الأحد، مارس 10، 2024

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم


يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلالاته واضحه ، أنها مباره لكرة القدم بين فريقي القمة تتم محاكاتها فوق خشبة المسرح ، لكن يبدو أن منتجي العرض لم يكتفوا بتلك المحاكاة الساخرة التي تجعل المتفرج يبتسم عند رؤيته للسمات الجسمانية المميزة للممثلين والتي تسخر بشكل مباشر من ضعف اللياقة البدنية لدي لأعبي الفريقين ... لقد أضافوا عدد من المتغيرات على الملابس والزمن حيث يشير المشهد بشكل واضح إلى أن اللقاء الرياضي يتم في زمن الجاهلية في صحراء جزيرة العرب ، فاللاعبين يحملون أسماء تحمل ازدواجية فهي تشير بشكل مباشر للاعبين بعينهم بالإضافة لأسماء عربية عتيقة (بن الحكم ..أبو لهب ..الخ) ، ومن جانب أخر فإن العرض يحيل عن طريق الشريط الصوتي إلي الأفلام المصرية الكلاسيكية التي تناولت عصر صدر الإسلام والسيرة النبوية من خلال نشيد (نحن غرابا عك عك.. عك إليك عانية .. عبادك اليمانية) بكل ما يحمل النشيد من أشارات واضحة لزمن عبادة الأوثان في مستوى أول والأداء التمثيلي القائم على المبالغات الأدائية الذي ميز الأفلام الدينية التي يحيل أليها النشيد في مستوى ثان، وإلي جوار ذلك بالتأكيد سوف يستعيد المتفرج السخرية من ذلك النشيد أو استخداماته للسخرية من مواقف أو أشخاص ... الخ في مستوى ثالث.
عند هذا الحد سوف يبدو الأمر معقد إلي حد كبير لكن العرض يضيف شخصية درامية تحتل منتصف عمق خشبة المسرح في المسافة الفاصلة بين الفريقين وتواجه المتفرج وتتحدث إليه، أنه المعلق الذي يقدم المباراة ويصف الفريقين بالكفار تماما كما يصف جمهور ذلك اللقاء الكروي الغريب ، وبالطبع فإنه يستخدم الأساليب الأدائية والتراكيب اللغوية التي يلجأ إليها المعلقين ، وبالتدريج تتصاعد الكوميديا مع الأسطر الحوارية التي يتبادلها الفريقين والتي تستعيد اللغة المتشددة والنابية والأوصاف والنعوت المسيئة التي يتبادلها مشجعي فريقي الأهلي والزمالك على وسائط التواصل الاجتماعي الالكترونية ...
ربما يكون ذلك الوصف لمشهد كوميدي بسيط التكوين هو نموذج مثالي للمحاكاة الساخرة أو (الباروديا /Parody) فالمشهد يعتمد على محاكاة لفنون ومظاهر أدائية (ممارسة كرة القدم – التعليق الرياضي-الإلقاء المفخم والخطابي، الأوضاع الجسدية التي تحيل لمرجعيات جادة، الشريط الصوتي الذي بمجرد دمجه مع المشهد يفقد موقعه والأدوار التي كان يقوم بها في زمن الجاهلية أو في الفيلم الديني ... الخ). وإلى جانب تلك المحاكاة الساخرة من تلك الأدائيات الجسدية والصوتية فإن المشهد يقوم بعمليات محاكاة ساخرة على مستوي أخر وهو مستوي التركيبات اللغوية ودمج لغة والتقاليد الفنية للشعر العربي القديم، مع لغة وخطاب الأفلام الدينية، مع لغة وخطاب معلقي كرة القدم، واخيراً لغة وتعبيرات مشجعي كرة القدم على مواقع التواصل وفي المدرجات.
أن المشهد يمثل نموذج معقد للمحاكاة الساخرة ويستنفذ مجال عملها تقريباً فهو يقوم بمحاكاة ساخرة لأساليب الأداء الجسدي والصوتي المميزة للسينما الكلاسيكية والأدائيات المرتبطة بكرة القدم الحديثة والتقاليد الكتابية والفنية للشعر العربي القديم ... سخرية تطال ما يحاكيه المشهد بقدر ما تطال المستهدف بالسخرية وهو التعصب الكروي. أن المشهد لا يحمل خطاب معقد –في السطح على الأقل-فهو يستهدف السخرية من التعصب الكروي ... موضوع بسيط ويمكن أن يقدم بطرق أكثر سهولة بكثير مثل أن يعتلي محاضر خشبة المسرح ويقف بداخل بؤرة ضوء وينطلق في الحديث عن التداعيات السلبية للتعصب لفريق كرة قدم ويقوم بمقارنته بالتعصب الديني أو العرقي ... الخ لكن هذا المحاضر لن نستطيع وصفه بالممثل ... وما سوف يقدمه لنا لن نستطيع وصفه بالمسرح. وبالتأكيد فإننا لن نضحك أو ننجح في إيجاد علاقات بين التعصب الديني والقبلي وبين تشجيع فريق لكرة القدم بذات السهولة التي يتجلى بها لنا الأمر في المشهد المسرحي ... بالطبع يمكن للمحاضر أن يحدثنا عن عمليات استغلال وتنمية مشاعر العداء والكراهية وسيادة التعصب الكروي ... لكننا لن نرى كيف يقوم المعلق (على سبيل المثال) بتنمية ذلك العداء عبر اللغة التحريضية التي تقوم المحاكاة الساخرة بإبرازها وكشف التناقضات التي تقوم عليها والتي تستخدمها. وفي النهاية فمن المؤكد أننا كنا سوف نشعر بقدر كبير من الممل والتشتت وفقدان التركيز عندما يتمدد زمن المحاضرة بينما لن نتوقف عن الضحك لمدة خمس أو سبع دقائق كاملة هي زمن المشهد عند تقديمه على خشبة المسرح.
تلك هي مصادر قوة المحاكاة الساخرة وسبب حضورها الدائم في تاريخ المسرح ، حيث يمكننا أن نجد أثارها منذ زمن كتاب المسرح الإغريقي حين يقوم كاتب الكوميديا الإغريقي أرسطوفانيس بمحاكاة أسلوب كاتب تراجيدي كبير مثل يوريبيدس للسخرية منه ومن التيار الفكري الذي يمثله حتى ينتصر لأفكاره الرجعية والمحافظة.
كذلك يمكن أن نجد أثارها في المسرح الحديث عند ألفريد جاري في "أوبو ملكاً" وهو يعيد أنتاج نص كلاسيكي لشكسبير (ماكبث) في محاكاة ساخرة قاسية في سخريتها من التصورات الأخلاقية للطبقة البرجوازية وخيارتها الجمالية ... الخ.
يمكننا أن نجد المحاكاة الساخرة في بعض عروض فرقة مسرح مصر التي تم فيها تقديم محاكاة ساخرة للمسلسلات العربية الحديثة بحيث يتم تمزيق الأداء المفتعل والأوضاع الجسدية المتصلبة والصبغة الميلودرامية للمسلسلات عبر تلك المحاكاة الساخرة التي تقوم على تأكيد وتضخيم التناقضات، كما تنزع بقسوة الحالة العاطفية القوية التي يغرق فيها المتفرج عند متابعة الأعمال الفنية الأصلية.
أن ما يجمع كل تلك الحالات المتناقضة في قيمتها الفنية - وعصور انتاجها-  من أرسطوفانيس وحتى مسرح مصر هو التكنيك الذي تستخدمه المحاكاة الساخرة والذي يمكن أن نجده في ذلك المشهد الذي أخترناه كمثال من مسرحية كركيب دماغ لفريق نادي مسرح دمنهور والذي قدم هذا العام ، تكنيك قائم على أعادة أنتاج الأداء والصوت واللغة بعد القيام بعملية أزاحه بسيطة وعميقة تحافظ على حضور الأصل طوال الوقت ماثلاً أمام نظر المتلقي ، لكنها في نفس الوقت تنتزع مصادر تأثيره الجمالي أو العاطفي على المتلقي وتقوم بحذفها أو تحيدها بما يسمح للمتدين أو المتعصب لفريق كرة قدم بمشاهدة الخطاب الذي يمتلكه ويشكل حياته وهو يتم نقضه وتمزيقه على خشبة المسرح بينما هو يضحك ...
ربما يكون السؤال المتبقي لنا هنا هو محاولة اكتشاف سر ذلك الميل المتنامي بين فناني الكوميديا حاليا في البرامج الكوميدية التلفزيونية أو في المسرح أو في حتى في السينما إلى اللجوء إلى المحاكاة الساخرة؟
ربما يصعب أيجاد أجابه موحدة لذلك السؤال الكبير والمعقد والذي ربما يحتاج إلى ما هو أكثر من مقال لتفسيره وتحليله، لكن وبشكل عام يمكننا أن نتوقف أمام أهمها وهو مقاومة حالة النوستالجيا المتفشية حالياً نتيجة سيادة الرؤى الرجعية التي تبحث في الماضي عن إجابات وحلول لأزمات الحاضر ... حيث تمثل حالة السخرية من الأداء الكلاسيكي بالأفلام المصرية في الأربعينيات والخمسينيات وحتى التسعينيات مورد أساسي للمحاكاة الساخرة حيث يتم تحطيم أسطورة الماضي المثالي عبر تحويله إلى موضوع للضحك وبالتالي الشفاء من الحنين العاطفي للماضي وهو ما يمكن تطبيقه على الاستعادة الساخرة لأغاني مشهورة عبر تبديل كلمات الأغنية ..
لكن هل هذا الهدف التقدمي يمكن تحويله لقاعدة؟ بالطبع لأن هناك أهداف أخرى مثل الاستفادة من شهرة العمل الأصلي للترويج للعمل المحاكي أو محاولة الالتفاف على الرقابة، أو حتى الهروب من مواجهة قضايا الواقع عبر الغرق في السخرية من الماضي، أو تحويل السخرية إلى ماكينة عدمية قادرة على التهام كل شيء واي شيء .

السبت، سبتمبر 23، 2023

أما بعد .. أرواح تئن خلف قيود الجماليات السائدة

 

منذ عام وفي إطار مشاركتي ضمن لجنة اختيار العروض المصرية المشاركة في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي برزت أمامي ملاحظة بدت ساعتها مدهشة ومثيرة للفضول وهي أن هناك انجذاب متنامي بين المسرحيين الشباب نحو أنواع الخيال العلمي والفانتازيا وهو أمر يمكن تفهمه في إطار التعقيدات الرقابية المتصاعدة التي ما أن تظهر حتى تدفع بالفنون – بشكل عام- للانحسار ومفارقة الواقع والقضايا التي تشغله ليكون البديل هو الغرق في العوالم الاستعارة التي توفر أرض أمنه للمبدعين، لكن ما كان مدهشا بشكل أكبر هو أمكانية رصد خطاب مناهض للعرقية ضد السود وهو ما يعد أمرا حميدا في ذاته لكن تكراره والتأكيد عليه في أكثر من عرض جعل من الممكن بالنسبة لي رؤيته ليس بوصفه خطاب مضاد للمركزية العرقية ولكنه بوصفه نتيجة جانبية للانفتاح على الفنون السائدة جماهيريا وتأثيرها الكبير على الفنانين الشباب ، وبدأ ساعتها أن ذلك ما يبرر انغماس الكثير من العروض في الخطابات والأنواع الفنية السائدة عالميا ، بينما وعلى أرض الواقع فإن تلك العروض خاضعة لعمليات التلقين الجمالي والسياسي التي تقوم بها المينستريم ، لقد تجلت لي ساعتها تلك الملاحظة بوصفها دليل جديد على عدم قدرة المسرح المصري على تناول ما يشغل المجتمع المصري والجمهور المستهدف وانكفائه على مواد استهلاكية خفيفة تمتلك رهانات أمنه في علاقتها بالواقع والجمهور.

لكن وبعد عام ومع استمرار وتنامي تلك الأنواع الفنية فمن الممكن ملاحظة أنها صارت أكثر قدرة على الضغط على العروض وتقنيات الأداء التمثيلي التي أصبحت أكثر انغماسا في تقاليد الأداء الواقعي النفسي الذي لا يقطع تمدده وهيمنته سوى الانفجارات العاطفية القوية ذات الصبغة الميلودرامية. لكن وفي النهاية فإن ذلك التفسير الذي كنت أميل إليه لم يعد قادر تقديم معني سوى على المستوى التقني لكن وعلى مستوي أعمق قليلا لا يمكننا من رؤية ما يشتعل تحت السطح الذي يمكن وصمه بالخفة والانخطاف لتأثيرات المسلسلات والأفلام الأمريكية الممزوجة بالنماذج الجمالية السائدة والمنقولة التي تستنسخ ذاتها في العروض المسرحية. فخلف تلك السيادة للأنواع الجماهيرية والتقاليد الجمالية المجترة يمكن أن نجد ما يفسر تلك الظواهر الفنية السائدة.

يقوم عرض أما بعد للمخرج مينا نبيل والمؤلف أنس النيلي والذي قدم ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي (زكي طليمات) بالمعهد العالي للفنون المسرحي على بناء عالم بديل يمكن فيه للشخص الذهاب لمكان يسمي المكتبة والانتقال للمستقبل عبر خط التاريخ المراد الانتقال إليه والعودة قبل دقات ساعة ما وفق شروط محددة وإلا فإن من يقوم بتلك المغامرة يضيع في الزمن بين الحاضر والمستقبل ، بالطبع لا يوجد هنا ماضي ، بل لا وجود لإمكانية العودة للماضي وفق تلك الفرضية ففي ذلك العالم لا يوجد سوى حاضر ومستقبل قائم بالفعل (حاضر مؤجل) بينما لا وجود للماضي سوى في صورة حنين رومانسي خافت عبر صور للأب والأم والتي أختار العرض أن تكون صور تنتمي للنصف الأول من القرن العشرين ومنزل والد ليلي القابع خلف ستار يموهه ويضفي عليه حالة ضبابية، عالم بعيد لا وجود له ولا أمكانية لاسترداده، في فالمقابل فأن ذلك العالم الذي شكله العرض مقيد بحاضر أبدي تهيمن عليه قوانين قدرية لا يمكن الفكاك منها ولا يمكن الهروب من أسرها .. وكل شي في كتاب سحري موجود في مكتبة عالقة في فراغ مرتفع أعلى المسرح، بينما ذلك الحاضر مقيد بخيوط تشبه خيوط العنكبوت تعلو الديكور الواقعي الذي يبدو شديد الفقر بصريا ومزدحم، حاضر لا يملك سوى البقاء أسفل تلك الهيمنة للقدر المتلاعب والمتسلط  الذي يقود الشخصيات لمصائرها مهما حاولت الهروب منه....  ربما يبدو الأمر تجسيد للتصور الديني التقليدي حول الكتاب الذي يحمل تاريخ الشخص والذي يسطر معه بل ووفق رؤى متشددة ترى القدر مكتوب قبل وجود الإنسان أصلا، أنه أمر مثير للخيال بالطبع فعبر تاريخ طويل أمتلك الإنسان ذلك الوهم بإمكانية رؤية المستقبل عبر الكتب، فالكتب ليست مجرد ناقل للمعرفة فحسب، بل انفتاح على العالم وتجاوز للحاضر، لكن ذلك العالم الذي يصنعه أنس النيلي ومينا نبيل ليس عالم البحث عن المعرفة للفكاك من الحاضر صوب المستقبل الغامض والأفضل ، أنه عالم يمتلك شروطه الخاصة فيما يتعلق بتلك المعرفة وكيفيه أقامتنا لعلاقة معها في ظل قيادة لشخصية نسائية ترتدي الأسود وتكرر ذات الشروط بشكل مستمر ودون تغيير.... الكتاب ليس مجرد كتاب أنه بوابة مشروطة للمستقبل الذي هو جزء من ذلك الحاضر الأبدي، بوابة في موقع مفارق ومتعال تنفتح نحو الحاضر دائما، حتى لو كان أسمه المستقبل. بالطبع فإن العرض يأخذ تلك الشروط بقدر كبير من الجدية من خلال التأكيد على عدد الضائعين في الزمن بين الحاضر والمستقبل عبر صوت الراديو. لا يتم توضيح معني ذلك الضياع بشكل محدد لكنه يعني بشكل عام الموت، فعدم الخضوع للذهاب المستمر للحاضر / المستقبل يعني الموت أو الفناء أو التيه الأبدي.

تبدو الفرضية الأساسية هنا مرتبطة بنوع الواقع البديل وهو ما يمكن أن يصنف العرض ضمن حالة الانجذاب للأنواع الفنية السائدة والتي يمكن أن نجد أثارها في الرواية والمسلسلات والسينما، ذلك الانجذاب الذي خلق أباء له مثل الكاتب أحمد خالد توفيق قبل أكثر من عقدين، انجذاب لمفارقة الواقع والهروب منه صوب عوالم استعارية تحقق الانعتاق من ثقل ذلك الواقع وتعيد تجسيده ضمن استعارة اختزالية تحدده وتقلصه وتسعي للاندماج للخبرة الجمالية السائدة والخضوع لشروطها.

في مستوى أول يمكننا أن نري ذلك التوجه بوصفه تخل عن المشروع السياسي والجمالي الذي حمله المسرح المصري الجاد لعقود طويلة والذي كان يحمل رؤية حداثية لصالح انغماس في عولمة ثقافية تفرض شروطها الخاصة بالأنواع والجماليات السائدة. لكن ذلك ليس سوى سطح أيضا فخلف ذلك يمكننا أن نري تلك الرؤية التشاؤمية التي يحملها العرض والتي لا تري أمكانية الفكاك من الحاضر المتداع والذي يتجه نحو موت حتمي لا يمكن مواجهته سوي بالأسي الذاتي الذي تحمله كل الشخصيات، أسى على الإمكانات المهدرة عبر الحكاية الرومانسية التي يقدمها العرض والتي يمكن تلخيصها عبر رحلة ثلاث شخصيات تمتلك ميول فنية تحاول الفرار من المستقبل المرسوم لها (الموت/الوحدة/الارتباط بوظيفة) المستقبل الذي يمكن اختزاله ببساطة في الخضوع للحاضر وقوانين الواقع، لكن في النهاية فإن تلك الشخصيات لا تمتلك سوى الأسي وقدر من الرضا الذاتي عبر النجاح الفني مثل الخبر المنشور حول أول نحات أعمي بالنسبة لشخصية مراد أو الهروب من مستقبل الممرضة لشخصية ليلي أو الحب بالنسبة لشخصية على، لكن تلك النجاحات لا تكسر تلك القدرية التي تقود في النهاية نحو موت محتم لمراد بالسرطان.

أننا أما رؤية للواقع الذي نحياه، حيث ينغلق الأفق وإمكانية الفرار من الحاضر الذي يطغي بقوانينه على العالم ويحاصره، أنها رؤية لا تمتلك أفق مغاير للعالم أو رؤية سياسية أو حلول أخلاقية، فقط هو هروب مؤقت وتقبل مفعم بالأسي للحاضر الأبدي الذي نحياه.

بالطبع لا يملك العرض وصانعيه أمكانية مواجهة تلك الصورة المقبضة للعالم، وهو ما تجلي في اختيار النوع الفني والإغراق في العاطفية عبر تحويل ما يبدو هامشي مثل حكاية مراد الذي يواجه العمي والموت لحالة من التدفقات العاطفية التي يستغلها الممثلين في عرض حالات نفسية متطرفة كالبكاء والصراخ والكوميديا، تحويل يمكن أن نري أثره في تلك الرومانسية الحالمة التي تسيطر على العرض والتي تحول الموت (والذي يبدو وفق الأفق المبدئي للعرض جزء من قدر الحاضر الأبدي) لمنفذ لبكائية أسيه لا تمتلك أي أفق سوى الأسي الرومانسي.

أن ذلك المزيج الذي يتشكل في المسرح المصري والذي يمكن رصد أحد تجلياته عبر عرض(أما بعد) ربما يجعلنا نري حالة الانحطاط الجمالي والرهان على التواصل العاطفي مع الجمهور عبر الجماليات السائدة جزء من واقع سياسي واجتماعي يتشكل منذ سنوات طويلة، واقع لا يري أمكانية في الحلول الجماعية التي سقطت المرة تلو المرة ، كما لا يري أمكانية للخلاصات الفردية عبر الانغماس في الذات كما كان الحال في التسعينيات والألفية المبكرة، أنه واقع جديد لا يري سوى أفق مسدود وعالم دميم ولا يجد من منافذ في ذلك العالم سوى عبر الإغراق في أسي رومانسي تتجسد في الأداء المتشنج والميلودرامي في العرض الذي نجح في استنزاف التصفيق والضحكات أحيانا من الجمهور كما تجلي في الغناء والموسيقي الحية التي كان من الممكن أن تشكل جزء من رهانات العرض لولا تعمد أخفاء العازفين في الكواليس حتى لا يؤدي حضورهم في دائرة وعي المتفرج لتحطيم الإيهام الأسي الذي راهن العرض علي مشاركة الجمهور فيه .

أننا أمام مسرح مقيد بأفق محدود وضيق خاضع لرؤي مجترة وأنواع فنية معلبة لكن وخلف تلك القيود لم تزل هناك أرواح تئن وترغب في أن يتم رؤيتها حتى وهي تستسلم لشروط الواقع الذي لا تجد لها منه نجاة.

السبت، سبتمبر 09، 2023

أنتيجون لاتفيا ... أنتيجون مجتمع الصورة

ضمن فعاليات الدورة الثلاثون لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي قدمت المخرجة والمصممة والمؤدية  "بيروت رام" – من لاتفيا - عرض أنتيجون والعرض ينتمي لنوعية المونودراما حيث تقوم  المؤدية بالانتقال بين الشخصيات الأساسية لمسرحية أنتيجون سوفوكليس وذلك عبر تنويعات صوتية وتجسيد بصري للشخصية من خلال الوضعيات الجسدية المميزة لكل شخصية بالإضافة للتغيرات البسيطة في تشكيل رداء المؤدية، وفي مقابل ذلك فإن عرض "بيروت رام" لم يسعى لتقديم صوت الجوقة الجماعي بل توجه إلي تجسيد تلك الجوقة عبر شاشة عرض تشغل خلفية الفضاء المسرحي الفارغ  من خلال  مجموعة من مقاطع الفيديو التي تقدم تصور تشكيلي يتدرج من حالة التجريد في بداية العرض وتصل لتقديم مقاطع لوجوه وأيدي مجموعة الجوقة.

يطرح العرض الكثير من الإشكاليات التي تتعلق بكيفية التعامل مع الدراما الإغريقية في القرن الحالي وإعادة بناء عالمها بما يتوافق مع الوضعيات الحالية التي تهيمن عليها حالة ما بعد حداثية تحتل فيها الصورة موضع متقدم وأساسي في بناء ما يطلق عليه العالم والواقع والحقيقة، حيث يتحول حضور المجتمع بوصفه فاعل من وضعية شراكة الواقع مع الفرد لوضعية جديدة يشتبك فيها المجتمع والعالم والحقيقة مع عالم الصورة الذي تتآكل فيه مفاهيم الخصوصية الفردية والجماعية والواقع والحقيقية وذلك بشكل متزامن.

من هنا فإن عملية إزاحة الجوقة لعالم الصورة ربما كانت أهم ما يمكن التوقف أمامه في عرض أنتيجون لبيروت رام فالجوقة التي كانت تمثل الصوت الجماعي لم تزل تحتفظ في العرض بالوضع البيني التي كانت تمتلكه في دراما سوفوكليس فهي على مستوي أول جزء من العالم الدرامي وعلى مستوى ثاني منفصلة عنه وتمتلك القدرة على التعليق والنقد. أن تلك الوضعية الوسيطة حاول العرض المحافظة عليها عبر استثناء الجوقة من عملية انتزاع تمايز الشخصيات عبر تقديمها من خلال جسد أدائي واحد، ولكن العرض ومن ناحية ثانية قام بتحييدها عبر خياره المتمثل في تقديم الجوقة عبر مقاطع فيديو تنتزع الميزة الخاصة بالجوقة بوصفها صوت جماعي معلق ومشارك في العرض المسرحي ضمن تلك الوضعية الوسيطة بين موضع المؤدي وموضع الجمهور، أن الجوقة هنا هي مجموعة من الصور المنفصلة عن اللحظة المشتركة بين المؤدية التي تقدم لجمهور العرض دراما متعددة الشخصيات، وذلك الانفصال يجعل الجوقة غير مشاركة في بناء العرض وفق التصور الإغريقي أو حتى الحديث الذي يعتمد على حضورها بوصفها تجسيد للصوت الجماعي لمجتمع النص و/أو المجتمع الواقعي، ولكن وعلى مستوي أخر فإن تلك الهيمنة التي تمتلكها شاشة العرض إزاء الفضاء المسرحي وجسد المؤدية ربما تشير لذلك الحضور المهيمن لما يمكن أن نطلق عليه جوقة عصر الصورة وهو ما يدفع بأي تحليل لذلك العالم لمحاولة التفكير في تلك العلاقة التي تربط بين أنتيجون الإغريقية وأنتيجون المعاصرة.

أن معركة أنتيجون مع كريون كما قدمت في نص سوفوكليس هي ليست معركة أخلاقية بقدر ما هي معركة بين السلطة الوضعية التي يمثلها كريون والناموس الكوني الذي تسعي أنتيجون لتحقيقه عبر إقامة الطقوس الدينية على جسد الأخ الملقي في العراء دون طقوس العبور والدفن التي تساهم في عملية انتقاله للعالم الأخر، ربما يبدو ذلك الصراع غير ذا صله مباشرة بعالمنا اليوم  إلا إذا ما فكرنا في الصراع بين سلطة الدولة القومية الحديثة العلمانية والسلطة الدينية الكونية التي لم تزل أكبر وأشرس خصوم تلك السلطة، لكن وبالعودة للعرض فإن العرض يضع ثقله في عمليات الإدانة الأخلاقية والسياسية لكريون بوصفه ممثل السلطة ويميل للتعاطف (في أتباع لرؤية سوفوكليس) مع أنتيجون التي لم تفعل شيء سوى وضع حفنة رمل فوق جسد الأخر ليصبح العقاب النهائي هنا متمثل في الكارثة التي تلحق بكريون بموت أبنه وأبنة أخته (أنتيجون) نتيجة إصراره على تطبيق قانون الدولة الذي ينزع كافة حقوق المتمرد والخائن.

أن ذلك الخيار للعرض ربما يرتبط هنا بعملية التأويل الحديث لأنتيجون بوصفها صراع بين سلطة الدولة القومية الحديثة والقيم الأخلاقية والإنسانية والفردية ... الخ وهو ما سبق تقديمه أكثر من مرة من خلال أنتيجون جان أنوي وبريشت وربما الكثير غيرهم وذلك من مواقف متباينة من تلك القضية، حيث يبدو العرض في سعيه ذلك متسقا مع الرؤية المناهضة للسلطة التي تمثلها الدولة الحديثة بوصفها تضافر بين سلطة الحاكم والمجتمع لصالح ما هو أنساني وهو ما يجد تمثيله الأكثر قوة في شكل المونودراما الذي يحل فيه الفرد موقع المركز في مقابل الجماعة .

أن ذلك التصور يسق مع العرض المنتمي لتصنيف  مسرح المهرجانات – بحسب بافيس – والذي يتوجه إلى جمهور دولي من الخبراء والذي يسعى إلى تكييف نفسه مع الموضات والتوقعات في ذلك الجمهور الدولي ، لكن المسافة الفاصلة بين أنتاج العرض الأول في بداية العقد الأول من القرن الحالي وزمن عرضه الذي تبدو فيه تقنياته غير قادرة على التعبير عن اللحظة الراهنة التي يقف فيها العالم أمام أسئلة جديدة ووضعية مخالفة مع عودة صعود الدولة القومية في مقابل العولمة الاقتصادية والثقافية تجعله غير قادر على تحقيق تلك المتطلبات التقليدية لمسرح المهرجان بكل التي أصبحت فيها المونودراما غير قادرة على التعبير عن ذلك الواقع وتحدياته ومتطلباته والتي لم يعد من الممكن للعرض أن يتلاقى فيها مع تلك الجماليات التي يطرحها إلا عبر العلاقة بين شاشة العرض التي تحتل موقع مركزي.

الثلاثاء، سبتمبر 05، 2023

الإلياذة في ساعة ونصف

 هل يمكن لعرض مسرحي تقديم الإلياذة بأكملها؟! ربما يبدو ذلك السؤال غير ذا قيمة هنا ونحن نتناول عرض يشير منذ البداية (وعبر عنوانه) إلي أنه يقدم للمتفرج إلياذة هوميروس كاملة ... لكن لنعد خطوة للخلف ولنحاول التعرف من جديد على العالم الذي يقدمه لنا العرض، الإلياذة وببساطة ملحمة شعرية تتناول وقائع الحرب بين طروادة والآخيين القادمين عبر البحر لاستعادة هيلينا التي اختطفت بواسطة باريس الأمير الطروادي من زوجها، وبالإضافة لذلك فإنها تعد مركز تجميع وبناء تتشكل حوله للأساطير اليونانية التي تمتد لأجيال سابقة على وقائع تلك الحرب كما تمتد لعقود تالية لنهايتها حيث تشغل حرب طروادة في الأساطير الإغريقية موقع مركزي فلا يمكن فصلها ببساطة عن تلك السردية الإغريقية الكونية، كذلك فإن الإلياذة تجسد لحظة تداخل درامي بين عالم آلهة الأولمب وعالم البشر حيث ينقسم الآلهة بين مؤيدين للطرواديين ومؤيدين للآخيين بل ويشاركون في المعارك بشكل مباشر، وأخيرا يمكن لنا أن نشير إلى أن وقائع الإلياذة لا تسجل  فقط سلسلة المعارك التي دارت بين المتحاربين؛ بل أنها تشكل جزء من المرجعيات الثقافية الأساسية للهوية الأوروبية ... أنها ليست مجرد حكاية عن حرب صغيرة، أنها جزء من سردية ثقافة كاملة حول هويتها ورؤيتها للعالم فبعض خيوطها الحكائية وشخصياتها كانت ولم تزل تشكل مصدر أساسي من مصادر السرد والدراما في أوروبا بشكل عام. وفي مقابل كل ذلك فإنها قادرة على ملامسة مواقع أكثر عمقا في الطبيعة البشرية مثل الغضب والحزن والشجاعة ... الخ وهو ما يهبها قيمتها في التراث الثقافي الإنساني بصورته الأكثر أتساعا .... فهل يمكن بعد كل ذلك نتخيل كيف يمكن تقديم كل ذلك بعرض مسرحي؟!

أن ذلك السؤال ربما يمكن أن يمثل مدخلنا للتعامل مع عرض "إلياذة هوميروس" لفرقة ميكروس فوراس اليونانية والمخرج (تاسوس راتزوس) والذي قدم على خشبة المسرح القومي بالعتبة ، ذلك أن التقنيات الدرامية والمسرحية التي أعتمدها سوف تصبح بالتأكيد محور أساسي في مسألة العرض ومحاولة التفكير فيه ، خصوصا مع المسافة الثقافية الفارقة بين الثقافة واللغة اليونانية التي يستند إليها العرض بشكل أساسي والثقافة واللغة العربية التي يمتلكها المتفرج ... ليصبح السؤال هنا هل أستطاع العرض تخطي كافة تلك الحواجز الثقافية واللغوية والتحديات المتعلقة بكيفية التعامل مع مادة شديدة الاتساع والتنوع عبر تلك التقنيات التي أعتمدها في علاقته مع جمهور مغاير لجمهوره المستهدف.

لا يمكن بالطبع أنكار ذلك المجهود الواضح للمخرج ومجموعة المؤديين في تشكيل – وإعادة تشكيل - مساحة أداء محدودة بشكل ديناميكي ومستمر، حيث يقوم المؤدين بالتنقل بين العديد من الشخصيات والأحداث التي تتصاعد ببطء شديد بداية من غضب أخيل وانسحابه اعتراضا على استيلاء أجاممنون على فتاة يمتلكها ، مرورا بمعارك الكر والفر بين الطرواديين والآخيين وبالطبع الأدوار التي قامت بها الالهة اليونانية في دعم طرفي الصراع قبلما ينتهي العرض باستعادة بريام لجسد أبنه هكتور من قاتله آخيل وذلك في تتبع لفصول الإلياذة بقدر كبير من الإخلاص الذي يتشكل عبر الحكي والأداء والسخرية والغناء والرقص والقتال ...

يتشكل المخرج ذلك الفضاء المحدود والمجرد عبر حركة جسد المؤدي ومجموعة من العصي التي يتم استخدامها بشكل مستمر في بناء وتحديد (وإعادة بناء) الفضاء المسرحي، قد تكون تلك التقنية مألوفة وغير مبتكرة لكنها تكتسب قيمتها هنا من قدرتها على طرح بدائل بسيطة وسهلة الاستخدام لتقديم عالم حكائي ممتد ومترامي الأطراف في إطار من المسرحة التي يدعمها العرض عبر الحديث المباشر للجمهور وعبر الإنارة المباشرة والمحايدة والمكشوفة المصادر لفضاء الأداء وهو ما يكشف لنا عن  طبيعة خيارات العرض القائمة على خلق علاقة مباشرة وآنية مع متلقيه عبر خيارات المسرحة والحكي التي ينتهجها.

ربما تحيل تلك التقنيات للطبيعة المفترضة لجمهور عرض (إلياذة هوميروس) حيث تقدم هنا حكاية ملحمية تفترض في المتلقي الإلمام بخيوطها العامة في إطار حميمي مجرد من كافة عناصر التأثير الإيهامى وذلك عبر الحضور الواضح لعناصر المسرحة وهو ما يمكن توضيحه من خلال الملابس البسيطة والمحايدة غير المهتمة تجسيد المرحلة الهيلينية، وبالتالي فالعرض يراهن بشكل أساسي على خلق مسافة مزدوجة بينه وبين هوميروس ، وذلك عبر إيجاد علاقة مباشرة بين العرض وجمهوره عبر السرد والغناء، واستغلال الروابط الثقافية التي تربط بين ذلك الجمهور وموضوع العرض ، وهو ما يمثل أول وأهم عائق يواجه العرض عندما يلتقي بجمهور مغاير .

قد يبدو الأمر بالنسبة للمتفرج - غير المنتمي لثقافة أو لغة العرض حتى مع توافر الترجمة الإنجليزية- غريبا إلى حد ما على حيث بيدو من الضروري امتلاك المتلقي لعلاقة مع الملحمة الإغريقية ودراية بشبكة العلاقات المعقدة التي تتجاوز الملحمة ذاته حتى يمتلك القدرة على بناء معني للصورة المسرحية المتطورة والسريعة التحول... كما يجب عليه مقاومة حاجز اللغة والتواصل مع العرض من خلال الإيقاع البصري السريع والقوي للعرض.

ربما يؤدي ذلك كله بشكل مباشر في بعض الأحيان إلى فقدان العلاقة مع العرض القادم من ثقافة مغايرة وتراث مغاير محملا بالإضافة إلي ذلك لرهان القدرة إعادة بناء علاقة المتلقي مع الملحمة وعالمها في إطار أكثر حداثة وبساطة تنزع عنها الهالة الأسطورية ويقوم بإعادة تقديمها في صورة مرحة تهبها قدر من الحيوية.

في النهاية ربما يكون صناع (إلياذة هوميروس) قد نجح في تقديم عرض حيوي وسريع الإيقاع للإلياذة التي تبدو للوهلة الأولي عصية على الإلمام بها في حدود درامية تقليدية، لكنه ومن جانب أخر لم يستطع تجاوز علاقاته المباشرة بجمهوره المستهدف إلي جمهور أوسع ومغاير عبر الصورة المسرحية التي بذل في تشكيلها الكثير من الجهد ، حيث ظل في النهاية مقيدا في حدود قدرة المتفرج على الاتصال به بشكل أساسي.

 

الجمعة، أغسطس 04، 2023

يا شيخ سلامة ... الطموح الوثائقي وتعثراته

ربما كانت الكتابة عن عرض (يا شيخ سلامة) تستدعي تساؤل أساسي يتجاوز العرض ذاته إلى مشروع مسرحة السير الذاتية الذي تتبناه إدارة البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية منذ عام 2018، والتي أنتج من خلاله مجموعة من العروض التي تتناول السير الذاتية لبليغ حمدي وسيد درويش... الخ. تساؤل يتعلق بإشكالية مسرحة السير الذاتية بما تمثله من تحدي كبير بالنسبة لفن المسرح الذي يميل في العادة إلى تجاوز الحكاية التاريخية نحو تأمل واستكشاف لفلسفة التاريخ كما بحسب أرسطو، فالمسرح ينطلق في العادة صوب العلاقة المباشرة مع اللحظة المشتركة بين العرض والمتلقي وهو ما يحول الحكاية التاريخية بالضرورة لمجرد قاعدة انطلاق للعرض المسرحي وليس لمحور ارتكازه كما تسعى عروض مشروع السيرة الذاتية، ولتحقيق ذلك فإن هناك مهمة أساسية أمام العرض الذي يتناول إعادة إنتاج السيرة الذاتية وهو تحويلها من سردية ذاتية مغلقة - تأمل لخبرات أو تجارب شخصية أو تأمل في مرحلة تاريخية ... الخ- لممارسة مزدوجة تستدعي واقع المتفرج كما تدفع نحو تصفية السيرة الذاتية عبر تخليصها من مركزية الصوت المفرد أو الحكاية الأحادية وذلك عبر تأمل أو مناقشة ذلك الصوت وتفكيكه ضمن سعي العرض للإمساك بالمشترك والمتقاطع بين لحظة عرضه والمروية التاريخية، بالطبع قد ينجح العرض في اجتذاب المتلقي في سيرة ألمظ وعبده الحمولي أو سيد درويش عبر المتعة الجمالية المرتبطة بموسيقي وأغاني تلك الشخصيات الموسيقية ويعمقها عبر ربطها بالمحطات الأساسية لحياة وعلاقات تلك الشخصيات مع واقعها في إطار من النوستالجيا والاستعادة الوثائقية. لكن تلك المتعة لا تتجاوز عمليات الترفيه البسيطة صوب ما هو أعمق في العادة وتتوقف عند ذلك المستوى الأولي.

في عرض (يا شيخ سلامة) وعلى النقيض ينطلق نص العرض للشاعر والكاتب(يسرى حسان) من تخليق مستويان زمنيان يجمع بينهما المكان حيث يحتل المنزل الذي ولد فيه سلامة حجازي المركز الأساسي الذي تنطلق منه دراما العرض من خلال استعراض لعالم وموسيقي مجموعة من السكان الجدد الذين يتشاركون في إنتاج موسيقي المهرجانات ، قبلما ينقلب عالمهم وعلاقاتهم مع دخول شخصية الباحثة "غنوة" التي تشاركهم رحلة البحث واستكشاف سيرة حياة الشيخ سلامة حجازي ليبدأ العرض في التقدم عبر مسارين الأول هو تتبع المحطات الأساسية في حياة الشيخ سلامة حجازي، والثانية هو التحولات التي تلحق بالمجموعة المعاصرة وتخلصهم التدريجي من طموحاتهم المرتبطة بالكسب السريع صوب البحث عن أنتاج فن موسيقي أكثر عمقا.

أن تلك البنية ربما كان من الممكن أن تفتح المجال أمام مساحة واسعة لرصد التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تفصل بين الفن الموسيقي وأنماط الموسيقي وتحولاتها عبر ذلك اللقاء بين نمطين يفصل بينهما ما يزيد على قرن من الزمن من نهايات القرن التاسع عشر وحتى اللحظة الراهنة، لكن ذلك الطموح ربما يكون قد أصطدم بمجموعة من الأزمات التي عرقلت من ذلك الأفق المبدئي الذي يطرحه العرض عبر المباعدة القصدية بين عالم الشيخ سلامة حجازي وعصره من اعتماد حيث تمدد العرض في تتبع وثائقي يعتمد بشكل أساسي على تخليق علاقة حية ومباشرة مع الجمهور، بالطبع فإن ذلك التوجه ربما كان يستدعي بالضرورة تحويل السيرة الذاتية لحياة الشيخ سلامة حجازي لخلفية وقاعدة لفتح النقاش حول الواقع المشترك كما أشرنا لكن العرض لم يعبر تلك العتبة الفاصلة بين الوثائقية بوصفها سرد تاريخي والمسرح الوثائقي بوصفه ساحة للجدل التاريخي والسياسي. وفي سبيل تدعيم ذلك التوجه الوثائقي فإن العرض أعتمد على تقديم مقطع طولي يمتد من ميلاده وحتى وفاه سلامة حجازي عبر مجموعة من المواقف الدرامية التي ترصد المحطات والشخصيات الأساسية في السيرة الشخصية مع العديد من الفواصل الغنائية التي شكلت قاعدة عمليات الإمتاع في العرض فعبر الطبيعة الغنائية والتي ارتبطت بمجموعة من الأصوات المميزة في مقدمتهم (على الهلباوي) الذي قام - إلى جوار التلحين والغناء- بأداء شخصية سلامة حجازي. بالطبع فإن الطبيعة الغنائية للعرض هي من أكثر عناصر بناء العرض تميزا لكن المسافة التبعيدية الوثائقية التي أتخذها العرض من سلامة حجازي لم تصل إلى النقطة الأكثر جوهرية في سيرته وهي الموسيقي حيث غابت الموسيقي وأساليب الأداء الموسيقي المميزة لعصر سلامة حجازي (إلا في عمليات المحاكاة السطحية لها) إلا إذا توقفنا أمام الابتهالات والمشهد الخاص بمنيرة المهدية التي يتم فيه تقديم أحدى أغانيها.

لكن لنتوقف أمام مجموعة الهدف الأساسي للعرض وهو المقارنة بين وصورة ومشروع الفنان الموسيقي دوره الثقافي بوصفه منتمي لثقافة أكثر ارتباطا بمصادرها اللغة العربية، حفظ القرآن، الموقف الأخلاقي والالتزام الفني... الخ وذلك في مقابل العشوائية والمادية التي تسيطر على موسيقي المهرجانات وما يصاحبها من انهيار أخلاقي وتحلل من قيم الالتزام. أن تلك المقارنة التي يعقدها العرض تميل لإدانة عالم الحارة التي تتمثل موسيقي المهرجانات بوصفها تعبيرا عن وعيها الذي يتشكل عبر الضغوط الاقتصادية ومغريات الكسب السريع والشهرة السهلة التي تتجسد عبر أداء مراد فكري، نجاة محمد، حسني عكري، أحمد شومان وباقي المجموعة الذين يمرون بعمليات تحول بعد دخول شخصية غنوة التي تؤديها نهله خليل، حيث تتم عقد المصالحة مبدئية مع أتجاه العرض للكشف عن أن الثقافة الشعبية التي تحملها مجموعة الحارة هي أعمق من ذلك السطح المرتبط بالجسد الأداء المبالغ في حركته والعامية الخشنة ، حيث يظهر تطور في أداء المجموعة مع عمليات الكشف عن عمق ارتباطهم بتاريخهم الثقافي والفني من جهة والتحولات التي تنتج عن اقترابهم من ذلك التاريخ. في المقابل فإن مجموعة الأداء المرتبطة بالمستوي الزمنى الثاني وبشكل خاص (يوسف عبيد، حسام التوني) يقومون بتقديم مجموعة متنوعة من الشخصيات المتنوعة وأداء كوميدي، أن تلك الثنائية المتعلقة بنمط الأداء بين الشخصيات الدرامية التي تمر بمراحل تطور درامي في مقابل الأداء النمطي لمجموعة مختلفة من الشخصيات يؤكد ذلك الميل غير المكتمل للعرض نحو تأكيد أهمية الواقع الراهن في مقابل الطبيعة الاستعارية للسيرة الشخصية لسلامة حجازي

على مستوى بناء الفضاء المسرحي قام المخرج محمد الدسوقي والمصمم حمدي عطية بتني خيار تقسيم قاعة صلاح جاهين طوليا بين مساحة للتلقي ومساحة الأداء الأمر الذي يمكن أن يحيل إلى أن المخيلة الأساسية لبناء العرض لم تكن مصممة بما يلائم طبيعة القاعات الصغيرة حيث يظل ذلك الخيار المتطرف في تقسيم مساحات التلقي والأداء داخل القاعات الصغيرة مغامرة خطرة بسبب تلامس الفضائين من ناحية وتمدد مساحة الأداء، ربما يكون ذلك الخيار المتطرف مرتبط بمحاولة العرض المحافظة على وجود فاصل فضائي بين المستوي الزمني الراهن والمستوي التاريخي الخاص بسلامة حجازي.. حيث يقبع يمين المتفرج المنزل في الوقت الراهن بينما إلي يساره يوجد مجموعة من الأماكن الدرامية المرتبطة بحياة سلامة حجازي (المقهى، المنزل، المسرح) ، ولتحقيق ذلك لجأ المصمم لمجموعة من الحلول التقنية التي نجح عبرها في تحقيق أعلى قدر من الاستفادة والتوظيف للمساحات لفضاء الأداء الطولي والمحدود داخل القاعة، بالطبع يمكن أن تكون عملية بناء الفضاء وتشكيله تشير لتناقض بين الإمكانيات المهدرة لحالة المسرحة التي يحافظ عليها النص والمؤدين طوال الوقت في مقابل محاولة تحقيق قدر من الواقعية في بناء الأماكن المسرحية، لكن في النهاية يظل للعرض خياراته الخاصة التي حاول الحفاظ عليها عبر عمليات تقسيم الفضاء والحلول التقنية التي لجأ إليها.

في النهاية وبرغم العديد من الثغرات ومواطن القلق في عرض (يا شيخ سلامة) إلا أن ذلك الطموح المبدئي الذي شغل العرض في تخطي الوثائقية البسيطة والتتبع المحايد لمحطات السيرة الذاتية هو أهم ما يمكن التوقف عنده، وهو ما يمكن أن يتم البناء عليه وتطويره في حال استمرار ذلك المشروع الوثائقي الذي تبناه البيت الفني للفنون الشعبية.

 

 

الاثنين، يوليو 31، 2023

السراج ... دعوة للخروج من عالم منهار

 

في خضم الحراك السياسي والاجتماعي الذي يمر به المجتمع المصري ظهرت مجموعة من الاسئلة الباحثة عن سبل الخلاص من الازمة الاجتماعية والسياسية الحالية ، أسئلة تطرح ذاتها على المبدعين الذين  يحاولون بدورهم دفع المسرح للاستجابة الجمالية لتلك المتغيرات والافكار والاسئلة القلقة والغاضبة التي لم تعد الجماليات التقليدية قادرة على استيعابها أو التعبير عن الواقع الذي شكلها، وإجابات تحاول برغم عمليات القمع والمحاصرة التي تتعرض لها من الخطاب الوطني والثقافي المهيمن، وبالترافق مع تلك الوضعية تجلت مجموعة من التحولات الفنية التي تخلقت بوصفها استجابة لصعود تلك المتغيرات، والتي يأتي في صدارتها تآكل وتحلل تيار المسرح الشعبي الذي هيمن بتقنياته الكتابية والبصرية على قطاع كبير من المسرح المصري بخطاب ما بعد كولونيالي  يستند بالأساس إلى طموح أعادة اكتشاف التقاليد الادائية والكتابية ما قبل المسرحية والتي وجدت ضالتها في اداء المؤدي الشعبي والتراث السردي وتقنيات المسرح البريشتي. لقد استنفذ الواقع ذلك الخطاب الهادف لتأكيد وترسيخ الهوية الجماعية كما استنفذ المسرح تلك التقنيات التي لم يعد الخطاب السياسي والثقافي المرتبط بها قادر على التعبير عن الواقع أو الاجابة على الاسئلة والتحديات التي يطرحها.

من هنا تبرز أهمية عرض (السراج) لفرقة قصر ثقافة طنطا والمخرج -والمؤلف– محمد السباعي كونه يجمع بشكل واضح الكثير من تلك التقنيات الادائية والكتابية والاخراجية الجديدة التي تحاول طرح رؤيتها للعالم الذي نعيشه. ولعل اول ما يمكن التوقف أمامه في العرض هو التحول التقني نحو التقنيات المستمدة من السينما- والتي تختمر منذ عقود طويلة في المسرح المصري- حيث يمكن لنا أن نرصد بوضوح تقنيات الفوتومونتاج والمزج والمشاهد القصيرة والمونتاج المتوازي... الخ .بالطبع فإن تلك التقنيات في سبيل تحققها اعتمدت بالأساس على الإضاءة (لمحمود فايد) والتي قامت بتحديد المشاهد وتأطيرها وساهمت في عمليات الانتقال السريع بين المشاهد المسرحية وذلك في مقابل الوحدات الديكورية الضخمة  (لرانيا حداد)  المتعدد المستويات والهادفة لتجسيد الاكثير من الاماكن التي يتحرك بينها نص العرض.

بالطبع فإن تلك التقنيات السينمائية وخلال عبورها للمسرح لم تصل متحررة من شروطها الجمالية الخاصة بها حيث انتقل معها تقاليد الأداء السينمائي الواقعي المناهضة للتقاليد الادائية البريشتية والشعبية حيث يمكن ببساطة تلمس الأداء (بشكل عام) المتبني لتقاليد الأداء الواقعي والتقمص الكامل للشخصية الدرامية وطبيعتها النفسية والجسدية.

لكن وقبل التوقف عند تلك السمات الادائية بشكل تفصيلي ربما كان الضروري تحديد الإطار العام الذي يتحرك داخله العرض،حيث يقوم العرض على بنية حكائية غرائبية تدور حول قبيلة تحيا في مكان مجهول عالمها الذي يحتل مقام الجدة/المحروسة/العرافة (سهيلة سليمان) الذي يرتبط بعوالم صوفية وسحرية تهيمن على الدراما مثل عالم الأرواح التي ينتقل إليها نعمان/سراج (مصطفي زعفران) في رحلة أكتشاف نتائج سيطرته على القبيلة بالخداع والقمع ، أو بدر (هبة البشكار) التي تمتلك القدرة على شفاء الأجساد أو سجد (كريم الجنزوري) الطفل الميت الذي تعلق روحه قبلما يستكمل انتقاله الي عالم الموتى.

ان تلك العوالم السحرية التي ترتبط ببنية حكائية كبيرة متعددة الشخصيات والخطوط الدرامية والعلاقات المعقدة والممتدة أتت للمسرح من فضاء الروايات الجماهيرية التي وجدت لنفسها موقع قدم في الكتابة الدرامية خلال العقد الماضي والتي تصاعد حضورها مع انتشار وترسخ السينما وموضوعاتها .

عرض السراج ورغم اعتماده على التقاليد والتراث الثقافي والديني بشكل واضح إلا أن مرجعيته في بناء عالمه لا ترتبط بالافق الثقافي الخاص بتلك التقاليد كما لا تعتمد على أساليب المسرح الشعبي في التعامل مع تلك التقاليد الثقافية، حيث تسود جماليات المينستريم أو التقاليد والبنيات السرديات البسيطة السائدة في الفنون الجماهيرية واسعة الانتشار والقائمة على الصراع بين ثنائيات بسيطة ومباشرة مثل الصراع بين الشر والخير او الحق والباطل بمعزل عن تعقيدات الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي خاصة عندما تعمد البنية الدرامية -كما هو الحال في عرض السرج- إلى بناء عوالم سحرية مفارقة للواقع.

يمكننا في عرض السراج رصد ذلك الحضور الواضح لتقنيات الفنون الجماهيرية السائدة فبرغم تعقد العلاقات الدرامية الا أننا يمكن ان نجد في العرض حضور واضح لتلك الثنائيات العرافة/ ذكرى (يارا على) أو الأبيض والأسود -كما يتجلي في اختيار ألوان الازياء المسرحية- والتي تقسم العالم الدرامي بين قوى الخير وقوى الشر، وهي ثنائية يمكن ان نجد ترديداتها في كافة العلاقات الدرامية وتجسيداتها البصرية مثل ثنائية الأخوة أبناء نعمان ( باهي الفنان المتدين (محمد صبحي) في مقابل إخوته المصارعين على سلطة الاب المريض (أحمد صلاح (غريب)،عبدالله فتح الله (عزيز)،عمر فتحي (غالي)).

أن تلك الثنائيات البسيطة والاخلاقية وعمليات تجسيدها البصري هي سمة أساسية من سمات الروايات الجماهيرية السائدة، كما أن المشاهد الدموية والاستعراضات والميزانسين المسرحي الذي يستند لبناء صورة معقدة افقيا ( عدد الشخصيات الكبير على خشبة المسرح) والرأسي (في المستويات المتعددة) الذي يرتكز لجماليات السينما والمسرح التجاري الأمريكي.

 تلك الملاحظة حول تأثر العرض بتقاليد الفنون الجماهيرية السائدة يمكن ان نعيد في إطارها رؤية كيفية أعتماد العرض للتقنيات السينمائية ليس بوصفها محاولة للإعادة توظيف واستخدام تقنيات المونتاج السينمائي في المسرح وإنما بوصفها انجذاب للجماليات السائدة والتي تقبع التقنيات السينمائية في مركزها.

أن الارتباط بين تقنيات الفنون الجماهيرية السائدة والمسرح المصري حاليا والتي يمكن رصدها في عرض (السراج) - وعروض أخرى- يمكن أن نتوقف أمامها بوصفها تعكس تراجع عام لسيطرة الثقافة الوطنية أو القومية لصالح سيطرة واضحة لثقافة عابرة للهوية القومية لكن ذلك الاستنتاج لن يكون كافيا لتفهم الخيارات الدرامية التي لجاء إليها العرض مثل الربط بين شخصية باهي والتدين الاسلامي والفنون، أو التأكيد العابر على حالة العقم السائدة ، أو شخصية الغول الذي يمزق كل من يخرج عن الإيمان والخضوع لسلطة الضريح الكاذب، أو حتى في نهاية العرض التي تقوم على قرار نعمان العائد لعالم البشر بخروج باهي وبدر والأطفال  من أرض القبيلة (المدينة) وإغلاق الأبواب خلفهم بحيث يمنع  الخروج أو الدخول لغيرهم لا ينتهي العرض بخروج باهي والأطفال من صالة المتفرجين بينما ينهار العالم الخاص بالقبيله خلفهم.

تحيل تلك الخيارات الدرامية لعلاقة مع الواقع ترى أن العالم الذي نعيش فيه قد وصل لحدوده القصوى وان نهايته أصبحت حتمية لصالح عالم جديد يحلم بأن يقوم على أنقاض ذلك العالم المنهار برغم تهديد استمرار وجود شخصية ذكرى (وهو اسم له دلالته في ذلك السياق) في ذلك العالم الجديد.

رغم بساطة تلك الأفكار التي ترى أن الماضي يجب أن يتم القضاء عليه بشكل كامل لصالح عالم جديد يستمد مرجعيته من باهي( الفنان /المتدين) وبدر صاحبة القدرة على انقاذ الحياة هي أفكار لا تحاول طرح نفسها فحسب بوصفها محاولة للإجابة على أسئلة الواقع فحسب بل تلجأ للبحث عن جماليات مختلفة عن الجماليات التقليدية للمسرح المصري الجاد حيث وجدت ضالتها -مؤقتا على الاقل -في جماليات عابرة للهوية الوطنية .

برغم وقت عرضه الطويل نسبيا والممتد لما يقترب من ساعتين فإن عرض (السراج) ربما يشكل جزء من حالة القلق ومحاولة الخلاص التي يبحث عنها جيل مسرحي جديد ،بالطبع يمكننا التوقف أمام العديد من المشاكل المتعلقة ببطء الايقاع العام للعرض وعدم قدرة المخرج والمؤلف على إيجاد مسافة تبعيدية بين النص والعرض تتيح له القيام بعمليات اختزال واعادة بناء لنص العرض بما يحقق قدر أعلى من التركيز عبر عمليات حذف لبعض الخطوط الدرامية غير المؤثرة مثل خط العوالم. برغم كل ذلك يظل من الضروري تفهم ذلك العالم الذي يقدمه فريق قصر ثقافة طنطا والمخرج محمد السباعي بوصفه محاولة لرؤية جديدة ومخالفة تحاول التواصل مع المتفرج والالتفاف على انخفاض سقف الحريات الفنية.

 

 

 

 

 

الأحد، مارس 19، 2023

ترنيمة ... بكائية للعالم المفقود

 

بالليلة السادسة من ليالي مهرجان أيام الشارقة المسرحية بدورته الثانية والثلاثون وعلى خشبة مسرح قصر الثقافة بالشارقة قدمت فرقة مسرح ياس بالتعاون مع المخرج والمؤلف محمد صالح السيدى عرض ترنيمة، الذي ينطلق من أفق مناهض ومحذر من هيمنة الأخر ثقافيًا وسياسيًا للمجتمع وتهديده الوجودي للهوية القومية والدينية، وهي قضية محورية وتقليدية تناولها المسرح العربي بتنويعات مختلفة في كافة مراحله التاريخية، وهو ما يعود بالتأكيد لكونها قضية ظلت وبشكل استثنائي ملحه وحاضرة نتيجة المسارات التي سلكتها المنطقة العربية، قضية تجلت بصيغ مختلفة بداية خلال مرحلة الصراع ومن ثم التحرر من الاستعمار مرورا ببناء الدولة الوطنية والصدامات الكبرى بين التيارات الاجتماعية المحافظة والمنفتحة بل وحتى عند تناول قضية الصراع العربي الإسرائيلي، ظلت دائمًا العلاقة مع الأخر شاغل المسرحيين العرب بمختلف توجهاتهم واختلافاتهم الأيديولوجية، حيث دائمًا ما شكل ذلك التهديد المستمر والمتواصل لتوغل المستعمر وممارسته داخل المجتمعات العربية هاجس مؤرق وتهديد للهوية والحرية والثقافة والمعتقد.

من تلك الأرضية ينطلق عرض ترنيمة الذي تتوافق طبيعته بشكل كبير مع عنوانه من لحظة الصفاء والاستقرار التي تدفع المتفرج لمراقبتها منذ دخوله إلى قاعة العرض قبل تبديد ذلك مع اقتحام الغزاة للفضاء المسرحي وسيطرتهم على ذلك العالم ليتابع العرض وحتى نهايته عمليات التدمير المتصاعدة لذلك المجتمع من قبل الغزاة عبر عدد من اللوحات التي تتنوع بين العذابات التي يلاقيها المقاومين وحالات الانسحاق أمام الغزاة ليتحول العرض لمرثية بكائية على انهيار العالم وفقدانه لهويته في ظل سيطرة خطاب وحيد ومستمر ومتكرر يؤكد ويحذر ويحرض ضد تلك الهيمنة لصالح استعادة الهوية ومقاومة الأخر/الغازي الذي يشارك خطابه التأمري في دعم الخطاب العام للعرض. إن ذلك المسار الذي سلكه العرض بطبيعته الغنائية ربما يبرر عنوانه (ترنيمة) حتى وإن كان أقرب للمرثية منه للترنم الديني الذي يرتبط التكرار فيه بمسار العلاقة بين الإنسان والرب، فالعرض وعلى خلاف ذلك المسار المميز للترنيم أعتمد التكرار والتفريعات لتأكيد الحالة الرثائية للذات المهزومة أمام قوة غاشمة لا سبيل لمواجهتها سوى بالنشيج والصراخ.

بالطبع فإن ذلك المسار الذي سلكه العرض نفى أي حالة تفاوضية أو تطوير لصراع محدد المعالم بين قوى المقاومة وقوى الهيمنة، فالغزاة ومنذ دخولهم إلى ذلك العالم يحققون انتصار سريع ويقومون بعملية امتصاص متسارعة للمجتمع ولا يبقى طوال العرض سوى توابع الهزيمة والانسحاق، الأمر الذي حصر ذلك العالم في مونولوجات طويلة ولغة شاعرية تدور في فلك الهزيمة ولا يقطعها سوى الوعد الأخير من الجوقة بأن هناك وقت سوف تنجح فيه تلك المقاومة ويتم إنقاذ الأخت في إشارة للرواية التاريخية للمرأة التي استنجدت بالخليفة المعتصم في زمن الخلافة العباسية.

في مقابل ذلك الصوت الوحيد والملتف حول ذاته حاول المخرج خلخلة تلك المرثية عبر الصورة المسرحية التي بدت أكثر ثراء في مقابل أحادية الخطاب وذلك على مستوى عمليات التشكيل السينوغرافي التي بدت أكثر حيوية وفاعلية سواء عبر المنصة المتحركة (ذات المستويان) التي قام باستغلالها في إعادة تشكيل الفضاء بشكل دائم خلال اللوحات المتتالية عبر موقعها داخل الفضاء، وكذلك عبر العلاقة التي تتشكل بين المستوى العلوي منها والفضاء المسرحي واستغلالهما كمواقع أدائية تعكس سيطرة الغزاة على العالم وهيمنتهم عليه، وعلى مستوى أخر حاول المخرج إضفاء طابع لوني أكثر ثراء لذلك الفضاء المحايد والمتقشف عبر الإضاءة التي تنوعت مصادرها من الكشافات اليدوية والشرائط المضيئة وحتى وحدات الإضاءة والطبيعة اللونية الغنية للإضاءة .

لكن ذلك الطموح الذي بدا واضحًا على مستوى عمليات التشكيل السينوغرافي ظل محاصرًا ضمن حدود ضيقة ومحاصرة نتيجة تضافر مجموعة من العوامل في مقدمتها الضغط المستمر للطبيعة الرثائية للعرض والتي تجلت في الأداء التمثيلي للممثلين بالعرض حيث أنجذب المؤدين بشكل عام لغواية صوتيات اللغة الشاعرية مما أضفى طابع خطابي على الأداء، وبالمقابل فإن نص العرض وفر قاعدة لتنامي البكائيات الصارخة والرثاء وعمليات التنميط المحدودة الأفق والمحاصرة بين أشرار وأخيار يتبادلون المونولوجات ضمن خطاب مقاوم محافظ يرى في أي تفاعل مع الآخر هو انسحاق وهزيمة وزعزعة للنظام الاجتماعي والسياسي والديني والثقافي بل والجندري .

وأخيرًا ظلت عمليات تشكيل الحركة المسرحية أو الميزانسين -ورغم المحاولات الدائمة لإضفاء طابع حيوي ومتنوع ودال عبرها- مقيدة بالحدود الضيقة للعلاقة بين كتلتين الأولى هو المجتمع المهزوم والأخرى للغزاة، ربما لم ينج من ذلك القيد سوى خطوط الحركة التي صممها المخرج خارج حدود مساحة الأداء المحددة بالحبال الساقطة رأسيا والتي أضفت طابع من العمق وخلقت مستوى مختلف للفضاء لكن ذلك المستوى ظل محاصرًا بالإبهام وعدم الوضوح والاكتمال.

في النهاية ربما ما يخلفه عرض ترنيمة من أسئلة متعلقة بالوعي الذي أنتج ذلك العرض (وما شابه من عروض مسرحية) هو أهم ما يخلفه، فذلك الشعور المأساوي بالعالم ربما يعكس أزمة المجتمعات العربية (بشكل عام) في ظل عالم يزداد تقلصًا للحد الذي تصبح فيه أي محاولة للعزلة أو المحافظة على عوالم ثقافية مغلقة أمرًا شديد الصعوبة. عالم يبدو لعرض (ترنيمة) هو الجحيم بذاته لكنه لا يملك في مواجهته سوى المقاومة السلبية والحلم بمعجزة تعيد العالم للحظة كان فيها أكثر أتساقًا وتناغمًا.

 

 

 

 

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...