ربما تكون الكتابة عن مثل ذلك النوع من العروض -
التي تقدم نفسها كأستعراض تقني وليس كمحاولة لطرح رؤية للعالم أو محاولة
الإشتباك معه - من الأمور السهلة و اليسيرة إذا ما أنطلقنا في تحليلها من حيث الألعاب
التقنية التي تحاول أستعراضها و تقديمها وبالتالي تقيمها بالقياس إلي نموذج مثالي
يقبع في عالم مثالي وفي زمن ومكان يتم تحديدهم بدقة في بعض الأحيان (ولعل ذلك
النموذج المثالي المتخيل بالنسبة لعرض أترك أنفي من فضلك للمخرج أسلام أمام هو
تقنيات الكوميديا دي لارتي التي تنتمي تقاليدها لإيطاليا خلال الفترات الممتدة من
عصر النهضة وحتى اليوم) .
ولكن من ناحية أخرى فإن ذلك الحل السهل بالنسبة للتحليل التقني
ربما يخفي خلف تحديده الواضح و الحاد العديد من التناقضات و الأزمات و التداخلات
التي تجعل من تلك الألعاب التقنية تنقطع صلتها مع منشائها و أصلها الأفتراضي لتدخل
ضمن شبكة علاقات مختلفة تفقدها الكثير وتهبها الكثير أيضاً .. فكما نجد في عرض
أترك أنفي من فضلك الذي قدمه المخرج أسلام أمام على خشبة مسرح الهناجر فأن تقنيات ،
و أكسسوارات ، وأنماط الكوميديا ديلارتي تفقد صلتها بعالمها الأصلي الذي كانت تحضر
فيه ككوميديا شعبية تستهدف السخرية من أنماط أجتماعية و طبقات بعينها داخل المجتمع
الإيطالي في لحظات ميلاد المدينة الحديثة وبإستخدام موضوعات و نوعية من الكوميديا
اللفظية والمبالغات الحركية ...
ونتيجة لفقدان ذلك الأصل المفترض لتلك التقنيات - التي نجد
مثيلها في العديد من الأشكال الأدائية بثقافات المدنية القديمة حول العالم كالثقافة
المصرية على سبيل المثال - فإن ستبدو – أي
التقنيات المنتزعة من أصولها – في الأغلب الأعم فاقدة لقدرتها على تقديم رؤية
واضحة - أو متماسكة - للواقع الذي تشتبك
معه وبالتالي فإنها تختزله و تحوله لموضوع لعب تقني يحط من الواقع ومن التقنيات –
كماهو حال عرض أترك أنفي من فضلك – أو في ظروف نادرة فإنها تتفاعل بوعي أو بغير
وعي مع الواقع الذي تشتبك معه (هنا والآن) لتنتج ماهو مناهض للخطاب السائد أو
العكس .. لكنها في النهاية لن تصبح نفس التقنيات .
أن أزمة عرض " أترك أنفي من فضلك" تقبع
بالتحديد في تلك المساحة التي أختارها لنفسه وهي حالة الإستعراض التقني .. فالعرض
يشير لذاته طوال الوقت كحالة أستعراض لتقنيات أضحاك .. فبداية من الطبيعة
اللونية التي تتقاطع فيها الألوان الساخنة
و الباردة في بشكل الحادة عبر ملابس المممثلين و الديكورات .. الخ بهدف تخليق حالات لونية مبهجة و مميزة كالتفرقة
بين الفاعلين في الداخليين عائلة بيسو
وسيسو (الذهبي و القرمزي) في مقابل الأبيض و الازرق في الفاعلين الخارجيين شخصية
أليس - و الأشرار ، و الطبيب - بحيث يصير
التداخل اللوني بين العالم الصغير و المغلق والدافي والخاص ببيسو وتيسو مستقر في
مقابل من يحاولون أختراقه و تشكيله من خارجه ... وكل ذلك في أطار من البهرجة
اللونية التي تهدف لتخليق حالة من المتعة البصرية التي تستمد مرجعيتها من ألوان
عالم السيرك .
أن ذلك التناقض بين عالم الداخل و الخارج لم يتم تطويره
ليتحول إلي جزء من عملية تشكيل عالم العرض بل توقف عند ذلك المستوي و لم يحاول
عبوره أو الإستفاده منه .. حيث ظل عالقاً في أستعراض ذاته كلعبة تقنية مفرغة .
وبالتأكيد فإن ذلك أيضاً يمكن أن نرصده أيضاً في مستويات
أخرى مثل مستوي الطرز التي أعتمدها العرض بالنسبة للملابس حيث لم تنفصل فحسب عن
عالم الواقع و تحيل للثقافة الغربية -وزمن أسطوري يختلط فيه عالم المهرجين مع عالم
السيرك و الديلارتي و طرز القرن التاسع عشر .. الخ - بل أنفصلت أيضاً عن الخطاب المفترض للعرض و
الذي يتناول العنصرية العرقية الدينية و قضية التسامح .. حيث ساهمت الملابس في
عملية أبعاد و شغل بصري طوال الوقت للحد الذي تصبح فيه مشيرة لذاتها طوال الوقت
تماماً كما هو حال الأكسسوارات و الأقنعة .. وربما لا يقطع ذلك الأنفصال سوي ملابس
شخصية الطبيب التي تظهر كما لو كانت عملية تأكيد للخطاب الذي يقدمه العرض عبر
الشخصية .
بالطبع فإن الأداء التنميطي الذي يعتمد على المبالغات
الحركية و الصوتية وكذلك الأعتماد على
الكوميديا اللفظية ذات الطبيعة الجنسية – في بعض الأحيان – ربما يكون ظاهرياً
متوافق مع طبيعة العرض و ومنسجم معها لكنه يظل طوال الوقت كما هو حال معظم كافة
التقنيات و العناصر الفنية في العرض مشيراً لذاته و مؤكداً على حضور التقنيات حتى لو
على حساب ما يستهدفه الخطاب الخاص بالعرض .. فإستخدام الألعاب الصوتية و السخرية و
المبالغات الحركية لم يكن يصب في أطار توجه واضح يستهدف العرض بلوغه .. وبالتالي
فإن المشاهد المسرحية تم تخفيضها عبر ذلك الأداء الذي أعتمده المخرج ومجموعة
الممثلين لتتحول لمجموعة من الإسكتشات الساخرة التي تتنوع جودتها وفق بناء
التناقضات الكوميدية داخل المشهد .
بالتأكيد فإن تلك الأزمة التي نحاول رصدها في العرض تصبح
شديدة الوضوح عند التعامل مع النص المسرحي حيث قام نص العرض المعتمد على نص "
قضية أنوف" بالإضافة لشخصية أليس من قصة "أليس في بلاد العجائب" و الأنماط الكوميدية .. الخ بالقفز فوق المساحات التي
يمكن فيها التوقف لتحليل العلاقات والتشابكات ومواطن الصراع ، فأصبح ظهور بعض
الشخصيات من العدم "كالأشرار" أمر طبيعي ، فالمستهدف هو الإستعراض
التقني حتى لو كان هؤلاء الأشرار قادمين من العدم أو لم يتم تعريف المتفرج بطبيعة
علاقتهم بالساردة أو موقعهم داخل عالم الحكاية أو طبيعة علاقتهم بالحدث ...
وبالطبع يمكن أن ينطبق ذلك على أليس التي تتحول من ساردة منفصلة عن عالم الحكاية
في البداية إلي متورطة و جزء من عالم الحكاية الداخلية دون مبرر واضح أو سبب
وجيه ، وهو نفس الأمر الذي يمكن أن نلمح
أثره في استخدام الأقنعة و العرائس ... فلا شيء هناك سوى التقنية التي تستعرض
ذاتها والتي يتحول أمامها العالم الذي تقوم ببنائه إلي حمل جانبي .
ولكن في النهاية فإن ذلك الحمل الجانبي يبتلع التقنية و
عالمها إلي داخله و يحولها إلي تناقض عميق
و مشوه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق