السبت، سبتمبر 09، 2023

أنتيجون لاتفيا ... أنتيجون مجتمع الصورة

ضمن فعاليات الدورة الثلاثون لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي قدمت المخرجة والمصممة والمؤدية  "بيروت رام" – من لاتفيا - عرض أنتيجون والعرض ينتمي لنوعية المونودراما حيث تقوم  المؤدية بالانتقال بين الشخصيات الأساسية لمسرحية أنتيجون سوفوكليس وذلك عبر تنويعات صوتية وتجسيد بصري للشخصية من خلال الوضعيات الجسدية المميزة لكل شخصية بالإضافة للتغيرات البسيطة في تشكيل رداء المؤدية، وفي مقابل ذلك فإن عرض "بيروت رام" لم يسعى لتقديم صوت الجوقة الجماعي بل توجه إلي تجسيد تلك الجوقة عبر شاشة عرض تشغل خلفية الفضاء المسرحي الفارغ  من خلال  مجموعة من مقاطع الفيديو التي تقدم تصور تشكيلي يتدرج من حالة التجريد في بداية العرض وتصل لتقديم مقاطع لوجوه وأيدي مجموعة الجوقة.

يطرح العرض الكثير من الإشكاليات التي تتعلق بكيفية التعامل مع الدراما الإغريقية في القرن الحالي وإعادة بناء عالمها بما يتوافق مع الوضعيات الحالية التي تهيمن عليها حالة ما بعد حداثية تحتل فيها الصورة موضع متقدم وأساسي في بناء ما يطلق عليه العالم والواقع والحقيقة، حيث يتحول حضور المجتمع بوصفه فاعل من وضعية شراكة الواقع مع الفرد لوضعية جديدة يشتبك فيها المجتمع والعالم والحقيقة مع عالم الصورة الذي تتآكل فيه مفاهيم الخصوصية الفردية والجماعية والواقع والحقيقية وذلك بشكل متزامن.

من هنا فإن عملية إزاحة الجوقة لعالم الصورة ربما كانت أهم ما يمكن التوقف أمامه في عرض أنتيجون لبيروت رام فالجوقة التي كانت تمثل الصوت الجماعي لم تزل تحتفظ في العرض بالوضع البيني التي كانت تمتلكه في دراما سوفوكليس فهي على مستوي أول جزء من العالم الدرامي وعلى مستوى ثاني منفصلة عنه وتمتلك القدرة على التعليق والنقد. أن تلك الوضعية الوسيطة حاول العرض المحافظة عليها عبر استثناء الجوقة من عملية انتزاع تمايز الشخصيات عبر تقديمها من خلال جسد أدائي واحد، ولكن العرض ومن ناحية ثانية قام بتحييدها عبر خياره المتمثل في تقديم الجوقة عبر مقاطع فيديو تنتزع الميزة الخاصة بالجوقة بوصفها صوت جماعي معلق ومشارك في العرض المسرحي ضمن تلك الوضعية الوسيطة بين موضع المؤدي وموضع الجمهور، أن الجوقة هنا هي مجموعة من الصور المنفصلة عن اللحظة المشتركة بين المؤدية التي تقدم لجمهور العرض دراما متعددة الشخصيات، وذلك الانفصال يجعل الجوقة غير مشاركة في بناء العرض وفق التصور الإغريقي أو حتى الحديث الذي يعتمد على حضورها بوصفها تجسيد للصوت الجماعي لمجتمع النص و/أو المجتمع الواقعي، ولكن وعلى مستوي أخر فإن تلك الهيمنة التي تمتلكها شاشة العرض إزاء الفضاء المسرحي وجسد المؤدية ربما تشير لذلك الحضور المهيمن لما يمكن أن نطلق عليه جوقة عصر الصورة وهو ما يدفع بأي تحليل لذلك العالم لمحاولة التفكير في تلك العلاقة التي تربط بين أنتيجون الإغريقية وأنتيجون المعاصرة.

أن معركة أنتيجون مع كريون كما قدمت في نص سوفوكليس هي ليست معركة أخلاقية بقدر ما هي معركة بين السلطة الوضعية التي يمثلها كريون والناموس الكوني الذي تسعي أنتيجون لتحقيقه عبر إقامة الطقوس الدينية على جسد الأخ الملقي في العراء دون طقوس العبور والدفن التي تساهم في عملية انتقاله للعالم الأخر، ربما يبدو ذلك الصراع غير ذا صله مباشرة بعالمنا اليوم  إلا إذا ما فكرنا في الصراع بين سلطة الدولة القومية الحديثة العلمانية والسلطة الدينية الكونية التي لم تزل أكبر وأشرس خصوم تلك السلطة، لكن وبالعودة للعرض فإن العرض يضع ثقله في عمليات الإدانة الأخلاقية والسياسية لكريون بوصفه ممثل السلطة ويميل للتعاطف (في أتباع لرؤية سوفوكليس) مع أنتيجون التي لم تفعل شيء سوى وضع حفنة رمل فوق جسد الأخر ليصبح العقاب النهائي هنا متمثل في الكارثة التي تلحق بكريون بموت أبنه وأبنة أخته (أنتيجون) نتيجة إصراره على تطبيق قانون الدولة الذي ينزع كافة حقوق المتمرد والخائن.

أن ذلك الخيار للعرض ربما يرتبط هنا بعملية التأويل الحديث لأنتيجون بوصفها صراع بين سلطة الدولة القومية الحديثة والقيم الأخلاقية والإنسانية والفردية ... الخ وهو ما سبق تقديمه أكثر من مرة من خلال أنتيجون جان أنوي وبريشت وربما الكثير غيرهم وذلك من مواقف متباينة من تلك القضية، حيث يبدو العرض في سعيه ذلك متسقا مع الرؤية المناهضة للسلطة التي تمثلها الدولة الحديثة بوصفها تضافر بين سلطة الحاكم والمجتمع لصالح ما هو أنساني وهو ما يجد تمثيله الأكثر قوة في شكل المونودراما الذي يحل فيه الفرد موقع المركز في مقابل الجماعة .

أن ذلك التصور يسق مع العرض المنتمي لتصنيف  مسرح المهرجانات – بحسب بافيس – والذي يتوجه إلى جمهور دولي من الخبراء والذي يسعى إلى تكييف نفسه مع الموضات والتوقعات في ذلك الجمهور الدولي ، لكن المسافة الفاصلة بين أنتاج العرض الأول في بداية العقد الأول من القرن الحالي وزمن عرضه الذي تبدو فيه تقنياته غير قادرة على التعبير عن اللحظة الراهنة التي يقف فيها العالم أمام أسئلة جديدة ووضعية مخالفة مع عودة صعود الدولة القومية في مقابل العولمة الاقتصادية والثقافية تجعله غير قادر على تحقيق تلك المتطلبات التقليدية لمسرح المهرجان بكل التي أصبحت فيها المونودراما غير قادرة على التعبير عن ذلك الواقع وتحدياته ومتطلباته والتي لم يعد من الممكن للعرض أن يتلاقى فيها مع تلك الجماليات التي يطرحها إلا عبر العلاقة بين شاشة العرض التي تحتل موقع مركزي.

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...