الثلاثاء، سبتمبر 05، 2023

الإلياذة في ساعة ونصف

 هل يمكن لعرض مسرحي تقديم الإلياذة بأكملها؟! ربما يبدو ذلك السؤال غير ذا قيمة هنا ونحن نتناول عرض يشير منذ البداية (وعبر عنوانه) إلي أنه يقدم للمتفرج إلياذة هوميروس كاملة ... لكن لنعد خطوة للخلف ولنحاول التعرف من جديد على العالم الذي يقدمه لنا العرض، الإلياذة وببساطة ملحمة شعرية تتناول وقائع الحرب بين طروادة والآخيين القادمين عبر البحر لاستعادة هيلينا التي اختطفت بواسطة باريس الأمير الطروادي من زوجها، وبالإضافة لذلك فإنها تعد مركز تجميع وبناء تتشكل حوله للأساطير اليونانية التي تمتد لأجيال سابقة على وقائع تلك الحرب كما تمتد لعقود تالية لنهايتها حيث تشغل حرب طروادة في الأساطير الإغريقية موقع مركزي فلا يمكن فصلها ببساطة عن تلك السردية الإغريقية الكونية، كذلك فإن الإلياذة تجسد لحظة تداخل درامي بين عالم آلهة الأولمب وعالم البشر حيث ينقسم الآلهة بين مؤيدين للطرواديين ومؤيدين للآخيين بل ويشاركون في المعارك بشكل مباشر، وأخيرا يمكن لنا أن نشير إلى أن وقائع الإلياذة لا تسجل  فقط سلسلة المعارك التي دارت بين المتحاربين؛ بل أنها تشكل جزء من المرجعيات الثقافية الأساسية للهوية الأوروبية ... أنها ليست مجرد حكاية عن حرب صغيرة، أنها جزء من سردية ثقافة كاملة حول هويتها ورؤيتها للعالم فبعض خيوطها الحكائية وشخصياتها كانت ولم تزل تشكل مصدر أساسي من مصادر السرد والدراما في أوروبا بشكل عام. وفي مقابل كل ذلك فإنها قادرة على ملامسة مواقع أكثر عمقا في الطبيعة البشرية مثل الغضب والحزن والشجاعة ... الخ وهو ما يهبها قيمتها في التراث الثقافي الإنساني بصورته الأكثر أتساعا .... فهل يمكن بعد كل ذلك نتخيل كيف يمكن تقديم كل ذلك بعرض مسرحي؟!

أن ذلك السؤال ربما يمكن أن يمثل مدخلنا للتعامل مع عرض "إلياذة هوميروس" لفرقة ميكروس فوراس اليونانية والمخرج (تاسوس راتزوس) والذي قدم على خشبة المسرح القومي بالعتبة ، ذلك أن التقنيات الدرامية والمسرحية التي أعتمدها سوف تصبح بالتأكيد محور أساسي في مسألة العرض ومحاولة التفكير فيه ، خصوصا مع المسافة الثقافية الفارقة بين الثقافة واللغة اليونانية التي يستند إليها العرض بشكل أساسي والثقافة واللغة العربية التي يمتلكها المتفرج ... ليصبح السؤال هنا هل أستطاع العرض تخطي كافة تلك الحواجز الثقافية واللغوية والتحديات المتعلقة بكيفية التعامل مع مادة شديدة الاتساع والتنوع عبر تلك التقنيات التي أعتمدها في علاقته مع جمهور مغاير لجمهوره المستهدف.

لا يمكن بالطبع أنكار ذلك المجهود الواضح للمخرج ومجموعة المؤديين في تشكيل – وإعادة تشكيل - مساحة أداء محدودة بشكل ديناميكي ومستمر، حيث يقوم المؤدين بالتنقل بين العديد من الشخصيات والأحداث التي تتصاعد ببطء شديد بداية من غضب أخيل وانسحابه اعتراضا على استيلاء أجاممنون على فتاة يمتلكها ، مرورا بمعارك الكر والفر بين الطرواديين والآخيين وبالطبع الأدوار التي قامت بها الالهة اليونانية في دعم طرفي الصراع قبلما ينتهي العرض باستعادة بريام لجسد أبنه هكتور من قاتله آخيل وذلك في تتبع لفصول الإلياذة بقدر كبير من الإخلاص الذي يتشكل عبر الحكي والأداء والسخرية والغناء والرقص والقتال ...

يتشكل المخرج ذلك الفضاء المحدود والمجرد عبر حركة جسد المؤدي ومجموعة من العصي التي يتم استخدامها بشكل مستمر في بناء وتحديد (وإعادة بناء) الفضاء المسرحي، قد تكون تلك التقنية مألوفة وغير مبتكرة لكنها تكتسب قيمتها هنا من قدرتها على طرح بدائل بسيطة وسهلة الاستخدام لتقديم عالم حكائي ممتد ومترامي الأطراف في إطار من المسرحة التي يدعمها العرض عبر الحديث المباشر للجمهور وعبر الإنارة المباشرة والمحايدة والمكشوفة المصادر لفضاء الأداء وهو ما يكشف لنا عن  طبيعة خيارات العرض القائمة على خلق علاقة مباشرة وآنية مع متلقيه عبر خيارات المسرحة والحكي التي ينتهجها.

ربما تحيل تلك التقنيات للطبيعة المفترضة لجمهور عرض (إلياذة هوميروس) حيث تقدم هنا حكاية ملحمية تفترض في المتلقي الإلمام بخيوطها العامة في إطار حميمي مجرد من كافة عناصر التأثير الإيهامى وذلك عبر الحضور الواضح لعناصر المسرحة وهو ما يمكن توضيحه من خلال الملابس البسيطة والمحايدة غير المهتمة تجسيد المرحلة الهيلينية، وبالتالي فالعرض يراهن بشكل أساسي على خلق مسافة مزدوجة بينه وبين هوميروس ، وذلك عبر إيجاد علاقة مباشرة بين العرض وجمهوره عبر السرد والغناء، واستغلال الروابط الثقافية التي تربط بين ذلك الجمهور وموضوع العرض ، وهو ما يمثل أول وأهم عائق يواجه العرض عندما يلتقي بجمهور مغاير .

قد يبدو الأمر بالنسبة للمتفرج - غير المنتمي لثقافة أو لغة العرض حتى مع توافر الترجمة الإنجليزية- غريبا إلى حد ما على حيث بيدو من الضروري امتلاك المتلقي لعلاقة مع الملحمة الإغريقية ودراية بشبكة العلاقات المعقدة التي تتجاوز الملحمة ذاته حتى يمتلك القدرة على بناء معني للصورة المسرحية المتطورة والسريعة التحول... كما يجب عليه مقاومة حاجز اللغة والتواصل مع العرض من خلال الإيقاع البصري السريع والقوي للعرض.

ربما يؤدي ذلك كله بشكل مباشر في بعض الأحيان إلى فقدان العلاقة مع العرض القادم من ثقافة مغايرة وتراث مغاير محملا بالإضافة إلي ذلك لرهان القدرة إعادة بناء علاقة المتلقي مع الملحمة وعالمها في إطار أكثر حداثة وبساطة تنزع عنها الهالة الأسطورية ويقوم بإعادة تقديمها في صورة مرحة تهبها قدر من الحيوية.

في النهاية ربما يكون صناع (إلياذة هوميروس) قد نجح في تقديم عرض حيوي وسريع الإيقاع للإلياذة التي تبدو للوهلة الأولي عصية على الإلمام بها في حدود درامية تقليدية، لكنه ومن جانب أخر لم يستطع تجاوز علاقاته المباشرة بجمهوره المستهدف إلي جمهور أوسع ومغاير عبر الصورة المسرحية التي بذل في تشكيلها الكثير من الجهد ، حيث ظل في النهاية مقيدا في حدود قدرة المتفرج على الاتصال به بشكل أساسي.

 

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...