يظل الاقتراب من المقدس في الثقافة العربية أحد أكثر الأمور
الشائكة والمربكة حيث تشكلت تلك الثقافة واكتسبت هويتها عبر علاقتها بالدين كمكون
أساسي ومركزي ، وهو ما يجعل من محاولة اجتراح المحظورات الدينية أمراً محاط بعشرات
المحظورات الاجتماعية والسياسية
والثقافية التي تجعل ممن يحاول
ملامسة تلك المناطق في مرمى سهام تلك القوى التي تتعامل مع الدين كمرجعية وأساس تكتسب
منه شرعيتها..
ولكن العرض العرض العراقي "يارب" لفرقة منتدي المسرح
التجريبي و المخرج "مصطفي الركابي" يخطو بشكل مباشر عبر المقدس لممارسة نقد للواقع
و القوى التي تشكله حيث يدور حول سيدة
" سهى سالم" تتقدم لله بطلب أن
يوقف نزيف دم الأبناء الذين يسقطون قتلي سواء بالقتل في البلاد أو الغرق في قوارب
الموت بالبحر وهم يهربون من البلاد ، لكن هذا الطلب الذي تتقدم به السيدة المكلومة
في رسالتها للرب يصحبه بتهديد بتوقف الأمهات عن الصلاة لله .. الأمر الذي يهبط
لأجله "النبي موسي / فلاح أبراهيم" في صورة رجل مريض يرتدي ملابس
عصرية ليطلب منها أن تتوقف هي و الأمهات
التي تمثلهن عن ذلك التهديد ولكن و في النهاية فإن موسي نفسه ينحاز لصفها و يرحل
معها ليقيم في بيتها – حسب اللوحات التي تعرض على شاشة الفيديو بروجكتور في خلفية
المسرح – لتقوم هي برعايته.
بالطبع فإن تلك المعالجة الذي
يقدمها العرض والمعتمدة على نص للكاتب العراقي " على عبد النبي" تدخل
إلي منطقة شديدة الحساسية والقلق في الثقافة العربية والإسلامية عبر ما تطرحه وطريقته
التي تعتمد التجسيد لشخصية مقدسة " النبي موسي" و كذلك ما تطرحه شخصية
الأم المكلومة من نقد لصمت السماء عما يحدث على الأرض ، لكن العرض في محاولته لتجاوز تلك الأزمة فإنه
يلجا لبدء العرض من خارج قاعة العرض عبر شريط سينمائي يقدم للمتفرجين قبل دخولهم
صالة العرض، حيث يحاول عبر ذلك تخليق مساحة بين ما موضوعه و متلقيه من خلال
التأكيد على أننا امام عرض مسرحي .. فالشريط السينمائي يدفع نحو بناء مسافة زمنية ومكانية
بين المتفرج و العرض عبر تخليق أطار حكائي يتمثل في الشريط السينمائي يرصد في عام
2026 للعرض الذي قدم في عام 2016 .
أن تلك المباعدة الأولية
يتم تأكيدها عبر تلك السردية التي يقدمها مقدم العرض (بالشريط السينمائي) الذي يقدم
لتسلسل لأحداث العرض مع تأكيد وتحديد لأحداث تفصيلية وجزئية .. الخ . ولكن العرض لا
يتوقف عند هذا الحد حيث يصحب العرض ومنذ بدايته و حتى المشهد الأخير عرض فيديو
بروجكتور يحوي إلي جانب الشريط السينمائي لوحات شارحة تؤكدوتشرح و تفسر ما يقدم للمتفرج على أنه عرض
مسرحي..
بالطبع فإن تلك المحاولة
لتحطيم أي أمكانية للتوحد أو تحقق أسر الأيهام مع العرض لا تتوقف عند هذا الحد بل أن المخرج و
عبر التشكيل البصري للمشهد - الذي أعتمد بالأساس على الإضاءة كعنصر محوري - يقوم
بالتأكيد على جماليات الصورة المسرحية و تفعيلها طوال الوقت و انتزاع الحدث من
طبيعته الصدامية مع المنظومة العقائدية للمتلقي إلي فضاء الصورة الجمالية التي
تشير لذاتها طوال الوقت .
من ناحية أخرى فإن خطاب
العرض الذي يتقاطع – ويشير طوال الوقت دون تصريح - إلي الواقع الدموي بالعراق
والكثير من الدول العربية يتحاشى الإشارة
للخطابات الطائفية والدينية التي تجعل من القتل و تقطيع الرؤوس و الأطراف و
التفجيرات عمل مرتبط بالله و تنفيذ أوامره .. وهو ما يكشف عن توجه خطاب العرض إلي
الجنوح نحو تحييد تلك الخطابات و التعمية عليها و تقديم عمليات القتل و التناحر في
المنطقة العربية عبر ثنائية (القتلة/الابرياء) بشكل مجرد للحيلولة دون التورط في
تشابكات الواقع وتعقيداته، كما أنه يقيم مباعدة بين الرب كمتعال و منفصل والواقع ما
يرتبط به من خطابات عدائية وإقصائية ، وهو ما يجعل العرض في جانب منه خاضعاً
لعمليات القمع الذاتي التي تمنع التعرض للواقع بالنقد ، حيث تتم إحالة القضية
برمتها للرب بشكل مباشر.. وبالتالي تحويل السماء إلي شريك في ما يحدث بالصمت أو
القبول أو حتى بالعجز (كما تطرح شخصية موسي عبر سؤاله وكيف يوقف ما يحدث ؟)، ولكن
وفي دون التورط في كيفية تطويع الخطاب الديني و المقدس في الصراعات الطائفية .
أن خطاب العرض تتعالي
صداميته مع الخطاب الديني عبر انطلاقه من التسليم بمعطياته و عباراته - الأمر الذي يصل إلي استخدام تلاوة للقرآن في
بداية العرض عبر صوت باكي و منفصل عن عالم العرض - حيث يستخدمها لتعريتها و مصادمتها مع خطاب
مقموع و مهمش لكنه حول مسؤولية السماء .
إن ذلك الإحالة
الميتافيزيقية للقضية تحمل في أساسها – وبشكل مضمر- خطاب أدانة لكافة الخطابات
التي تمتلك الهيمنة و الحضور لكنها تحول المقدس إلي مجاز .. وهو ما يبدو غريباً
وغير معتاد حيث تتم الإشارة للعوالم الميتافيزيقية كمركز في العادة و ليس دال على
الواقع، ولعل ذلك ما جعل من كافة محاولات
الإبعاد التي مارسها العرض تسقط أمام قوة و حضور ما يطرحه العرض الذي يصطدم بعنف
بالخطاب الديني على كافة المستويات ...
لكن – وكما سبقت الإشارة – فإن
العرض على المستوي الصورة المسرحية استطاع أن يخلق حالة شاعرية ذات أيقاع بطئ
ومنتظم عبر الإضاءة و السينوغرافيا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق