تذكر المراجع المتخصصة أن ما عصر "مسرح
المخرج" كما يطلق المتحصصين عليه ولد على يد دوق ساكس-مايننجن جورج الثاني
الذي قاد فرقة دوقيته في أنتاج عروض مسرحية فقبل ذلك كان وظيفة المخرج موزعة بين
المؤلف كمرجعية والممثل و المدير الفني للفرقة المسرحية مصمم المناظر المسرحية..
وأخرين ولكن ومنذ ذلك الوقت أنطلق المخرج ليقوم بجمع مهامه وانتزاعها ليترسخ حضوره
كمؤلف العرض المسرحي.
ولكن بالنسبة لمصر فإن روز اليوسف وفي إطار مذكراتها حول
علاقتها بعالم المسرح و الصحافة والسياسية .. تتوقف أمام أستاذها ومكتشفها لعالم
التمثيل "عزيز عيد" لتصفه بأنه أول مخرج مسرحي (بمعني الكلمة) بالمسرح
المصري فقبله لم يكن هناك أخراج مسرحي بل أن أفراد فريق التمثيل كانوا يتعاونون في
تجسيد النص فوق خشبة المسرح معى بعض السلطة الواضحة لمدير الفرقة أو المنتج أو
النجم ..ولكن في النهاية كانت مسؤليات تصميم حركة الشخصية و تفسيرها و تحديد
ملامحها و علاقاتها بغيرها من الشخصيات .. الخ خاضعة للجهد الجماعي و الفردي
لأعضاء الفريق
بالتأكيد فإن موقع عزيز عيد في تاريخ المسرح المصري
كمترجم و مؤلف و ممثل يمكن أن يؤهله للقيام بذلك الدور الريادي في تاريخ المسرح
المصري ، فوظيفة المخرج المسرحي لا تتوقف
عند تنظيم الأداء الحركي ودخول وخروج الشخصيات من فوق خشبة المسرح ، كما لا ترتبط فحسب
بالقيادة الإدارية و الفنية لمرحلة التدريب على المسرحية وضبط إيقاع الفريق كجماعة
عمل .. وبمجمل تاريخ عزيز عيد المسرحي نجد
أننا مخرج صاحب مشروع يمتلك أفكار واضحة – ناجحة أو فاشلة ليس بالهام هنا – حول
المسرح الذي يرغب في تقديمه للجمهور و طبيعة النصوص التي يجب أن تقدم عبر ذلك
المسرح و طبيعة الأداء والأفكار التي يجب أن يطرحه ذلك المسرح على جمهوره ...
فعزيز عيد كان يمتلك تصورات واضحة حول فن الأداء و الأخراج و النصوص التي يرغب في
تقديمها للمتفرجين .
ومنذ ذلك الوقت المبكر في تاريخ المسرح المصري بدأت وظيف
المخرج في الترسخ كمهنة محورية وأساسية ، وبدأت في النمو والسيطرة على العروض
المسرحية حتى وصلنا في منتصف الستينيات إلي القبول بالثورات الكبري التي قام بها
كرم مطاوع وسعد أردش و سمير العصفوري وغيرهم من المؤمنين بأن المخرج هو مؤلف العرض
المسرحي ، و أن المشروع الفني للمخرج هو بناء يتشكل من عناصر مختلفة لا يشكل النص المسرحي
سوي مجرد عنصر يغزله المخرج ويعيد صياغته مع بقية العناصر السمعية و البصرية التي
يشكل منها عرضه المسرحي . ولتسيخ تلك المكتسبات والمهام خاض المخرجين الكثير من
الصراعات مع كتاب المسرح الذين لم يتخلوا عن موقع النص المسرحي المركزي بسهولة ،
حيث يحتفظ لنا التاريخ بأحد أكبر المعارك التي أشتعلت بين يوسف أدريس و كرم
المطاوع حول حرية المخرج المسرحي و دوره في العرض ، ففي حين وصل الأمر بيوسف أدريس
للإعتصام فوق خشبة المسرح لمنع العرض الذي رأي أنه لم بحقق رؤيته لكيفية تنفيذ نصه
"الفرافير" فإن كرم المطاوع ومن بعده سمير العصفوري و أجيال من المخرجين
نجحوا في القضاء على التصور القاصر لدور المخرج كمنفذ لرؤية المؤلف ومفسر لها
لصالح تثبيت دعائم مفهوم المخرج كمؤلف للعرض
واليوم وبعد ما يقارب القرن على ظهور وظيفة المخرج في
المسرح المصري فإنها لم تعد محل صراع أو تنافربين المؤلف والمخرج بل أن جهات
الإنتاج المسرحي الكبيرة لم تعد تتعامل مع النص المسرحي كمرتكز يتم الإستناد إليه للشروع
في أنتاج عرض مسرحي حيث حل محل النص المشروع المسرحي الذي يقدمه المخرج لجهة
الإنتاج والذي يحمل إلي جوار النص تصور المخرج للعرض .
بالمجمل فإن مسرح المخرجين قد أنتصر النصر النهائي في
معركة الصراع على موقع القيادة داخل العمل المسرحي نتيجة للعديد من العوامل منها
ما هو متعلق بالفن المسرحي حيث شهد المسرح تحولات
كبري نتيجة لمتغيرات تكنولوجية ،ثقافية ، فنية وأجتماعية دفعت بالعرض المسرحي إلي الصدارة ،
كما أن من العوامل المؤثرة تلك المتعلقة بالنص المسرحي ذاته و أندفاع كتاب وفناني المسرح إلي تخليص
النص المسرحي من أرتباطه بالكتابة الأدبية والتأكيد على حضوره كجزء من حالة العرض
والأداء .
ولعل ذلك كله أدي ومع تراكم التجارب إلي بروز العديد من
الأسماء في مختلف أجيال المخرجين المصريين بداية من أسماء أبناء جيل الستينيات و
نهاية بالجيل الجديد الذي يمكن أن نرصد فيه العديد من التجارب المهمة التي يبرز
فيها المخرج مؤلف للنص وصانع له .
لعل أول وأهم التجارب التي يمكن التوقف عندها في الجيل
الجديد من مخرجي المسرح المصري أسم أسلام أمام .
فمتابعة سريعة لتجارب أسلام أمام منذ نهاية التسعينيات
وحتى اليوم يمكننا أن نجد تجربة مسرحية متنامية يتحول فيها النص إلي جزء من منجز
المخرج ، ولتأكيد ذلك يمكننا أن نتوقف
أمام عدة أعمال أساسية في تجربة أسلام أمام .
أول تلك التجارب هي "اللي نزل الشارع" والتي
هي أعادة صياغة من قبل المخرج أسلام أمام لنص للمخرج الأمريكي الشهير وودي ألن حيث
يخفت حضور النص الأصلي أمام العمل الدراماتورجي الذي قام به المخرج والذي أعاد
بناء النص ليتلائم مع رؤيته للمجتمع المصري في نهايات العقد الأول للألفية .
نص مسرحية "الموت" لوودي ألن يدور حول بائع
وديع كلينمان يتم
إيقاظه في وقت متأخر من قبل هاكر ومجموعة من الرعاع حيث يجبره الأخير على الأنضمام
مجموعة قصاص مخصصة لاصطياد سفاح .. وفي الشارع المظلم يقابل كلينمان الطبيب الذي
يخبره أن سبب أهتمامه بالقبض على القاتل هو أن يتمكن من فهم عقله المضطرب عقليا ،
وعندما يتركه الطبيب، يسمع كليمان صراخ. ثم
يلتقي بالعاهرة جينا حيث يتحدثان عن الموت أحتمالات وجود حياة في الكون. وفي
النهاية تتركه جينا أيضا في حين يعود الطبيب مصابً بجروح قاتلة من قبل مهووس ...
ويستمر دخول وخروج الشخصيات حتى يسقط " كلينمان" قتيلاً على يد تلك
المجموعة من الرعاع ...
أن ذلك العالم الخاص بوودي ألن يختفي ويتبخر
ولا يبقي منه سوي شخصية " كلينمان " الذي يتحول إلي موظف بسيط يجبره
أربعة من رجال الشرطة على النزول للشارع لمساعدتهم في القبض على السفاح .. وهناك
يتعرض لتعنيف زوجته و لمجموعة من الأنماط التي تمثل "رجال الدين ، الفنانين ،
رجال العلم ، الداعرة " وهي الأنماط يتم الكشف في نهاية كل مشهد أنهم رجال
الأمن المتخفين ...
أن ذلك التحول الكبير و العميق بين عالم
وودي ألن و نص أسلام أمام يبرزكيفية أنتزاعه العرض من عالمه وأعادة صياغته و
تصميمه ليصبح ملائماً لواقع المجتمع المصري في عام 2009 والذي كان يعاني من تصاعد
قبضة الأمن وسيادة الخطاب الواحد النافي لأي أختلاف .
وعلى مستوي الصورة فإن "أسلام
أمام" حافظ طوال الوقت على سيادة حالة من الكوميديا اللفظية و الجسدية التي تفتت
ذلك العالم وتسخر منه وتنمطه بإستخدام تقنيات الكوميديا دي لاتي الإيطالية التي
تقوم على المبالغات الجسدية و اللفظية و الأجواء شبه الفنتازية طوال الوقت ..
أن ذلك النقد العميق و القاسي للواقع
"الأجتماعي و السياسي و الأقتصادي" عبر أستخدام الكوميديا وعمليات
التنميط التي تنتزع أي سمات أنسانية وتحول كل ما تلمسه إلي موضوع للهجوم صار هو
المشروع الأساسي المميز لمسرح أسلام أمام الذي تميز منذ بدايته بالأعتماد على
مستوي الموضوعات و الصورة على الشخص الذي يواجه مجتمع مشوه و عنيف ومنمط يقوم
بإقتلاعه وقتله أو حتى السخرية منه ..
فنحن نجد تجسيداً لذلك التصور في أعمال سابقة لعرض اللي نزل الشارع مثل "
المجند 311" المأخوذة عن مسرحية فويتسك أو "محاكمة غانم سعيد " أو
تلك التالية لذلك العمل مثل " اللي بنى مصر" أو "رحلة حنظلة"
.
ولكن مايمكن أن نتوقف أمامه هنا في تجربة
أسلام أمام هو طبيعة المشروع الفني الذي يتبناه و الذي يمكن أن نرى حضوره حتى أخر
أعماله "رجاله وستات" المعتمد جزئياً على كتاب " الرجال من المريخ
و النساء من الزهرة" .. أن مشروعه الفني كمخرج يمتلك تصورات ونقد (يمكن أن
رصد تطورها ونموها أحياناً وخفوتها وتراجعها أحياناً أخرى) للعالم و القوى المكونة
له تتخطى النص المسرحي و تحول اي نص يتم التعامل له إلي مجرد خلفية يعتمد عليها في
عمليات السخرية الدائمة و المستمرة من الواقع عبر تنميطه و فضح تناقضاته سواء عبر
الكوميديا اللفظية أو عبر المبالغات الأدائية المستمرة و الممتدة التي لا تكتمل في
العادة دون وجود شخصية غير قادرةعلى أستيعاب ذلك العالم الوحشي الذي يقوم بتفتيت
تلك الشخصية و السخرية منها و الإيغال في أيذائها للحد الذي يصل للقتل في بعض
الأحيان . ولذلك فتلك الشخصية الأساسية التي تتعرض للهجوم توجد في العادة في مقدمة
منتصف منطقة الأداء بينما يندفع الجميع إليها من الأجناب وهو ما يعكس محولة
التأكيد على تلك الشخصية من ناحية و طبيعة رؤيته لموقعها من ناحية أخرى.
أننا هنا أمام مخرج يمتلك رؤية للعالم تتلاقي
مع رؤية البرجوازية الصغيرة المصرية
للواقع و موقعها فيه ، فهناك أنتهاك وتهديد دائمين و مستمرين لوجودها و
لخصوصية أفرادها من قبل نظام أجتماعي و أقتصادي غير عقلاني يقوم بسحقها و تفتيتها
.. لكنه لا يتبني رؤية متعاطفة أو داعمة لتلك الطبقة بل أنه أقرب لنقدها و نقد
ممارستها هي الأخرى .. ليخرج العرض في النهاية أقرب لرفض كل الواقع ووصمه
بالعبثية.
أما التجربة الثانية المهمة حالياً في
المسرح المصري فهي تجربة على طرف النقيض
من تجربة أسلام أمام التي تنتهي لحالة عدمية و ساخرة من كل شيء و رافضة لكل شيء ..
أنها تجربة المخرج "طارق الدويري" الذي يمتلك مشروع مسرحي أكثر رديكالية
في رؤيته للواقع ..فطارق الدويري لا يسعي للسخرية من العالم و الحكم عليه بقدر ما
يحاول مناقشته و البحث عن سبل لتغييره .
ولعل الأعمال الأخيرة لطارق الدويري يمكن أن
تكون نموذجاً لمسرحه ، ففي مسرحية المحاكمة يعيد تقديم نص مسرحي أمريكي يعود إلي
منتصف القرن العشرين بعنوان " ميراث الريح" من تأليف جيروم لورنس وروبرت إدوين لي والتي
تعتمد على أحداث واقعية وقعت في عام 1925 عندما أقيمت دعوى ضد مدرس بتهمة مخالفة
قانون الولاية وتدريس نظرية التطور والنشوء لطلاب المرحلة الثانوية .. حيث يتعرض
النص بشكل أساسي للسجال بين محامي الدفاع عن المدرس و محامي الإدعاء الذين يقيفان
على طرفي النقيض ... فالأول منفتح يدافع
عن حرية التفكير والأعتقاد في حين يدافع الأخير عن معتقدات المجتمع و ثوابته
الثقافية والأجتماعية .
أن عودة "الدويري" لذلك النص ومن
قبله لنص "بلاد أضيق من الحب" و من بعده "الزومبي والخطايا العشر"
يطرح توجهه نحو مناهضة الأفكار المحافظة و الرجعية في المجتمع المصري حيث قام في
عرض المحاكمة بإعادة صياغة لنص " ميراث الريح" وإعادة تشكيل له بحيث قام
بإزاحة كل ما يتعلق بالموضوع الأساسي للمحاكمة "نظرية النشوء و التطور"
وأشاعة بعض الضبابية حول موضوع القضية بما يحول المحاكمة لصراع بين القوى التقدمية
داخل المجتمع التي تم تميزها بالون الأسود في مقابل قوى المجتمع المحافظة و
المتدينة التي تم تميزها باللون الأبيض بحيث صار الصراع التقليدي بين الخير و الشر
و الأبيض و الأسود ذو الطبيعة الأخلاقية إلي صراع بين قوى متناقضة و متنافرة تتصارع
على المستقبل و الحاضر.
وعلى مستوي التصور البصري فإن الدويري يلجاء
لتخليق فضاء ديناميكي ومتعدد المستويات من خلال خشبة مسرح دواره و سلالم حديدية
تشغل خلفية المسرح ويتم أستغلالها طوال الوقت في الحركة الرأسية وذلك في مناقضة
لطبيعة التصور الواقعي الذي يقدمه النص .
وعلى مستوي أخر فإننا يمكن أن نري – وعلى
النقيض من مسرح أسلام أمام – أهتمام واضح لدي الدويري بحركة الجموع التي تخلق
رؤيته للمجتمع المنزلق صوب الجهل و فقدان أدميته بشكل مستمر (وهو عنصر مشترك بين
الزومبي و المحاكمة) حيث تظل تلك الجموع بحركتها الراقصة مهيمنة على الفضاء بشكل
شبه دائم طوال الوقت لتتحول إلي مركز العالم الذي تتصارع عليه وحوله السلطة و
منافسيها .
على مستوي أخير فإن الدويري يلجاء إلي
الفيديو (بعرضي المحاكمة و الزومبي) لعرض تصوراته حول السلطة وطبيعتها المنفصلة
والمتعالية التي تقدم نفسها طوال الوقت في صورة التعاليم و الإرشادات و التحريض ..
الخ فالسلطة هنا تبدو كتجريد ، منفصلة عن هنا والأن ،يتم بثها من بعد ولا يمكن
التواصل معها أنسانياً أو ملامستها .
وبالتالي فإن "طارق الدويري" وفي
إطار رحلته لتحقيق تلك الرؤية للعالم يلجاء بشكل دائم إلي شغل الفضاء طوال الوقت
على مستوي الصورة بالحركة الراقصة للجموع كما يلجاء إلي الفيديو و الدمى و المنظر
التجريدي متعدد المستويات ، ومن ناحية أخرى فإنه يجاء إلي تخليق سينوغرافيا تمتد
من منصة الأداء لتشمل فضاء المتفرجين بحيث المتلقي جزء أساسي من الفضاء المسرحي
(سواء عبر النزول إلي الصالة أو بعكس صورة المتفرجين على شاشة الفيديو).
أما على مستوي الصوت الحي و الشرائط الصوتية
المسجلة فإن الدويري يلجاء بشكل دائم إلي تخليق مزيج بين الصوت البشري الحي و
الموسيقي الحية في مقابل شريط صوتي تتضخم فيه الأصوات و الموسيقي وتظهر لمسات من
الموسيقي الإلكترونية .
إن محاولة الدويري نحو نقد و كشف آليات عمل
السلطة و فضحها في مقابل الجموع الساقطة التي يتم سحقها أمام السلطة ربما تلتقي في
زاوية ما مع ذلك التوجه الذي قمنا بعرضه لدي أسلام أمام ، فالصراع ضد السلطة
القمعية (أو السلطة بكل أشكالها) هو الشاغل الأساسي لكنهم يفترقان – كما سبقت
الإشارة- في توجهاتهم في ما بعد ذلك .. وربما يكون ذلك مجرد دليل لنا في دراسة
توجهات المسرح المصري خلال عقدين شهدا الكثير من الحراك الإجتماعي و السياسي .
في النهاية ربما تكون ذلك التقديم (السريع
أو المسهب حسب رؤيتك) مجرد مقدمة شارحة لمسرح المخرج في المسرح المصري وما نعنيه
بذلك التعبير والمهام المرتبطة به ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق