السبت، فبراير 27، 2016

اللغة في المسرح العربي الحديث


ظل موضوع العلاقة بين المسرح العربي واللغة من أكثر الأسئلة صعوبة لكتاب و نقاد المسرح في المنطقة العربية ، ذلك أن محاولة البحث في تاريخ وواقع تلك العلاقة يفتح الباب أمام عشرات الأسئلة والأزمات التاريخية و القضايا اللغوية والمسرحية التي تؤرق العقل العربي الحديث وتدفعه نحو البحث الدائم عن ملء تلك الفجوة الثقافية الفاصلة بين واقعه - بكل ما يحمله من  علاقات بالعالم وتطورات لمجتمعات محلية ودول وطنية.. الخ - واللغة العربية التي حفظها لقرون طويلة بدون تطوير حقيقي أو تغيير ثوري في بنيتها النحوية أو مفرداتها أو علاقاتها مع الديانة الإسلامية التي جعلت منها لغة مقدسة أو الأيديولوجيا القومية التي ارتكزت عليها كعنصر أساسي  في معركة التحديث وتأكيد الهوية.
ولعل أولى القضايا التي يمكن التوقف أمامها في هذا السياق هي العلاقة المعقدة بين اللغات المسرحية التي تحقق التواصل بين متفرج العرض والتي تتمثل في العناصر المرئية و المسموعة في العرض المسرحي (كالإضاءة، الموسيقي، الديكور ) واللغة العربية المنطوقة
ولتبين حدود تلك المشكلة يكفي أن نقوم بالعودة لمرحلة نشأة المسرح العربي الحديث؛ فالمسرح بشكله الأوربي تمت زراعته داخل الواقع العربي من خلال الطليعة المثقفة للطبقة البرجوازية في منتصف القرن التاسع عشر لأهداف تتعلق بعمليات التحديث والنهضة بالمجتمعات العربية للحاق بالغرب (الذي شكل في تلك المرحلة  المركز والنموذج الأمثل للتقدم والرقي والحضارة) لكن مشروع النهضة الذي تم تبنيه لم يكن مشروعًا يهدف لترسيخ التبعية للغرب؛ فلقد ظل النموذج الغربي محاصرًا في صورة العدو والآخر والمستعمر الذي يقوم بتفتيت الهوية الثقافية للمجتمعات العربية ومرتبط بالرؤية الاستعمارية الغربية التي تقدم الحضارة الغربية كنموذج وحيد ونهائي للحضارة.
من هنا كان للغة العربية علاقة معقدة ومركبة مع الفن المسرحي الذي قام بتبديد تراث من الفنون الأدائية التي كانت منتشرة قبل ظهوره كعروض (خيال الظل ، ممثلي الشوارع (المحبظتية *) ، الراوي الشعبي.. الخ) حيث خاض المسرحيون العرب حروبًا عنيفة لإعادة إحياء تلك الفنون التي تعرضت للانقراض التدريجي بكل ما كانت تحمل من أساليب فنية أو طرق للتعامل مع اللغة.
فعلى سبيل المثال كانت معظم تلك الأشكال الأدائية  (ما قبل المسرحية) تلجأ إلي إدراج أبيات (أو قصائد) من الشعر العربي الفصيح بنصوص عروضها بما جعلها مشابهه (شكلًا ومضمونًا) للنصوص السردية والنثرية الكلاسيكية (كألف ليلة وليلة على سبيل المثال لا الحصر) التي كانت تلجأ للشعر الفصيح للتدليل على عمق وأصالة العمل الفني، وفي اتباع واضح لتقاليد الكتابة العربية واتساقا مع ميول جمهور المتلقين.
ومن ثَمَّ فإن الاهتمام باللغات المسرحية (الديكور- الإضاءة – الأداء - الموسيقي) كانت تتراجع أمام ذلك الحضور الطاغي للغة العربية وجماليتها التي يتم استعراضها بشكل دائم ومستمر من خلال الشعر، وعلى المستوي نفسه كانت بقية تلك اللغات المسرحية تتم إعادة تشكيلها لتتناسب مع ذلك الحضور الطاغي للغة العربية وجماليتها فتحضر الموسيقي كخلفية موسيقية وألحان بسيطة للقصائد وليس كلغة مشاركة في بناء العرض، وكذلك الحال بالنسبة للديكور الذي كان يمتاز في تلك العروض بالبساطة والإشارة للمكان الواقعي بينما تتكفل اللغة ببقية الصورة على مستوي المخيلة.
ولكن المسرح بشكله الغربي – كما أشرنا- وصل إلى المنطقة العربية في مرحلة شديدة الأهمية؛ فكما كانت الثقافة العربية تواجه متغيرات التحديث التي فرضت على اللغة العربية العديد من التحديات، مثل استيعاب المنجزات العلمية والصناعية والثقافية الحديثة، كان المسرح العالمي بدوره في مفترق طرق؛ حيث بدأ استكشاف الأهمية الكبيرة للغات المسرحية ودورها في بناء العرض المسرحي، في مقابل تراجع الدور المركزي للنص الذي كان يحظي بتقديس كبير منذ عصر المسرح الإغريقي حتى بدايات القرن التاسع عشر.
لقد أصبح على المسرح العربي استيعاب كافة تلك المتغيرات الثقافية والتاريخية والفنية دفعة واحدة وإعادة صياغة العلاقات بين اللغات المسرحية المختلفة واللغة العربية التي تحمل النص المسرحي..
ولعل نص مجلس العدل لتوفيق الحكيم (وهو أبرز رواد الدراما العربية) يمكن أن يبرز لنا محاولات التوفيق والتركيب بين كافة تلك العناصر الثقافية والتقاليد الكتابية والأدائية واللغات المسرحية داخل النصوص المسرحية.
" (...  هذا المجلس يذكرنا ببعض المجالس الدولية ويقوم على حكاية شعبية سمعتها في الصبا، لا أظن أنها مكتوبة في كتاب ولكنها قد تكون من الحكايات التي قام شعبنا بتأليفها في وقت ما ، لست أدري تحت أي ظروف وقامت بنشرها الأفواه بعدئذ في كل زمان.. أنها قصة فران نشأت بينه يومًا وبين قاضي المدينة صداقة مصلحة.. وإليكم ما حدث....)
( الفران يلتقي بالقاضي وهو داخل إلي الجلسة......)"
إن ذلك المقطع السابق يمكن أن نستخلص منه العديد من السمات، لعل أولها توجه الحكيم في النص إلى القارئ وليس إلى المتفرج.. فالإرشاد المسرحية تحمل صوت المؤلف وأسباب اختياره لموضوعه ومصدره، وهو ما لا يمكن عمليًا تحويله لجزء من عرض مسرحي؛ فصوت المؤلف لا يحضر كصوت راوٍ، ومن ثَمَّ فإن حضوره يرتبط بعملية القراءة بالتحديد.
على مستوي آخر فإن الكاتب يستخدم تقنية سردية تجعله أقرب للراوي الشعبي التقليدي الذي يقدم حكاية لجمهور مستمعين.. فهو الصوت الأساسي ومنه تنبع كل الأصوات المسرحية التي تظهر بالمسرحية.. ولعل ذلك يمكن الإمساك به بشكل صريح من خلال جملة " وإليكم ما حدث..."
إن المقتطف السابق يناقض طبيعة ودور الإرشادات المسرحية فهو أقرب للعبارة السردية التي تضع النص المسرحي التالي لها في زمن الماضي، بينما تجعل من صوت السارد حاضرًا في لحظة القراءة ومزامنًا للقارئ. ولعل تلك التقنية من التقنيات المميزة للسرد العربي التقليدي فهو يستعير صوت راوي الحكاية الشعبية وتقنياته وأساليبه.
إن توفيق الحكيم هنا يقوم باستعادة تاريخية للتقنية الأدائية للراوي مرة أخرى، لكنه لا يصل بها إلى مستوى متطور كالذي وصل لها هو نفسه في نصوص آخرى سابقة على نص (مجلس العدل) ولاحقة له.
أما على مستوى بناء المشهد المسرحي فإن الكاتب لا يهتم كثيرًا بوضع إرشادات مفصلة لوصف المشهد المسرحي، بل يستبدل بها جملا موحية مثل (هذا المجلس يذكرنا ببعض المجالس الدولية) وهو تعبير فضفاض يبرز عدم الاهتمام باللغات المسرحية أو إدراك دورها المركزي في تشكيل العرض المسرحي.
لقد صاغ توفيق الحكيم هذا النص كما يظهر للقارئ وليس للمتفرج وذلك خلال مرحلة نصوصه التي تنتمي للمسرح الذهني (أو مسرح القراءة) وبالتالي فهو يلجأ إلى تقاليد الكتابة المسرحية الغربية دون اهتمام بالعلاقات الرابطة بين النص المسرحي والعرض .. ومن ثَمَّ فإن تقاليد الكتابة العربية والتعبيرات اللغوية غير المسرحية تحضر في الإرشادات المسرحية بكثرة؛ مثل:
"يفترقان.. يذهب الفران من حيث جاء والقاضي يدخل إلي جلسته.. بعد ساعة يأتي الفران وخلفه جماعة من الناس يدفعون به إلي مجلس القاضي..."
يمكن هنا ملاحظة حضور تعبير لغوي يحمل إشارة زمنية " بعد ساعة" وهو تعبير سردي غير قابل للتنفيذ مسرحيًا لعدم منطقية بقاء الفضاء المسرحي غير مشغول بفعل لمدة زمنية كبيرة بهذا الشكل، كذلك عدم الانتباه للوسائل المسرحية التي يمكن استخدامها للتعبير عن مرور الزمن مثل الإضاءة أو الإظلام أو الموسيقي.
ولكن – ورغم ما يميز "مجلس العدل" من سمات غير مسرحية - يظل ذلك النص في النهاية نموذجا غير دال على واقع المسرح العربي أو حتى على مسرح توفيق الحكيم نفسه الذي يعد من أكثر الكتاب إبداعاً و تنوعاً في إنتاجه المسرحي.
وكنتيجة لاكتشاف كتاب المسرح العربي لأثر الأزمات الناتجة عن حضور العربية بتقاليدها داخل النصوص المسرحية فقد نمت وبالتدريج (وربما منذ عصر الرواد مثل يعقوب صنوع) المساحة التي تشغلها العامية في المسرح لكونها أكثر حيوية ومرونة ومناسبة للشكل المسرحي.
وقد نتج عن ذلك قضية أخرى وهي المفاضلة بين العامية الشعبية و الفصحى النخبوية حيث برزت في الستينيات محاولة (توفيق الحكيم) التي كانت تهدف لتخليق جسور بين العرض المسرحي واللغة العربية بمستوياتها المختلفة.. حيث كتب عن (اللغة الثالثة) أو اللغة الوسيطة التي تجمع بين القواعد اللغوية و النحوية للفصحى المكتوبة والعامية التي تستخدم في التعاملات اليومية و الفنون الجماهيرية مثل السينما و المسرح ، حيث نجد في نهاية نص مسرحية (الورطة) مقال لتوفيق الحكيم يحلل فيه العلاقة بين العامية و الفصحى ، حيث أشار للعامية كلغة للتواصل اليومي تقوم على الاختزال والتبسيط للفصحى التي هي لغة الكتابة .
وقد عكست تلك الرؤية التي قدمها توفيق الحكيم حالة القلق التي يواجهها الكاتب المسرحي العربي عند التعامل مع الفصحى لكونها تبدو منفصلة وبعيدة عن متلقي العرض المسرحي وتجعله ينصرف عن المسرح الجاد لصالح الفنون الجماهيرية الأكثر استهلاكية والتي لا تهتم بالدور التنموي أو التثقيفي الذي حمله المسرح العربي منذ بدايته كما أشرنا سابقاً .
ويمكن أن يكون لنصي (مولاي السلطان الحسن الحفصي – لعز الدين المدني) و(امرؤ القيس في باريس-لعبد الكريم برشيد) نماذج أكثر قوة بالنسبة لقضية العلاقة بين اللغة الفصحى و العامية الدارجة  ومحاولة إيجاد لغة مسرحية تحقق التواصل مع المتفرج من جهة و تحمل الدور التنويري للمسرح من ناحية أخرى أو بصيغة أبسط محاولة تطويع اللغة العربية الفصحى وجعلها أكثر ملائمة للعرض المسرحي.
إن كلا من النصين ينتمي إلى مشروع مسرحي كبير يمتد لمرحلة التأسيس للمسرح العربي وهو مشروع قائم على الاستفادة من تراث المجتمعات العربية.. وقد شكلت اللغة الفصحى جزءا اصيلا في تشكيله كما شكلت التقاليد الأدائية التقليدية  (كراوى القصص الشعبي) محورا مهما في تشكيله.
في البداية ربما كان من الممكن تحديد سمتين أساسيتبن (من خلال النصين) ترتبطان بموضوعنا أولهما هو محاولة استخدام وتطويع تقاليد الأشكال الأدائية التقليدية لتلائم المسرح (والعكس بالعكس صحيح) أما ثاني تلك السمات فهو الاهتمام بمستويات اللغة العربية بين العامية والفصحي.
ويمكن تحديد السمة الأولي من خلال نص (مولاي السلطان الحسن الحفصي) للكاتب التونسي عز الدين المدني ، فالنص يقوم على الدمج بين عدد من تقنيات المسرح الملحمي الذي أسَّسه المُنظِّر والمخرج والمؤلف الألماني (بريخت).. وأشكال الأداء التقليدية.
"الحمال: لا تبحثوا عن النخبة ! اتركوا النخبة ! إنهم أوصياء ! يجتاحونكم بالوعظ والإرشاد والتوجيه.
 الفحام: لنسأل الجمهور عن الحكم إذن.. يا جمهور ما رأيك في الحكم ؟ كيف ترى الحكم ؟ عبر تكلم. فالحكم لك ، لأن الدنيا لك ، والآخرة لك ، والمصير لك !
الجمهور:...
(النقاش مفتوح ومتواصل)"
يمتلئ النص بالعديد من السمات المميزة للمسرح البريختي؛ فهناك مساحات للسرد والغناء ، كما يحضر بالنص- كما في المقطع السابق- توجه واضح لدفع الجمهور للمشاركة في النقاش حول قضية النص.. ولكن تظل المعضلة الأساسية هنا هي الفارق الواسع بين لغة النص المسرحي الناطقة بالفصحى والجمهور الناطق باللهجات العامية وكيفية تحقيق التواصل المباشر والحي بين خشبة المسرح المعزولة لغويًا وصالة الجمهور المنفصلة لغويًا بدرجة ما ، وهو ما حاول النص تخطيه عبر استخدام تعبيرات عامية و استخدام فصحى بسيطة ، ولكن المحاولة الأكثر جدية للنص للتواصل مع المتفرج كانت تنطلق من اعتماده على التراث الأدائي في المنطقة العربية الذي كان يتميز بتحفيزه للمشاركة الايجابية و الفعالة لجمهور المتفرجين في بناء العمل الفني كالمهرجين الذين كانوا يستخدمون تقنيات ممثلي الشوارع  ..وثَمَّ فإن النص يقوم على محاولة تنشيط ذاكرة المتفرجين الجماعية وخبراتهم الثقافية التي تمتلك نماذج بديلة من المسرح ،تلك النماذج البديلة التي من الطبيعي فيها أن يشارك المتفرج في بناء العمل المسرحي وبالتالي يصل النص لجعل اللغة الفصحى غير غريبة عن المسرح.
ويمكن أن نجد تلك العلاقة بين الفصحى العامية من جهة ، والفصحى والتراث الأدائي قبل المسرحي من جهة آخرى موجودين في نص (امرؤ القيس في باريس) للكاتب المغربي عبد الكريم برشيد.. فالنص قائم على فرضية استدعاء شخصية تراثية (الشاعر امرؤ القيس) من زمن ما قبل ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية.. ووضعه في باريس القرن العشرين..  ولعل ذلك ينعكس في لغة النص في حضور واضح للفصحى.. فكل الشخصيات تقريبًا بما فيها الشخصيات الباريسية تنطق بالفصحى.. ولكن وبالمقابل فإن كافة اللغات المسرحية الأخرى تقوم باستعادة التراث الأدائي العربي غير الواقعي للتخفيف من أثر حضور الفصحى تماماً كما أشرنا في نص(مولاي السلطان الحسن الحفصي)  فالحصان الذي يجذبه عامر خلفه طوال النص هو حصان خشبي.. كذلك فإن المشاهد الدرامية تبدو غير واقعية بالمعنى المباشر للكلمة.
على مستوي آخر فنحن نجد ميلا واضحًا في نص أمرو القيس في باريس لإيجاد تنويعات بين العامية و الفصحى
 "( يخرج البدوي من جانب ليدخل من الجانب الثاني أفندي مصري وهو يدندن بأغنية عتيقة. يقترب من عامر الأعور)
الأفندي: أنت يا ولد يا حبيبي. أخبار البلد فيها أيه؟
عامر الأعور: أخبار البلد لا أعرف عنها شيئًا. ولست أدري – يا حبيبي – إن كان فيها أيه أو أوه
الأفندي: ظاهر عليك – يا واد يا حبيبي – إن دمك تقيل..
عامر الأعور: هذا شيء لأعرفه جيدًا ولكن أنت.. هل تعرف – يا واد يا حبيبي – ان عقلك خفيف ؟
الأفندي: أعوذ بالله.. رجل أعور من عينة ومن كلامه كمان، السلام عليكم يا واد أنت.. يا اللي مش حبيبي"
إن مستويات اللغة تستخدم لإدانة الشخصية المتحدثة بالعامية المصرية.. خاصة أن هناك شخصية مصرية أخرى (الفلاح) والتي من المفترض أنها أقل في المستوى التعليمي والطبقي بحيث لا يمكن أن تتحدث الفصحى..
إن النص يتعصب للفصحى كلغة للهوية القومية وكوسيلة للتواصل.. ويرفض العاميات ويقوم بنبذها سريعًا ليعود من جديد إلى الفصحى التي تصل لمستويات معقدة مع إلقاء شخصية امرؤ القيس لأشعارها التي تنتمي تاريخيًا لزمن ما قبل ظهور الإسلام. ولعل ذلك الميل القومي المعادي للعاميات العربية - التي طالما نظر لها كدلاله على التمزق و التفتت للهوية العربية - هو ما يفسر استخدم برشيد اللغة الفصحى، فرغم أنه كان يهدف في احتفالياته إلى إشراك الجمهور مع الممثلين في حوار لكن توجهه القومي كان فاصلاً تماماً مثلما هو الحال لدى عز الدين المدني في نص (مولاي السلطان.... ) .
ولكن تظل تلك الفرضية التي نقوم بتنميتها حول العلاقة بين مستويات اللغة بين الفصحى والعامية بها ثغرة أساسية وهي أن هناك شخصيات يدينها نصي(مولاي السلطان الحسن الحفصي – لعز الدين المدني) و(امرؤ القيس في باريس-لعبد الكريم برشيد) تستخدم الفصحى كالشخصيات الغير عربية التي تمثل الحضارة الغربية ، حيث نجد أن الفصحى تظل هي أساس بناء لغة الشخصيات الدرامية بينما تظل العامية هي الاستثناء الذي ينحصر دوره في تأكيد حضور الفصحى وتوليد أثر كوميدي.
وربما يكون مخرج تلك الثغرة قابعاً في رؤية نصي (برشيد و المدني)  التي ترى أن الفصحى هي لغة الأفكار و الخطابات التي يرغب النص في التأكيد عليها بينما العامية تحضر للتسفيه و الترويح الكوميدي .
إن استخدام الفصحى يأتي هنا للتأكيد على انتماء لهوية وتأتي التعبيرات العامية لتحقيق التواصل مع المتفرج لمساعدته للتواصل مع الفصحى وربما هذا ما يتفق فيه المدني و عبد الكريم برشيد مع رؤية توفيق الحكيم عن اللغة الثالثة.
ربما يتفق معهم في استخدام الفصحى  نص (الفيل يا ملك الزمان) للكاتب السوري الراحل سعد الله ونوس .. فالنص يلجأ للفصحى كخيار فكري، فيمكننا أن نرى القضية الأساسية التي يناقشها هي مشكلة الحكم في المنطقة العربية (تمامًا مثل غالبية النصوص التي نتعامل معها هنا) وهو يستخدم الفصحى لاستكمال رؤيته المتشائمة التي ترى أن أساس مشكلة الحكم هي خضوع تلك المجتمعات للطغيان وتماثل مواقفها.. وهو ما يتضح في عدم وضوح سمات مكانية لمكان وقوع أحداث المسرحية.
" (المسرح فارغ. زقاق تحصره في الخلف بيوت بائسة يتراكم عليها القدم والأوساخ. جلبة بعيدة وراء المسرح. ولولة امرأة تصرخ. أقدام تركض
يستمر هذا الجو الثقيل فترة
يعبر الزقاق رجل مسرع الخطى متجهم الوجه )
الرجل : لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم..."
لا يمكننا هنا تبين ملامح واضحة أو سمات محددة لمكان بعينه أو لدولة بعينها.. فزمن العمل الدرامي ورغم عدم وضوحه يشير لفترة العصور الوسطي ولكن التعبير اللغوي الذي يستخدمه الرجل ورغم أنه مصوغ بالفصحى فإنه تعبير عامي  شائع في أغلب البلدان الناطقة بالعربية بسبب كونه تعبيرا دينيا يستخدم للتعبير عن الصدمة والتسليم بحكم القدر الذي لا يمكن تغييره لأنه بيد الله.
بالتأكيد فإن استخدام ونوس لذلك التعبير يمكن أن نتخذه مؤشرًا على الهوية الثقافية لمجتمع النص، كما يمكن أن نتخذه مؤشرًا على أن النص يحاول استخدام فصحى بسيطة وقريبة من التعبيرات الشائعة داخل المجتمعات العربية المختلفة كما فعلت نصوص (أمرؤ القيس...) و (مولاي السلطان....)
اما نص (مسافر ليل) فإنه يحتل مكانة مميزة في تلك الدراسة التي نحن بصددها.. فالنص -على مستوى أولي- منسوب إلى أحد أهم شعراء الفصحى خلال القرن العشرين صلاح عبد الصبور الذي يعتبر من رواد الحداثة في الشعر العربي المعاصر وله دور مهم في ترسيخ شعر التفعيلة وتطوير المعجم اللغوي للشعر العربي عبر إدخال مفردات وصيغ عامية إلي قصيدة الفصحى.
على مستوى ثان فإن نص (مسافر ليل) يمتلئ بالكثير من السمات اللغوية المميزة كما يتضح في أسماء الشخصيات و التعبيرات اللغوية.
" عامل التذاكر: ليس أسمك عبده.. إنك تكذب
الراكب : بل إني عبده
أقسم لك
وأبي عبد الله ، وابني الأكبر يدعي عابد
وابني الأصغر عباد ، وأسم الأسرة عبدون "
يقوم النص على استخدام دلالة العبودية التي تحملها تلك الأسماء للتأكيد على طبيعة شخصية الراكب، كما يستخدم بالمقابل أسماء زهوان وسلطان للتدليل على شخصية عامل التذاكر.
إن ذلك الاستخدام للغة يمكن أن يكون دليلا لنا عند التعرض لنص مثل (مسافر ليل) فاللغة لا تقوم فحسب بدور في تحقيق الاتصال بين المتلقي والعمل الفني لكنها وقبل ذلك تمتلك جماليتها الخاصة التي تقوم باستعراضها كما تحاول أن تقدم مستويات متعددة من المعاني عبر خلال اللعب بالألفاظ.
ولكن وعلى الرغم من ذلك تظل اللغات المسرحية الأخرى حاضرة بقوة في النص.. فنجد إشارات للإضاءة ولحركة الشخصيات في الفضاء.. الخ
من خلال كل ما سبق يمكننا أن نستنتج أن هناك محورين أساسيان يعمل عليهم كتاب المسرح العربي منذ زمن نشأة المسرح العربي وحتى اليوم :
أولهم: يتعلق بالعلاقة بين اللغة العربية و تقاليدها الكتابية التي تجعلها أكثر ملائمة للقارئ و العرض المسرحي الذي لا يعتمد على اللغة بل يقوم بتحويلها إلي أحد عناصره و أحد اللغات التي يتواصل بها مع المتفرج كالضوء و اللون و الصوت.. وهو ما جعل من الضروري للكتاب البحث عن لغة وسيطة و قريبة من العامية.
ثانيهما : يتعلق بمحاولة الكتاب الاستفادة من التراث الأدائي الخاص بالمنطقة العربية (الحكواتي- راوي السيرة – المهرجين و ممثلي الشوارع  - خيال الظل والعرائس .. الخ) للتلاقي مع الخبرات الثقافية للمتلقي العربي . 
في النهاية تجدر الإشارة إلى أنه ربما يصعب علينا وفي تلك الحدود الضيقة أن نطمح إلى ما يتجاوز الإشارات السريعة إلى أزمة المسرح في التعامل مع اللغة العربية؛ فهي خيار أيديولوجي يستهدف التأكيد على تماثل كافة المجتمعات العربية في الوعي بالعالم وبالقدر نفسه في مواجهة الغرب.




* فرق مسرحية جوالة كانت منتشرة في مصر حتى النصف الأول من القرن العشرين.. ولم يكن يسمح للنساء بالمشاركة بها .. وقد تميزت عروض تلك الفرق باعتمادها على الارتجال و الكوميديا.. وكانت تقدم عروضهم في الشوارع أو أثناء الاحتفالات الدينية أو بالحفلات الخاصة ببيوت الأمراء و الأثرياء. 

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...