خلال السنوات الأولي من عمر السينما ظلت عروضها تقدم في المقاهي وأماكن أعدت على عجل ودون تنظيم صارم لأماكن الجلوس – وأحياناً بدون تنظيم من الأسس – حيث ظلت العروض السينمائية لسنوات تقدم كنماذج للتطور التقني والتكنولوجي تماماً كما كانت تقام عروض أستعراضية لتوليد البرق و الصواعق عبر أقطاب كهربائية في القرن التاسع عشر ، فالكهرباء و الكيمياء و التقنيات الحديثة من المنجزات التقنية و العلمية كانوا يعاملون حتى بدايات القرن العشرين معاملة العجائب والألعاب السحرية التي تقدم في المعارض العامة و داخل خيم السيرك .
وبالتأكيد فإن نوعية العلاقة مع المتلقي السينما في ذلك الوقت كانت تعتمد على الأبهار التقني لأمكانية تقديم مشاهد من الطبيعة أو لقطات لخروج عمال المصانع أو حركة السير في شوارع لندن و باريس المزدحمة ، بحيث يكون الصوت البشري الحي المصاحب للصورة الصامتة هو عنصر الأداء الأكثر حيوية و فاعلية في تشكيل وصياغة المشاعر العنيفة والقوية المرتبطة بدهشة المتفرجين من تلك الصور المتحركة ، فالصوت البشري الحي و الموسيقي كانوا العناصر الأدائية ذات الطابع الفني التي لجاء إليها السينمائين الأوائل لتحقيق إطار فني لعروضهم التقنية . لكن الصوت البشري السارد و الموسيقي قاما – بشكل تلقائي - بتشكيل أفق فني لتلك الألعاب التكنولوجية المدهشة التي فقدت تدريجياً قدرتها على الأدهاش و أثارة مشاعر القلق و الخوف و الرهبة في نفوس المتابعين لها .. الأمر الذي أنقذ تلك الألعاب التكنولوجية (الصور الضوئية المتحركة) من الخفوت وأنصراف متابعي المنجزات التقنية الحديثة عنها لمتابعة غيرها من التقنيات الحديثة التي أصبحت تظهر كل يوم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
في النهاية فقد نجحت السينما بسبب الإمكانيات السردية التي ينتجها تتابع الصور في تطوير ذاتها عبر الإمتزاج الفنون الأدائية التي شكلت الإطار الأدائي للعروض الأولي ، وبالتالي فإن السينما في النهاية أستطاعت أن تخرج من المعارض و خيمة السيرك و المقهي و المنتزهات العامة و تحتل قاعة العرض المسرحي وتزيح المسرح لصالحها ، فمنذ صعود الطبقة البرجوازية نمت خشبات المسرح الإيطالية التقليدية (فتحة البروسنيوم) وسيطرت على أسلوب تصميم القاعات المسرحية فتطورت التصاميم الهندسية و الطرزية للقاعات ، و ظهرت الخشبات المرتفعة و المنفصلة عن قاعة المتفرجين ، كما ولدت المقاعد المريحة و المخملية التي يتم توزيعها داخل المبني حسب سعر التذكرة بحيث تتنوع زوايا الرؤية - و مجالها و ألمامها بتفاصيل المشهد - وبالتالي بعمليات التلقي للعمل المسرحي تبعاً للموقع الطبقي والأقتصادي داخل المجتمع الرأسمالي.
وبضربة واحدة أستولت السينما – ذلك الفن الوليد – على كل ذلك التاريخ من التطويرات و الإضافات التي أنتجها الوعي البرجوازي و أضافها لقاعة العرض المسرحي ، فتم تركيب الشاشات العملاقة أمام متفرجين تم توزيعهم فوق مقاعد مخملية وفق سعر التذكرة ، وهو ما مثل أستجابة لعدد من العوامل الأساسية .. في مقدمتها العامل التقني الذي يفترض مجموعة من الضوابط و الشروط الخاصة بحجم الشاشة و موقعها من جهاز العرض و مقدار المسافة المفترضة لأقرب متفرج من الشاشة وكيفية توزيع الصوت .. الخ. وهي شروط وضوابط جعلت من النموذج المعماري لقاعات المسارح التقليدية مثالية لتقديم العروض السينمائية سواء تلك التي كانت تستخدم لتقديم عروض مسرحية أو تلك التي بنيت بشكل مخصص للعروض السينمائية و التي تخلت عن الكواليس وعمق خشبة المسرح و الأسقف المرتفعة والعالية التي تتيح رفع و أخفاء المناظر المسرحية ، وكذلك أختفاء "البنوار" – أو الغرف المخصصة للمتفرجين – لعدم ملائمتها لزوايا الرؤية السينمائية حيث تم أستبدالها بمقاعد مميزة في الصالة .
ولكن إلي جانب ذلك العامل الأساسي المرتبط بالعوامل التقنية فإن صالة العرض لم تتعرض لكثير من التعديلات على مستوى التصور البرجوازي لدار العرض ..حيث ظل التقسيم القائم لمواقع جلوس المتفرجين مرتبط بسعر التذكرة – وليس بالأنتماء الطبقي كما كان الأمر في العصر الأرستقراطي- و ظل ذلك الأهتمام المتصاعد بالكراسي الجلدية و المخملية المريحة و المتلاصقة .
ولكن لماذا تم ذلك الإنتقال من المقاهي و المعارض إلي قاعات مسرحية مظلمة .. ربما يمكن أن نجد الأجابة في نمو الصناعة السينمائية وأنتشارها عالمياً وهو الأمر الذي جعل من الضروري أخضاعها لمجموعة من القواعد في مقدمتها أنتزاعها من الفضاء العام إلي فضاء خاص وبالتالي السيطرة عليها كظاهرة كما حدث مع المسرح من زمن أبعد ، وثانياً أرتباط الطبقة البرجوازية بالسينما التي رأت فيها فن أكثر خصوصية من المسرح الذي بطبعه يميل للجانب الأحتفالي حيث تتأكد المزامنة و الحضور المشترك للمتفرجين و العرض في كل لحظة ، كما رأت فيه البرجوازية فن أكثر سهولة و أيجازاً من الرواية التي أستطاع أن يمتلك حيويتها وعدم تقيدها بحدود كما هو حال المسرح ، فالسينما تتنقل بين الجبال و المدن .. بين الشوارع و الأزقة و الشقق السكنية كحال الرواية ولكن دون الزمن اللازم للقراءة وبيسر أكبر .
وأخيراً فلقد وجدت البرجوازية الفن الأكثر تعبيراً عن وعيها بالعالم .. فقاعة السينما المظلمة والفاصل الزمني و المكاني بين المؤدي والمتلقي تحقق أقصي درجات الخصوصية و تتيح متعة التلصص و مراقبة العالم من مكان أمن و مريح .
من جانب أخر ففي ذات الوقت الذي كانت فيه تحل محل المسرح في المرتبة الأولي بالنسبة للفنون الجماهيرية ، فإن المسرح أعاد أكتشاف ذاته فتمرد على خشبة المسرح الإيطالية التي تفصل بين المتفرج و العرض ، كما تمرد على البنية الحكائية للدراما و أتجه إلي أدماج المتفرج وتحويله لمشارك. ..
لقد أدرك المسرح مبكراً أن المتلقي البرجوازي قد وقع في أثر السينما التي حققت له أقصى درجات الإندماج العاطفي والتوحد مع العمل الفني والخصوصية خلال عملية التلقي ، وبالتالي فإن المسرحيين أعتمدوا بشكل كبير على تحطيم الحائط الرابع و تفتيت خصوصية المتلقي و تحويله إلي جزء من جماعة تتشارك في أنتاج العالم الأدائي وعالم المعني فنجد البرشتية و مسارح الدادية وحتى مسارح ما بعد الحداثة .
لقد أفترق الطريق بين متلقي المسرح و السينما ففي حين ذهب الأخير صوب عالم الأحلام ولذة السرديات السينمائية الكبرى.. أتجه المتفرج المسرح نحو المشاركة والحضور الواقعي والمتعين في المسرح .
بالمجمل فإن أي عملية للتلقي في السينما تظل مرتبطة بحدود الشاشة الكبيرة التي تحمل صور ملونة و حكايات كبيرة في مقابل المسرح الذي تخلى عن الحكايات وأتجه إلي ما هو مشترك و جمعي و عام و حي ... وبالتالي فنحن نجد جمهور السينما أكثر حماسة لها وكراهية للمسرح .. فالمسرح مكشوف .. مشترك .. حي ... بينما يميل متلقي السينما إلي المكتمل والخاص و المحدود والمغلق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق