الأربعاء، سبتمبر 21، 2016

التجريبي .. الصراع الذي أنتج واقع مختلف


في أطار مذكراته عن تكريمه من قبل المهرجان القومي للمسرح عام 1989 قدم الكاتب الكبير سعد الله ونوس للقائه مع وزير الثقافة الشاب (في ذلك الوقت) فاروق حسني
"قلت له: المشكلة في البلاد العربية انها حولت وزارات الثقافة الي ملاحق لوزارات الاعلام.. وأن العمل الجاد ينبغي أن يركز علي الأساسيات، وعلي بناء ثقافة تستمر وتتنامي. وأن هذه الموالد والمهرجانات لا تخدم الثقافة إلا قليلا بل هي تتحول الي عبء علي الثقافة. لكنه انبري للدفاع، وقال انه يخلق الأسس لصناعة ثقافية منتجة، وأنه بتسويق هذه الصناعة سيغطي نفقات بناء ثقافي مستقبلي"
أن ذلك الصراع بين الخطابين المرتبطين بالموقف من مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي كمعبر عن السياسات و التوجهات الثقافية للدولة المصرية ممثلة في وزارة الثقافة يظل هو الصراع الأساسي و المركزي الذي تدور في أفقه كافة المعارك الضارية التي تبدأ و تنتهي كالعادة أما بأتهام وزارة الثقافة بأنها وزارة مهرجانات و موالد ثقافية لا تخترق السطح نحو تفعيل تنمية ثقافية حقيقية للمجتمع ، وأما بإتهام أعداء المهرجان بأنهم مجموعة رجعية لا تستطيع أستعياب الدور الكبير الذي قام به المهرجان التجريبي - وغيره من الفعاليات الثقافية- في تطوير المسرح المصري و تقنياته و فعالياته .
أن ذلك الصراع ربما يقودنا بالتأكيد إلي البحث في مركز ذلك الصراع الذي ربما يبتعد قليلاً عن المحور الرئيسي لذلك الملف الذي تقدم له جريدة مسرحنا لكنه من جانب أخر يكشف الكثير من المعضلات التي ترتبط بالفعالية الأهم و الأكبر في حركة المسرح المصري خلال ما يقرب من ثلاثون عاماً (التجريبي) الذي لا يمكن التعامل معه فقط كمهرجان لتقديم العروض المسرحية بل كحركة ترجمة و نشر و ساحة للتدريب والتطوير لكافة العناصر الفاعلة في حركة المسرح المصري بمختلف أنماطه الإنتاجية وتوجهاته الفنية و الفكرية .
أن التوجه الذي قادته وزارة الثقافة في عهد (فاروق حسني) – و الذي لم يزل قائماً بالدفع الذاتي حتي اليوم- يمكن أن نستنتجه من دفاع الوزير عن المهرجان من خلال طرحه للسياسات التي يرتبط بها ويقوم عليها وهي " تخليق صناعة ثقافية بتسويقها يتم تغطية نفقات بناء ثقافي مستقبلي ".
أن ذلك الطرح ينطلق من التعامل مع المشروع الثقافي الأساسي لتحقيق تنمية ثقافية مستدامة و فاعلة في المجتمع المصري كمشروع مؤجل لما يكتنف تنفيذه من صعوبات أقتصادية و مالية مرتبطة بالأوضاع الأقتصادية المتدهورة للدولة المصرية التي لم تستطع تجاوزها حتى اليوم ، وبالتالي فإن البديل الذي قدمه فاروق حسني كان تحويل الثقافة إلي صناعة من خلال المهرجانات و الفعاليات ذات الصبغة العالمية و المحلية التي تساهم في تحقيق عوائد مالية و ثقافية سريعة تسهم في تدعيم و تقوية الأرض وأعطاء فرصة لعمليات البناء الأكثر عمقاً والبطيئة بحكم تكوينها و طبيعتها .
أن ذلك المشروع الذي تعرض للكثير من النقد و الذي هوجم أكثر من مرة تحت عناوين مختلفة أهمها أنه مسرح سياحي يهدف لتحقيق جذب سياحية و تدعيم الصورة الذهنية لمصر كبلد أمن في مقابل الصورة التقليدية التي تم ترسيخها عبر عقود طويلة كبلد يتعرض لمخاطر عالية من قبل الجماعات المتطرفة في الداخل و الحروب المحتملة مع أسرئيل و غيرها من دول المنطقة .
وبالتالي يصبح المشروع موجه بالأساس للخارج و غير عابئ بالداخل ، فلا الفقراء و لا رجل الشارع قادر – أو مهتم – بتلك الفعالية الثقافية المتعالية التي تهتم بإستعراض أحدث التوجهات الفنية والتطبيقات التقنية في العالم ، تلك التوجهات و التقنيات التي ربما هي معزولة وتقام داخل مختبرات فنية في بلادها الأصلية بمعزل عن الواقع .
أن ذلك التوجه نحو تحويل الثقافة إلي مشروع رأسمالي ، يستهدف الربح لصالح مشروع حقيقي مؤجل ، لاقي الكثير من المقاومة من الحركة الثقافية المصرية ذات التوجهات اليسارية في معظمها و كذلك من قبل الدولة المصرية ذاتها التي كانت ولازالت تتعامل مع ذاتها كدولة راعية تستهدف تنمية المجتمع في مقابل الحريات العامة التي تقوم بمصادرتها وحجبها لما تمثله من خطر على تنفيذ المشروع الحداثي للدولة.
وبالتالي صار من الطبيعي أن يتم التعريض بالوزارة  عبر نعتها بأنها وزارة المهرجانات و فرع لوزارة الإعلام .
ولكن في مقابل ذلك فإن المهرجان التجريبي نجح في تحقيق رهان ربما لم يكن في ذهن الوزير أو النظام ذاته ، حيث أدت تلك الفعالية الكبيرة ذات التوجه الإحتفالي المركزي الموجه إلي الخارج و الانتلجنسيا المصرية  إلي حدث شديد التأثير و الفعالية في واقع المسرح المصري ، حيث ساهمت تلك الصدمات القوية و العنيفة لتجارب المسرح العالمية في تفتيت الكثير من القناعات و الثوابت الفنية التي تم الترسيخ لها عبر الموجتين الكبيرتين في تاريخ المسرح المصري وهما (حركة المسرح في العشرينات) و (حركة المسرح في الستينيات) .. فكما أنجذبت حركة المسرح في العشرينيات نحو المركزية الغربية و أعتمدت الأقتباس و التمصير كتقنية أساسية ، وكما ساهمت مرحلة الستينات في الإستفادة من التقنيات و المناهج المسرحية في الغرب مع التمرد على المركزية الغربية ، فإن التسعينيات والتجريبي ساهما في تخليق أرتباط بمواقع أكثر أختلافاً وأتساعاً في حركة المسرح بعيداً عن المسرح الأوربي حيث أصبحت تجارب المسرح في أمريكا اللاتينية و أسيا و أفريقيا تحظي بمساحة واسعة كما أسهمت الأضافات التقنية في تخليق حساسية جديدة وجدت لنفسها أرضاً جديدة في مسارح الشباب في المسرح المستقل ونوادي المسرح .. الخ .
لقد عبر المسرح المصري مع التجريبي الذي لم يكن أكثر من مشروع ثقافي ذا صبغة صناعية في توطين مسرح جديد و مختلف في المسرح المصري لم نزل نحيا في نتائجه حتى الأن .
كذلك فإن حركة الترجمة التي صاحبت المهرجان ورغم محدوديتها و أنغلاقها وطابعها الأكاديمي صبت في تخليق وعي مختلف بعد أن ركدت حركة الترجمة بعد نهاية الستينيات ، حيث أوجدت مساحات جديدة أمام أجيال جديدة من النقاد المسرحيين الذين لم يعودوا مرتبطين بالتقاليد النقدية التي تم الترسيخ لها أكاديمياً لعقود طويلة ، مساحات دفعت بهم إلي أن يكونوا جزء من واقع الحركة النقدية العالمية و توجهاتها .
بالمجمل لقد فشل مشروع فاروق حسني ولم تنجح الصناعة الثقافية التي حلم بها العوائد المبتغاة منها نتيجة لأسباب سياسية وأقتصادية وأجتماعية داخلية و أقليمية معقدة ، لكنها لم تتحول إلي مولد مسرحي منفصل عن الواقع كما كان يذهب الكاتب الكبير سعد الله ونوس .. لقد أنتج الواقع قوانينه و فرض شروط على الجميع للحد الذي أصبحنا فيه نتعامل مع نتائج التجريبي و نقوم بتحليلها وليس الحكم عليه كفعالية .

   

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...