يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم
يقفان في مواجهة بعضهما البعض؛ الأحمر إلى يسار المتفرج، والأبيض إلى يمينه. ربما
يبدو المشهد مألوفاً، ودلالاته واضحة؛ إنها مباراة لكرة القدم بين فريقي القمة،
تتم محاكاتها فوق خشبة المسرح. لكن يبدو أن منتجي العرض لم يكتفوا بهذه المحاكاة
الساخرة، التي تثير ابتسام المتفرج عند ملاحظته السمات الجسمانية المميزة
للممثلين، والتي تسخر بشكل مباشر من ضعف اللياقة البدنية لدى لاعبي الفريقين...
لقد أضافوا عدداً من المتغيرات على
الملابس والزمن، حيث يشير المشهد بوضوح إلى أن اللقاء الرياضي يُقام في زمن
الجاهلية في صحراء جزيرة العرب. فاللاعبون يحملون أسماء ذات دلالات مزدوجة، فهي
تشير مباشرةً إلى لاعبين بعينهم، بالإضافة إلى أسماء عربية عتيقة (ابن الحكم، أبو
لهب... إلخ). ومن جانب آخر، يحيل العرض، من خلال الشريط الصوتي، إلى الأفلام
المصرية الكلاسيكية التي تناولت عصر صدر الإسلام والسيرة النبوية، وذلك عبر نشيد: "نحن
غرابا عك عك.. عك إليك عانية.. عبادك اليمانية". يحمل هذا النشيد إشارات واضحة إلى
زمن عبادة الأوثان في مستوى أول، كما يستحضر الأداء التمثيلي، القائم على
المبالغات الأدائية، الذي ميز الأفلام الدينية التي يحيل إليها النشيد في مستوى
ثانٍ. وإلى جانب ذلك، سيستعيد المتفرج بالتأكيد السخرية من ذلك النشيد أو استخداماته
الساخرة في مواقف أو مع أشخاص آخرين، في مستوى ثالث.
عند هذا الحد، سيبدو الأمر معقداً
إلى حد كبير، لكن العرض يضيف شخصية درامية تحتل منتصف عمق خشبة المسرح، في المسافة
الفاصلة بين الفريقين، وتواجه المتفرج وتتحدث إليه. إنه المعلق الذي يقدم
المباراة، ويصف الفريقين بالكفار تماماً كما يصف جمهور ذلك اللقاء الكروي الغريب.
وبالطبع، فإنه يستخدم الأساليب الأدائية والتراكيب اللغوية التي يلجأ إليها
المعلقون الرياضيون، وبالتدريج تتصاعد الكوميديا مع الأسطر الحوارية التي يتبادلها
الفريقان، والتي تستعيد اللغة المتشددة والنابية والأوصاف والنعوت المسيئة التي
يتبادلها مشجعو فريقي الأهلي والزمالك على وسائط التواصل الاجتماعي الإلكترونية.
ربما يكون هذا الوصف لمشهد كوميدي
بسيط التكوين نموذجاً مثالياً للمحاكاة الساخرة أو الباروديا
(Parody)،
فالمشهد يعتمد على محاكاة لفنون ومظاهر أدائية، مثل ممارسة كرة القدم، والتعليق
الرياضي، والإلقاء المفخم والخطابي، والأوضاع الجسدية التي تحيل إلى مرجعيات جادة،
إضافة إلى الشريط الصوتي، الذي بمجرد دمجه مع المشهد، يفقد موقعه والأدوار التي
كان يقوم بها في زمن الجاهلية أو في الفيلم الديني... إلخ. وإلى جانب المحاكاة
الساخرة لهذه الأدائيات الجسدية والصوتية، يقوم المشهد بعمليات محاكاة ساخرة على
مستوى آخر، وهو مستوى التركيبات اللغوية، حيث يدمج لغة وتقاليد الشعر العربي
القديم مع لغة وخطاب الأفلام الدينية، مع لغة وخطاب معلقي كرة القدم، وأخيراً لغة
وتعبيرات مشجعي كرة القدم على مواقع التواصل الاجتماعي وفي المدرجات.
إن المشهد يمثل نموذجاً معقداً
للمحاكاة الساخرة، ويستنفد تقريباً كل إمكانياتها، فهو يقوم بمحاكاة ساخرة لأساليب
الأداء الجسدي والصوتي المميزة للسينما الكلاسيكية، والأدائيات المرتبطة بكرة
القدم الحديثة، والتقاليد الكتابية والفنية للشعر العربي القديم. إنها سخرية تطال
ما يحاكيه المشهد بقدر ما تطال المستهدف بالسخرية، وهو التعصب الكروي. إن المشهد
لا يحمل خطاباً معقداً – على السطح على الأقل – فهو يستهدف السخرية من التعصب
الكروي، وهو موضوع بسيط يمكن تقديمه بطرق أكثر سهولة، مثل أن يعتلي محاضر خشبة
المسرح، ويقف في بؤرة ضوء، وينطلق في الحديث عن التداعيات السلبية للتعصب لفريق
كرة قدم، ويقوم بمقارنته بالتعصب الديني أو العرقي... إلخ. لكن هذا المحاضر لن
نستطيع وصفه بالممثل، وما سيقدمه لن نستطيع وصفه بالمسرح. وبالتأكيد، لن نضحك أو
ننجح في إيجاد علاقات بين التعصب الديني والقبلي وبين تشجيع فريق لكرة القدم،
بالوضوح والسهولة التي يتجلى بها الأمر في المشهد المسرحي. بالطبع، يمكن للمحاضر
أن يحدثنا عن عمليات استغلال وتنمية مشاعر العداء والكراهية، وسيادة التعصب
الكروي، لكننا لن نرى كيف يقوم المعلق، على سبيل المثال، بتنمية ذلك العداء عبر
اللغة التحريضية، التي تبرزها المحاكاة الساخرة، وتكشف التناقضات التي تقوم عليها.
وفي النهاية، من المؤكد أننا كنا سنشعر بقدر كبير من الملل والتشتت وفقدان التركيز
عندما يطول زمن المحاضرة، بينما لن نتوقف عن الضحك لمدة خمس إلى سبع دقائق كاملة،
هي زمن المشهد عند تقديمه على خشبة المسرح.
تلك هي مصادر قوة المحاكاة الساخرة
وسبب حضورها الدائم في تاريخ المسرح، حيث يمكننا أن نجد آثارها منذ زمن كتاب
المسرح الإغريقي، حين كان كاتب الكوميديا الإغريقي أريستوفانيس يحاكي أسلوب كاتب
تراجيدي كبير مثل يوربيديس، ليسخر منه ومن التيار الفكري الذي يمثله، حتى ينتصر
لأفكاره الرجعية والمحافظة. كذلك، نجد آثارها في المسرح الحديث عند ألفريد جاري في
أوبو ملكاً، حيث أعاد إنتاج نص كلاسيكي لشكسبير (مكبث) في محاكاة ساخرة قاسية، تسخر من
التصورات الأخلاقية للطبقة البرجوازية وخياراتها الجمالية... إلخ.
يمكننا أيضاً أن نجد المحاكاة
الساخرة في بعض عروض فرقة مسرح مصر، حيث تم تقديم محاكاة ساخرة للمسلسلات العربية
الحديثة، من خلال تفكيك الأداء المفتعل، والأوضاع الجسدية المتصلبة، والطابع
الميلودرامي، عبر محاكاة ساخرة تكشف التناقضات، وتنزع بقسوة الحالة العاطفية
القوية التي يغرق فيها المتفرج عند متابعة الأعمال الفنية الأصلية.
ما يجمع كل تلك الحالات المتناقضة في
قيمتها الفنية وعصور إنتاجها، من أريستوفانيس وحتى مسرح مصر، هو التقنية التي
تستخدمها المحاكاة الساخرة، والتي يمكن أن نجدها في المشهد الذي اخترناه كمثال من
مسرحية كركيب دماغ لفريق نادي مسرح دمنهور، التي قُدمت هذا العام. إنها تقنية
قائمة على إعادة إنتاج الأداء والصوت واللغة، بعد القيام بعملية إزاحة بسيطة
وعميقة، تحافظ على حضور الأصل أمام المتلقي طوال الوقت، لكنها في الوقت ذاته تنتزع
مصادر تأثيره الجمالي أو العاطفي، وتحذفها أو تحيدها، بما يسمح للمتدين أو المتعصب
لفريق كرة قدم، بمشاهدة الخطاب الذي يمتلكه ويشكل حياته، وهو يُنقض ويُمزق على
خشبة المسرح، بينما هو يضحك...
ربما يكون السؤال المتبقي لنا هنا هو
محاولة اكتشاف سر ذلك الميل المتنامي بين فناني الكوميديا حالياً، في البرامج
الكوميدية التلفزيونية أو المسرح أو حتى السينما، إلى اللجوء إلى المحاكاة
الساخرة؟
ربما يصعب إيجاد إجابة موحدة لذلك
السؤال الكبير والمعقد، والذي قد يحتاج إلى ما هو أكثر من مقال لتحليله وتفسيره،
لكن، وبشكل عام، يمكننا التوقف أمام أحد أهم الأسباب، وهو مقاومة حالة النوستالجيا
المتفشية حالياً، نتيجة سيادة الرؤى الرجعية، التي تبحث في الماضي عن إجابات وحلول
لأزمات الحاضر...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق