الخميس، فبراير 04، 2016

النجاة .. عين السلطة في غرفة المرايا

في العادة ما تكون الكتابة عن ذلك النوع من العروض التي تقدم بفضاءات غير تقليدية - مثل الأماكن المفتوحة و الأماكن المؤقتة - مغرية بدراسة شبكة العلاقات الفضائية المعقدة التي يتموضع في مركزها العرض المسرحي ، تلك العلاقات  التي تعيد ترتيب الفضاء و تفتح الباب نحو نقض ما هو مألوف و مستقر لصالح الفضاء المسرحي بكل ما يحمله من مستويات متراكبة ومعقدة .
ولكن من ناحية أخرى فإن عرض "النجاة" - للمخرج محمود السيد وفرقة نمط المسرحية - الذي قدم بشقة بشارع القصر العيني لم يكتف بان بالإستفادة من شبكة العلاقات الفضائية التي يطرحها موقع الأداء فحسب ، بل  حاول ايضا إعادة تشكيل شبكة العلاقات بالنص المسرحي لنجيب محفوظ  حيث  قام المخرج و المعد بعملية استبدال لشخصية الصديق لدي نجيب محفوظ بشخصية "الصديقة/ منى سليمان" كما قام بإضافة الكثير من الأسطر الحوارية التي تحيل للواقع السياسي بالإضافة للتصور السينوغرافي الذي قام بتفتيت الفضاء الأدائي المفترض بالنص بين أكثر من موقع داخل الشقة(فضاء العرض) .
ولكن بين شبكة  العلاقات المعقدة المشكلة لفضاء العرض و النص يمكن أن نجد ما هو أكثر بروزاً وحضوراً بالعرض أنه ذلك العالم القائم على حافة النهاية و المعرض بشكل دائم لحضور السلطة بداخل عين المتلقي و الشخصيات و المؤدين وفي الفضاء الدرامي .. الخ .. تلك السلطة المراقبة و الضابطة التي تحضر في كل شيء وتراقب الجميع.
ولعل ذلك يتحقق بشكل اساسي من خلال الفضاء الخاص (الشقة) الذي يحوله العرض لفضاء عام وذلك عبر الحضور الجسدي (للمتلقي/المشارك) كعنصر تفتيت و تدمير لخصوصية المكان و هويته دورره  كمراقب تنعكس قوة حضوره دائماً في حضور غيره من المتلقين الذي يشاركونه المراقبة (ويرقبون حركته ) للحد الذي يصل لدرجة القسوة كما يحدث في مشهد ممارسة الجنس خلف حاجز أو في مشاهد غرفة النوم أو الحمام .. الخ .
من هذا المدخل سنطلق في تحليلنا لعرض النجاة الذي قدم بمقر شركة "أوزوريس للإنتاج الفني والتدريب" الكائن بأحد مباني منطقة وسط البلد و الذي يمتلك تصميم حداثي مبكر من حيث ضخامة المبني وقوة التصميم و التي ألقت بظلالها على العرض بدورها . حيث يبدأ العرض مع  الدخول التدريجي للمتفرجين إلي الشقة بحيث يتزايد عدد المتفرجين تدريجياً في مقابل حضور خامل لبطل العرض (الرجل/ أدهم عثمان) الذي يخرج من الحمام ويتناول عشاء بسيط ثم يذهب لغرفة النوم و ينام في ظل مراقبة لصيقة للمتلقين المحيطين بالسرير و التي وصلت لجلوس متفرجة على طرف السرير لتراقبه اثناء نومه !! ثم تتعالي طرقات مذعورة على باب الشقة ليبدأ الحدث الدرامي مع وصول (المرأة/ آيات مجدي) التي تطلب منه أن يقوم بإخفائها من الشرطة لإرتكابها جريمة ترفض الإفصاح عنها ووسط أصراره على معرفة سبب هروبها ومجادلتها معه يطرق الباب من جديد لتدخل (الصديقة/ منى سليمان) ورغم أختباء المرأة في غرفة ملحقة بغرفة النوم (وهو ما ترافق مع أحتجاز عدد من المتلقين معها بالداخل) فإن الصديقة تحدس وجود امرأة وتتحرك في الشقة و تعد لنفسها كوب شاي .. قبلما يطلب منها الرحيل و لكن قبل رحيلها تصل الشرطة (أحمد السقا)وتسأله عن أمرأة مختفية فينكر فيطالبونه بتوقيع أقرار فيوقعه مجبراً .. ليعود بعد رحيل الصديقة لمساجلة المرأة في مشهد طويل وممتد يتضمن ممارسة الجنس و الرقص و السكر و الحديث حول الحب و الموت والانتحار .. الخ لينتهي العرض بإنتحار المرأة وعودة الصديقة و الشرطة التي تدخل غلي الشرفة وتطلق النار وتطلب منهم المغادرة دون أن يكتشفوا موت المرأة .. لينتهي العرض ببكاء الرجل إلي جوارجثة المرأة و هو يخبرها بأنهم قد نجوا أخيراً بينما يتحلق حولهم المتلقين.
لعل أهم ما يمكن الخروج به من هذا الوصف السريع و المختزل للعرض هو الحضور الطاغي لعلاقات السلطة و المراقبة طوال الوقت فالسلطة بمستوياتها المتعددة حاضرة و مخترقة لكل جوانب التجربة سواء على مستوي العلاقات الدرامية بين الشخصيات أو على مستوي علاقة المتلقين بالعرض ، فعلى مستوي العلاقات الدرامية نجد حضور المرأة إلي عالم الرجل واختراقه وبالمقابل فإن الرجل يقوم بممارسة الجنس معها في علاقة أقرب ما تكون للإغتصاب فهم يتبادلون السلطة وبالتالي تأتي الصديقة كمراقب خارجي وتهديد بالكشف لمنافسة جنسية ثم الشرطة التي يظل حضورها طاغياً وضاغطاً طوال الوقت .. فهم بالشارع وبالطرقة أمام باب الشقة كسلطة تطارد و تقمع و تحاصر الرجل و المرأة.
وكذلك الحال بالنسبة لعلاقة المتلقي ذلك المراقب الخفي الذذي يستطيع التجول بالمطبخ و الحمام و غرفة النوم متفحصاً اجساد المؤدين و مراقباً لحركاتهم و مفتشاً في اوراقهم الخاصة (كما هو الحال في الخطاب الذي تكتبه المراة لحبيبها حول علاقتها به و الوطن .. الخ) .. لكنه ومن جانب اخر يتحول ونتيجة لطبيعة تصميم الشقة لمراقب بالتالي فهو يتجمهر بالمطبخ الضيق إلي جوار غيره من المتلقين ، يشاهد انعكاس صورته وصورة غيره من المتفرجين على المرآة الكبيرة المثبتة خلف السرير ، وبالتالي فذلك المراقب / المتلقي يفقد ذلك الأمن والخفاء التقليدي الذي يحظي به في المسرح التقليدي الذي يضمن له موقع مريح ومنفصل وبعيد عن الإضاءة المباشرة و الكاشفة التي تغمر المؤدين .. انه هنا متورط يشعر بحضور جسده وهو يتحرك داخل الفضاء وقد تحول إلي عنصر تشكيلي .
أن كل تلك التداخلات لعلاقات المراقبة و التأكيد على حضور الجسد و مراقبته كانت هي العنصر الأكثر بروزاً بالعرض الذي قام بتحويل مكان خاص (شقة) إلي فضاء مسرحي يتملك طبيعة المكان العام وهو تحول مركزي في بنية علاقة المتلقي مع المكان حيث يؤدي إلي حالة من الإرتباك وعدم أنصهار الذوات الفردية داخل ذات جماعية (جمهور) كما يحدث في المبني المسرحي كما يؤدي ذلك إلي تصعيد حالة المراقبة للحدث إلي حالة مراقبة لصيقة للمؤدين المنفصلين عن المتلقين ومتجاهلين لحضورهم حيث  ينعكس ذلك بدوره على المتلقي في صورة قلق وعدم أستقرار خاصة مع حركة المؤدين داخل الفضاء .
وبالتأكيد فإن الجهد الأدائي في العرض يحمل جهداً مضاعفاً عن الأداء في فضاءات مسرحية تقليدية حيث حرص المخرج على تحقيق أعلى قدر من الإنفصال بين الفضاء الدرامي وفضاء العرض بشكل يتناقض مع التداخل الحميمي و غير المنتظم بين فضاء المؤدين و فضاء التلقي ، ولعل ذلك الجهد البارز للمؤدين يتجلى في حدوده القصوى من خلال اللغة الفصحى التي تقطع الفضاء و تضع حاجز قوي وعميق بين عالم التلقي و عالم العرض .
ولكن وعلى الرغم كل ما يقدمه الفضاء من أمكانيات و برغم الجهد الأدائي لكل من (أدهم ، آيات ، مني ..) فإن العرض قام بخلخلة الكثير من تلك الإمكانيات عبر أحتفاظه باللغة الفصحى لنص "نجيب محفوظ" والتي لم تسهم في أضافة أي معني للعرض بقدر ما ساهمت في تفتيت شبكة نظرة السلطة التي تتردد كغرفة المرايا بين المتلقين و العرض و بعضهم البعض .


هناك تعليقان (2):

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...