السبت، سبتمبر 10، 2016

ما زال الناقد حياً


قبل ثلاث سنوات نشرت لي جريدة مسرحنا مقال بعنوان "موت الناقد المسرحي"  كنت أنطلق فيه من سؤال كان ساعتها  – ولازال -  يطرح نفسه على واقع الحركة النقدية في مصر  وهو هل بقي شيء يمكننا ان نراهن عليه لإنقاذ مهنة الناقد المسرحي من الانهيار أم أننا قد أصبحنا أمام التداعي النهائي لمهنة هامشية لا يحتاج لها الواقع ؟
أن ذلك السؤال كان يتعلق ساعتها – كما يتعلق اليوم – بالظروف المادية و المهنية التي تحيط بمهنة النقد المسرحي و تمنع المهنة من التطور والنمو بشكل طبيعي  في ظل تراجع الأوضاع المالية للمهنة التي تتعلق بشكل أساسي بالسياسات المالية لوزارة الثقافة تجاه مطبوعاتها المسرحية و النقدية ، السياسات التي تفرض منذ منتصف الألفية أن لا يكون هناك سوي مطبوعة واحدة اليوم  - جريدة مسرحنا-   تتبني مشروع واضح المعالم تجاه تنمية هذه المهنة و البحث عن أكتشاف و دعم العناصر الأكثر موهبة  ، مطبوعة واحدة مهددة طوال الوقت بأن يتم أيقافها كما سبق أن تم أيقاف مجلة المسرح المتعثرة منذ زمن طويل ، وهذا في ظل  تراجع حضور المهنة لدرجة التلاشي في كافة المطبوعات الصحفية و النقدية التي تصدرها الدولة أو المؤسسات الصحفية القومية والمستقلة .
لكن اليوم يبدو أن السؤال صار أكثر قسوة و عنفاً خاصة عندما بدأ الواقع المسرحي و الثقافي في أتخاذ مواقف أكثر حده وعنفاً من النقاد سواء كسلطة تمتلك القدرة على التصنيف والتحديد والتقييم للتجارب الإبداعية ضمن سلاسل الجودة و الحرفية  الفنية و الأنتاجية ، أو التيارات الأكثر رجعية التي ترى أن العالم قد توقف عند حدود بعينها و يجب أن يستمر في الدوران داخل تلك الحدود و عدم تجاوزها .
أعتقد كبداية أنه ليس من الهام – أو المجدي-  التوقف طويلاً أمام العديد من التصريحات العنيفة والحادة لمبدعين و مسئولين  ضد مقالات بعينها أو أسماء بعينها .. ذلك أن تلك التصريحات الغاضبة ليست في حد ذاتها سوى عرض جانبي لمهنة النقد يمكن أن نضيفها بسهولة  لسلاسل المقاومة لسلطة النقد التي تتجلى كوحش كاسر  بالنسبة للمبدع الذي لا يري في العادة فارق كبير بين ذاته و ما ينتجه من أبداع . وحش يستمتع بإلتهام المبدعين في أوقات غضبه بنفس الحماسة التي يحملهم فيها على ظهره في أوقات أخرى . 
لكن ما يمكن التوقف عنده هو ذلك  التوجه المتصاعد نحو نفي تلك السلطة النقدية  عبر نسف كل تراكم و تسفيه كل تجارب بإستخدام أسهل السبل لتحقيق ذلك وهو تكنيك العودة نحو ماضي مكتمل وتجارب منتهية و محاسبة الواقع بقوانين التي لم تعد صالحة بحكم الزمن  حيث تبدلت الظروف و صارت القواعد أكثر قسوة ، بينما التجارب النقدية التي تتم مهاجمتها لم تزل في طور التخلق ، أن ذلك الأسلوب سهل و معتاد و تقليدي في التعامل مع كل مختلف و جديد خاصة إذا ما كان ذلك المختلف ليس ممتلك للقوة الكافية للدفاع عن حضوره في الواقع و المستقبل لأسباب تجعل من مهنة النقد مهنة طاردة و تحولها لهواية مكلفة مادياً و معنوياً  بالنسبة  لممتهنيها .
ولكن ربما كان من الطبيعي أن نحاول تفهم ذلك الغضب الثورة ضد النقد بشكل عام .. ولعل أول ما يمكننا التوقف عنده هو التراجع العالمي لسلطة الناقد كمقيم و مفسر في مواجهة صعود و نمو دور المتلقي الذي أصبح بدوره قادر على أيصال أنطباعاته عبر وسائل التواصل الإجتماعي و المدونات كما أشار "رونان ماكدونالد" ، وبالتالي أصبح من الممكن رفع شعارات من قبيل أن المسرح للجمهور وليس للنقاد .. وهو قول يحمل الكثير من الصدق لكنه يأتي هنا دائماً كوسيلة لتفتيت النقد و تحويله لمجرد أنطباع أخر يمكن أن يضاف إلي ركام الإنطباعات التي ينثرها المتفرجين حول العرض على وسائل التواصل الإجتماعي أو بعد العرض .
وبالتالي يمكن أن نتفهم ذلك الغضب و تلك الثورة ضد النقاد كجماعات تحتكر المعني و القيمة بحكم موقعها المتعالي .
ولكن هل يكفي ذلك لتفهم ذلك الغضب و لتفسير عمليات التسفيه التي يتم أشاعتها ؟! بالتأكيد أن ذلك التفسير يمكن أن يحل الكثير من الأزمات لكن يبقي دائماً إلي جواره الطبيعة التنافسية التي تسود المسرح المصري ، و هي تنافسية أيجابية في حد ذاتها لكن لو ممدنا النظر قليلاً  لرأيناها تعبر عن واقع مكتظ بالتجارب التي تصل حسب البعض إلي ما يزيد على 2000 عرض سنوياً في ظل عدم وجود مسارح و ضعف أنتاجي ..  وبالتالي يصبح الصراع على الحضور في المشهد المسرحي خاضع في كثير من الأحيان لتلك النظرات العابرة  للنقد التي قد لا تتوقف عند المقال النقدي فحسب .. بل يمكن أن نضيف إليها لجان التحكيم و المسابقات المسرحية و المهرجانات .. الخ
أن الناقد هنا هو جزء من تلك الألة الضخمة التي تطحن عظام المبدعين وبالتالي فإنه يتحول إلي صورة العدو
وتبقي في النهاية حالة الثورة و الغضب المتنامي من النقد كتجسيد لصورة الأب القاسي الذي يعاقب و يمنع و يمنح و التي تنتج مقولات من قبيل أن الناقد هو مبدع فاشل أو أن النقاد مجموعة من المثقفين المنعزلين عن واقع المهنة
ولكن هل يكفي كل ذلك لتدمير مهنة النقد و دفعها إلي حدود ضيقة .. سواء عبر التسفيه و المهاجمة من المسئولين الذين يتحللون من أدوارهم تجاه النقد عبر مهاجمته و نعته بالخفة كما لو أن الدولة غير مشاركة في صناعة المشهد النقدي و المسرحي بسياساتها التقشفية المتصاعدة ؟!
المسرح المصري  يعاني من أزمات حقيقية .. ليس أهمها بالتأكيد محاسبة النقاد على خطايا واقع بأكمله


ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...