في تشبيه بليغ
لشخصية هاملت وصف ستانسلافسكي تلك الشخصية بأنها أشبه ما تكون بالجبل وأن الممثل
الذي يعمل عليها يجب أن يتسم بصفات المنقب الباحث عن المعادن .. وكلما كان أكثر
خبرة و جدية في بحثه و تنقيبه كلما وجد ما هو أفضل وأثمن .. وبالطبع فأن ذلك الوصف
يمكن أن ينطبق على المخرج الذي يقرر العمل مع ذلك النص الصعب و المغري طوال الوقت
بإعادة إنتاج ما هو مألوف و معتاد و مجرب في التعامل مع ذلك النص الذي يحوي الكثير
من الطبقات و الفجوات التي يمكن عبرها تقديم تفسيرات متباينة – بل ومتناقضة – تحمل
الكثير من الخيارات على مستوي الصورة و المعني له .
وفي العرض الذي قدمه المخرج محمد فاروق ونادي مسرح قصر
الثقافة المنصورة خلال الدور الخامسة و العشرين للمهرجان الختامي لنوادي المسرح بالأسماعلية
يمكن أن نرى محاولة لإعادة تفسير و تأويل نص هاملت لوليم شكسبير تنطلق من مشهد
فرقة التمثيل .. حيث تحولت فرقة التمثيل إلي شريك مركزي في بناء المعني في عرض
"هاملت" فمنذ بداية العرض تتجلي فرقة الممثلين كتجسيد لهواجس هاملت (محمد
على) الذي يؤكد المرة تلو المرة على أنه قد أختار بشكل واع أن يقوم بتمثيل دور
المجنون "ليكشف عن ضمير الملك " كما يوجد بالنص ،وعبر ذلك التأويل الخاص
بالعرض يتحول الممثلين إلي أشباح تراقب و
تصنع المشهد تلو المشهد حتى يأتي المشهد الأساسي و المركزي الذي يكشف عن الهوية
الأساسية لهم فهو الممثلين منفذي إرادة
هاملت الذي هو بدوره ممثل و مخرج لعالم موازي
و مناهض للواقع المشوه الذي يجلس فيه "كلوديوس/محمد الدياسطي"
على كرسي العرش المغتصب إلي جوار الأم .
ولتحقيق ذلك على المستوي البصري فإن المخرج يلجاء إلي
مجموعة من التقنيات في بدايتها التأكيد الدائم على هيمنة الممثلين/الأشباح على الفضاء
فهم صانعي المشهد و هم خالقى الحكاية ومن تكويناتهم يخرج شبح الأب هاملت و عبرهم
يتم بناء الصورة ، كذلك فإن دورهم يمتد إلي مراقبة الحدث تجسيد ما يدور داخل هاملت
من صراعات و أزمات و آلالام. حيث يلجاء المخرج لهم في مشاهد المونولوجات المتتالية
لهاملت لتجسيد ما يدور بداخل الشخصية ..
وعلى مستوي أخر فأن المخرج لجاء إلي تخليق ترابط لوني بين تلك المجموعة و هاملت
فهم يرتدون اللون الأسود كهاملت وأن كان تصميم الملابس يلجاء إلي اللون الأحمر
لتميزهم عن هاملت الذي لجاء مصمم الملابس إلي اللجوء للتصميم التقليدي و المعتمد
(الأبيض/الأسود) ..
ولتأكيد تمايزهم و أختلافهم عن المستوي الدرامي الأساسي
الخاص بنص هاملت فقد تم صبغ وجوههم بأقنعة تنتزعهم من الإطار الواقعي للدراما و
تضعهم في مستوي مختلف على مستوي الصورة.
أن ذلك المدخل الذي أعتمده المخرج ربما كان من الممكن أن
يخلق مستويات على مستوي تصنيع المعني أكثر عمقاً بكثير .. فالتمثيل و الكذب
والإدعاء تقنية أساسية - في نص هاملت لوليم شكسبير - يمكن أن تقود إلي العديد من
التفسيرات المتنوعة بين ما هو سياسي متعلق بصراعات السلطة وعمليات التخفي و
الإدعاء التي تمارس من قبل معظم الشخصيات ، أو على مستوي ما هو وجودي .. الخ . لكن
المخرج توقف عند حدود أستغلال تلك المساحة التي أعتمدها من النص والتي قام
بتنميتها و تفعيلها عند حدود التقنية دون أستغلالها لتخليق تأويل لنص هاملت و
تفعيل لعلاقته مع الواقع .
ولعل ذلك يتضح بشكل كبير في التصور البصري الذي قدمه
العرض .. حيث تتصدر الصورة للسيد المسيح يسار مقدمة خشبة المسرح وذلك لإستخدامها
في مشهد صلاة كلوديوس .. حيث تلقي تلك الصورة بثقلها طوال الوقت على المشهد و تقوم
بتشويش الفكرة الأساسية التي حاول العرض تبنيها و تعارضه في كثير من الأحيان ..
كذلك فإن اللوحات التي أستخدمها العرض للشخصيات الأساسية والتي كانت تحتل خلفية
المسرح حيث أعتمد على تأكيد وجود شقوق و شروخ تحيط بصور الأم و كلوديوس على عكس
الحائط الذي يحمل صورة الأب هاملت وهو تصور تبسيطي و مسطح للفكرة التي يحاول العرض
طرحها .
أن كل ذلك القلق وعدم التناغم الذي شغل الصورة فإن
المعالجة النصية التي قدمها العرض كان من الممكن أن تقوم بتخفيض حالة القلق و
التشتت التي نتجت عن الصورة المسرحية التي شغلت بعناصر غير داعمة للتوجه الأصلي
للعرض ، لكن نص العرض أنجذب نحو أتاحة فرصة للمونولوجات الطويلة و غير الفاعلة
أحياناً في تأكيد الطرح الذي كان يهدف لتحقيقه .
أن تلك التناقضات التي أنتجها العرض و التي وجدت
أنعكاسها في الإضاءة و الملابس في بعض مناطق تنفيذ العرض أدت بالتأكيد لتشويش و
أضعاف الكثير من نقاط قوة العرض و مناطق تماسكه مثل الأداء التمثيلي الذي كان
العرض الذي كان أحد الرهانات الأساسية للعرض والذي عكس تميز العديد من العناصر
التمثيلية في العرض (خاصة في الأدوار الأساسية) فالمؤدين كانوا يعانون في كثير من
مناطق العرض من صعوبات الحركة نتيجة تحول السجادة الحمراء لعائق خاصة في النصف
الثاني من العرض.
في النهاية ورغم كل تلك الأزمات التي تحدثنا عنها يبقي
لعرض هاملت للمخرج محمد فاروق ولمجموعة العمل ذلك الطموح نحو التنقيب في نص
كلاسيكي و معقد مثل هاملت ومحاولة أستخراج مستويات أكثر عمقاً من الإطار الحكائي
معتاد لنص هاملت .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق