الثلاثاء، فبراير 25، 2025

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

 

منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطالبه زوجته بإتمام موته، وتتنازعه مشاعر الذنب وأطياف الموتى الذين يطاردونه ويؤرقون ضميره، لكنه يفشل في إدراك الموت مرة تلو الأخرى حتى ينجح أخيرًا – أو هكذا يتخيل – عندما يعترف بجريمته المتمثلة في حرمان ربيبته من عائلتها التي ساهم بمرافعته في إدانتهم وإعدامهم، برغم يقينه ببراءتهم. وفي المقابل، توجد الفتاة التي ترفض تصديق كل ما ينزع الهالة المثالية عن العالم، حيث ترفض رؤيته المتشائمة كما ترفض تصديق الجميع – بما فيهم المحامي ذاته – الذين يؤكدون لها أنه ظالم، وأنه قد ظلمها.

إن الخطاب الذي يطرحه عرض في انتظار العائلة للمخرج سعيد الهرش وفرقة مسرح الفجيرة – قائم على مناقشة ثنائية الذنب والبراءة بوصفهما وجهين لحالة الانتظار التي تهيمن على دراما العرض وتسيطر على فضائه: انتظار الفتاة لمكالمة تصلها من العائلة الغائبة، وانتظار المحامي للموت الذي يرفض انتزاع روحه. انتظار يلقي بظلاله على العالم الدرامي للنص، فنجد الزوجة تنتظر موت زوجها المحامي، كما أن الأطياف تنتظر اعترافه بجريمته حتى تتمكن من العبور إلى عالم الموتى. إنه عالم ينتظر التحرر، لكن ما يُنتظر لا يتحقق، فلا البراءة المثالية يتم تجاوزها، ولا الذنب يتم التحلل منه.

بالطبع، فإن ذلك الخطاب المجرد يبدو عالقًا في فضاء العرض بلا أي تطور؛ فلا هو يحاول التقدم ليتحول إلى رؤية أكثر عمقًا لحالة الانتظار بوصفها تجمدًا للزمن وانعدامًا للفعل، ولا يتطور في سبيل تأمل المفارقة بين الذنب والبراءة بوصفهما حكمين أو موقعين يمكن التبديل بينهما. يظل نص العرض معلقًا في دائرة يحاول التملص منها عبر السرديات التي يتم تجسيدها بصريًا – كما في مشهد جريمة القتل المستعادة من ذاكرة المحامي – أو عبر المونولوجات الطويلة التي تناقش مشاعر الذنب واليأس التي تعتريه، ليظل العرض، وحتى نهايته، غارقًا في تقديم ثنائية غير متطورة.

هذه الثنائية التي يقوم عليها العرض تجد ما يدعمها بصريًا عبر الموتيفات المعلقة في فضاء المسرح، والتي تعكس رؤية الشخصية الأساسية للعالم، فكل شيء معلق وغير مستقر؛ فلا هو يتحرر ليسقط، ولا هو يطير مبتعدًا، بل يظل عالقًا في فضاء العرض، بداية من النافذة التي يمر عبرها الضوء، وليس نهاية بالأقنعة المعلقة. وعلى مستوى آخر، حاول العرض تأكيد هذه الثنائية من خلال المقابلة اللونية بين الأبيض والأسود، حيث يسود اللونان الأبيض والأسود في ملابس الشخصيتين الأساسيتين (المحامي/الفتاة)، كما ينعكسان على مستوى الإضاءة التي تعتمد على التقابل بين الضوء المحايد والظلمة، وهو ما يدعم تلك الثنائية برغم عدم توافقه مع التقاليد التعبيرية التي تميل إلى استخدام الإضاءات الملونة للتعبير عن الحالة النفسية للشخصيات.

بالطبع، هناك العديد من المواقع داخل العرض تخترق هذه الثنائية، مثل مغايرة الخيارات اللونية من خلال ملابس الزوجة الملونة أو ارتداء الأطياف للون الأحمر في مشهد الإعدام المتخيل، لكن هذه المغايرة لا تقوم بدور إثرائي لهذه الثنائية أو مناقضتها بقدر ما تعرقل تطور بناء المعنى في هذا الاتجاه، حيث تدفع المتلقي إلى طرح العديد من الأسئلة حول موقع الزوجة من هذا العالم المغلق الذي يحاصر المحامي والفتاة. ومع ذلك، فإن الخيارات اللونية تظل تدفع في سبيل التأكيد على الثنائية بين الأبيض والأسود أو الذنب والبراءة المختلطين في ملابس الشخصيتين، ولعل ذلك ما يمكن تطبيقه على أسلوب تصميم الإضاءة، الذي مال بشكل واضح إلى المقابلة بين الإضاءات الجانبية المتقاطعة في مقابل البؤر الضوئية التي تحاصر الشخصية الأساسية، حيث يتم التنويع فيما بينها بهدف تخليق جماليات بصرية تدعم حالة الحصار التي يعاني منها المحامي. وفي المقابل، تسود الإضاءة العامة في غالبية المشاهد التي تجمع بين المحامي والفتاة، مما يجعل تلك التنويعات غير مؤثرة في بناء المعنى، حيث تظل تؤكد، مرة تلو الأخرى، المعنى ذاته، لينحصر دورها في تخليق جماليات بصرية فحسب.

على مستوى الأداء، أظهر المخرج وفريق العمل انحيازًا لعمليات الأسلبة والآلية الأدائية، باستثناء شخصية المحامي التي بدت غارقة في انفعالاتها الداخلية. حاول المحامي/ زياد الحضرمي خلق انتقالات بين حالات شعورية مختلفة، برغم ضيق المساحات الممكنة للحركة بالنسبة لشخصيته التي تدور في فلك مغلق. أما على مستوى آخر، فقد بدا أداء الفتاة/ نور الهدى والزوجة/ شيماء سعيد ثابتًا وغير متطور نتيجة عدم وجود تنويعات شعورية للشخصيات الدرامية داخل نص العرض، إلا في أضيق الحدود.

بالمجمل، يظل السؤال الأساسي حول مصدر خطاب العرض وأفقه عالقًا بلا إجابة، إلا عبر عمليات تأويل مبالغ فيها، مثل محاولة رؤية ثنائية الذنب والبراءة بوصفها تجسيدًا لصراع بين قوى اجتماعية داخل النص، أو تصور الانتظار بوصفه تجسيدًا لوضعية فقدان المعنى والقيمة والهدف في الواقع العربي. لكن هذه التصورات تظل في النهاية مجرد تأويلات مفرطة أمام العرض وما يطرحه.

 

ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...