماضي بضربة واحدة وأنهاء تناقضاته وثقله وفض أزماته الأخلاقية بضربة واحد (الأنتقام) حتى لو كان أنتقام من ماضي تلك الطبقة ذاتها وخطاياها الذي يثقل كاهلها ويعوقها عن التقدم في مشروعها المفترض .. تلك رؤية رومانسية للعالم لا تمتلك سوى الهرب من واقع عنيف والإنكفاء على الذات ولعق الجروح القديمة بطريقة لا تصلح لمعالجة الواقع.

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...