الخميس، فبراير 02، 2017

خريف... رحلة الجسد للموت .. رحلة الروح للخلاص


في العادة ما تتسم مذكرات و يوميات المرضي و المحتضرين بأنها كتابات تتأرجح بين الغضب و الرفض من جهة و الإستسلام والأنسحابية .. لكنها وبشكل عام تفور بالإنفعالات و المشاعر العميقة و التأملات للحياة و الموت ، ولعل ذلك ما مميز نص عرض خريف الذي قدمته فرقة أنفاس المغربية أسماء هروي والمعتمد على يوميات الكاتبة الصحفية الراحلة فاطمة هوري ، وجعله مؤهلاً للفوزي بجائزة مهرجان الهيئة العربية للمسرح .
أما بالنسبة للعرض ذاته فقد أنطلق من متابعة بصرية وجسدية لعالم أمرأة تعاني من مرض السرطان و يصحبها في رحلة العلاج و غرفة العمليات و تدهور علاقتها مع زوجها ونهاية بوحدتها التامة في مواجهة الموت وذلك في أطار شديد الضيق و الخصوصية حيث تشغل تلك المرأة " سليمة مومني و فريدة بوعزاوي" الفضاء المسرحي عبر عملية تشطية للشخصية و تفتيت لها بين جسد راقص يتعذب و ساردة ، حيث يتم أستدعاء الشخصيات التي تتدخل في علاقة مع الشخصية الأساسية بالتبادل بين المؤديتين اللاتي يتبادلن السيطرة على الفضاء المغلق و المجرد الذي لا يشغله سوى خزانة ملابس تستدعي منها شخصية الساردة و إليها تعود ، و كرسي دوار في منتصف فضاء خشبة المسرح .
ربما تكون عملية تشكيل الفضاء المسرحي و شغله و موقع الشخصية المتشظية داخله والتي تتجسد صراعتها و نوازعها  مخاوفها داخله أحد أكثر عناصر بناء العرض حضوراً ، فخلف الصوت الواحد المهيمن و المنغلق على ذاته يبرز تعدد لأصوات مختلفة تتزايد خلال النصف الثاني من العرض مع دخول مجموعة من المؤديات يمثلن مزيد من التشظي والنوازع و المخاوف التي تتكاثر و تتصارع داخل فضاء العرض الذي عالم الشخصية الوحيدة و التي تنتقل من الرفض و عدم القبول إلي الإستسلام والتعايش مع فكرة الموت بعد رحلة طويلة يحتل فيها الرجل موقع هام و مركزي .
أن ذلك العالم المغلق و الضيق الذي ينطلق منه العرض يتمدد بالتدريج و بشكل متصاعد مع تقدم العرض ليخلق عالماً كاملاً يتجاوز حدود المرض ليقدم عالم الذي يحدد وجود المرأة و حدودها و موقعها داخل العالم ، وحالة القلق و التردد التي تشكل علاقتها بالرجل بين الرفض و القبول وبين التمرد على سلطته الأبوية و الخضوع لها ، ولعل ذلك ما يخلق مستوي من مناقشة موقع المرأة داخل النظام الإجتماعي من خلال نموذج أمرأة تشعر بأنها أصبحت على شفة الخروج من النظام النوع الاجتماعي بعد أصابتها بسرطان الثدي ، وبالتدريج تصبح مشاعر الخوف و القلق و الوحدة هي المشاعر الأكثر سيطرة عليها مع تراجع شعورها بالأمان و فقدانها الثقة في شريكها الذي تشعر بتراجع أهتمامه و تعامله معها بدافع الواجب لا الحب .. وبالتالي فإن فقدان الحياة وتسربها من بين يديها يصبح معادلاً في لحظة ما لفقدانها لموقعها كأمرأة مرغوبة داخل العالم ، الأمر الذي تتصاعد معه صراعها الداخلي بين الموت و الحياة و الحب و الفقد .
من جانب أخر فإن التحقيق البصري لذلك الكم الكبير من الصراعات و التناقضات الداخلية - التي تمزق الشخصية من ناحية و صراعتها مع العالم الخارجي الذي لا يحضر إلا كمروي عنه و كماض منتهي - يتجسد على على خشبة المسرح في صورة العلاقة مع خزانة الملابس التي تحتل منتصف أعلى المسرح والتي تحتل مركز العالم المسرحي فالملابس الممزقة و التي تقوم الشخصية بتمزيقها كمجاز لفقدانها لعلاقتها بالعالم (وتمزق هويتها و فقدانها) ، تلك الملابس تجمعها الشخصية في نهاية العرض و تضعها في داخل الخزانة مع بقية الأوجه / المؤديات التي يمثلن تناقضاتها ، أن الخزانة التي تبدو على المستوي اللوني غير متمايزة عن بقية الفضاء تتحول للذاكرة و المنفي و المخيلة  و العالم .. فمنها يظهر العالم و إليها يتم نفي العالم الخارجي في نهاية العرض لتعود الشخصية إلي وحدتها و عالمها الذاتي الضيق والأسي .
ربما يكون ذلك المنطق الذي قام العرض ببنائه قد تعرض للإختراق في بعض الأحيان كما هو الحال في ظهور بقية تمثلات الشخصية الرئيسية من الكواليس وليس من داخل الخزانة .. وهو ما يطرح أسئلة حول الموقع الذي أتت منه تلك التمثلات وعلاقتها بالفضاء الخاص بالشخصية ، لكن العرض يظل في النهاية محافظاً على حالة من التماسك المبدئي التي شكل الأداء الحركي مركزها .حيث ساهم الأداء الراقص في أضفاء مزيد من الشاعرية على الصورة المسرحية برغم الخشونة والجفاف الذي ميزها في بعض الأحيان ، فتلك الشاعرية ساهمت في نقل الإنفعالات المتصارعة عبر الجسد الموزع بين الحركة الراقصة و الحركة اليومية و الاعتيادية وخاصة عبر جسد المؤدية الأساسية " سليمة مومني " في مقابل الثبات – النسبي- لجسد المؤدية الساردة " فريدة بوعزاوي ".
أما على مستوي الموسيقي قفد ساهمت الموسيقي الحية التي صاحبت العرض في تدعيم العرض و الأنفعالات المتصاعدة عبر التصاعد الإيقاعي في بعض المشاهد و الخفوت البطء في مشاهد أخرى .
في النهاية ربما يكون عرض " خريف " بكل ما يحمله ذلك الأسم من أشارات للنهايات و الفناء قد نجح في تحقيق التواصل مع متلقيه عبر أهتمامه الواضح بالتفاصيل الدقيقة و المركبة التي تخلق عالم تلك الشخصية الوحيدة و المتشظية في فضائها الخاص ، أهتمام أستطاع التواصل مع ماهو مشترك و عام .

  

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...