السبت، سبتمبر 23، 2023

أما بعد .. أرواح تئن خلف قيود الجماليات السائدة

 

منذ عام وفي إطار مشاركتي ضمن لجنة اختيار العروض المصرية المشاركة في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي برزت أمامي ملاحظة بدت ساعتها مدهشة ومثيرة للفضول وهي أن هناك انجذاب متنامي بين المسرحيين الشباب نحو أنواع الخيال العلمي والفانتازيا وهو أمر يمكن تفهمه في إطار التعقيدات الرقابية المتصاعدة التي ما أن تظهر حتى تدفع بالفنون – بشكل عام- للانحسار ومفارقة الواقع والقضايا التي تشغله ليكون البديل هو الغرق في العوالم الاستعارة التي توفر أرض أمنه للمبدعين، لكن ما كان مدهشا بشكل أكبر هو أمكانية رصد خطاب مناهض للعرقية ضد السود وهو ما يعد أمرا حميدا في ذاته لكن تكراره والتأكيد عليه في أكثر من عرض جعل من الممكن بالنسبة لي رؤيته ليس بوصفه خطاب مضاد للمركزية العرقية ولكنه بوصفه نتيجة جانبية للانفتاح على الفنون السائدة جماهيريا وتأثيرها الكبير على الفنانين الشباب ، وبدأ ساعتها أن ذلك ما يبرر انغماس الكثير من العروض في الخطابات والأنواع الفنية السائدة عالميا ، بينما وعلى أرض الواقع فإن تلك العروض خاضعة لعمليات التلقين الجمالي والسياسي التي تقوم بها المينستريم ، لقد تجلت لي ساعتها تلك الملاحظة بوصفها دليل جديد على عدم قدرة المسرح المصري على تناول ما يشغل المجتمع المصري والجمهور المستهدف وانكفائه على مواد استهلاكية خفيفة تمتلك رهانات أمنه في علاقتها بالواقع والجمهور.

لكن وبعد عام ومع استمرار وتنامي تلك الأنواع الفنية فمن الممكن ملاحظة أنها صارت أكثر قدرة على الضغط على العروض وتقنيات الأداء التمثيلي التي أصبحت أكثر انغماسا في تقاليد الأداء الواقعي النفسي الذي لا يقطع تمدده وهيمنته سوى الانفجارات العاطفية القوية ذات الصبغة الميلودرامية. لكن وفي النهاية فإن ذلك التفسير الذي كنت أميل إليه لم يعد قادر تقديم معني سوى على المستوى التقني لكن وعلى مستوي أعمق قليلا لا يمكننا من رؤية ما يشتعل تحت السطح الذي يمكن وصمه بالخفة والانخطاف لتأثيرات المسلسلات والأفلام الأمريكية الممزوجة بالنماذج الجمالية السائدة والمنقولة التي تستنسخ ذاتها في العروض المسرحية. فخلف تلك السيادة للأنواع الجماهيرية والتقاليد الجمالية المجترة يمكن أن نجد ما يفسر تلك الظواهر الفنية السائدة.

يقوم عرض أما بعد للمخرج مينا نبيل والمؤلف أنس النيلي والذي قدم ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي (زكي طليمات) بالمعهد العالي للفنون المسرحي على بناء عالم بديل يمكن فيه للشخص الذهاب لمكان يسمي المكتبة والانتقال للمستقبل عبر خط التاريخ المراد الانتقال إليه والعودة قبل دقات ساعة ما وفق شروط محددة وإلا فإن من يقوم بتلك المغامرة يضيع في الزمن بين الحاضر والمستقبل ، بالطبع لا يوجد هنا ماضي ، بل لا وجود لإمكانية العودة للماضي وفق تلك الفرضية ففي ذلك العالم لا يوجد سوى حاضر ومستقبل قائم بالفعل (حاضر مؤجل) بينما لا وجود للماضي سوى في صورة حنين رومانسي خافت عبر صور للأب والأم والتي أختار العرض أن تكون صور تنتمي للنصف الأول من القرن العشرين ومنزل والد ليلي القابع خلف ستار يموهه ويضفي عليه حالة ضبابية، عالم بعيد لا وجود له ولا أمكانية لاسترداده، في فالمقابل فأن ذلك العالم الذي شكله العرض مقيد بحاضر أبدي تهيمن عليه قوانين قدرية لا يمكن الفكاك منها ولا يمكن الهروب من أسرها .. وكل شي في كتاب سحري موجود في مكتبة عالقة في فراغ مرتفع أعلى المسرح، بينما ذلك الحاضر مقيد بخيوط تشبه خيوط العنكبوت تعلو الديكور الواقعي الذي يبدو شديد الفقر بصريا ومزدحم، حاضر لا يملك سوى البقاء أسفل تلك الهيمنة للقدر المتلاعب والمتسلط  الذي يقود الشخصيات لمصائرها مهما حاولت الهروب منه....  ربما يبدو الأمر تجسيد للتصور الديني التقليدي حول الكتاب الذي يحمل تاريخ الشخص والذي يسطر معه بل ووفق رؤى متشددة ترى القدر مكتوب قبل وجود الإنسان أصلا، أنه أمر مثير للخيال بالطبع فعبر تاريخ طويل أمتلك الإنسان ذلك الوهم بإمكانية رؤية المستقبل عبر الكتب، فالكتب ليست مجرد ناقل للمعرفة فحسب، بل انفتاح على العالم وتجاوز للحاضر، لكن ذلك العالم الذي يصنعه أنس النيلي ومينا نبيل ليس عالم البحث عن المعرفة للفكاك من الحاضر صوب المستقبل الغامض والأفضل ، أنه عالم يمتلك شروطه الخاصة فيما يتعلق بتلك المعرفة وكيفيه أقامتنا لعلاقة معها في ظل قيادة لشخصية نسائية ترتدي الأسود وتكرر ذات الشروط بشكل مستمر ودون تغيير.... الكتاب ليس مجرد كتاب أنه بوابة مشروطة للمستقبل الذي هو جزء من ذلك الحاضر الأبدي، بوابة في موقع مفارق ومتعال تنفتح نحو الحاضر دائما، حتى لو كان أسمه المستقبل. بالطبع فإن العرض يأخذ تلك الشروط بقدر كبير من الجدية من خلال التأكيد على عدد الضائعين في الزمن بين الحاضر والمستقبل عبر صوت الراديو. لا يتم توضيح معني ذلك الضياع بشكل محدد لكنه يعني بشكل عام الموت، فعدم الخضوع للذهاب المستمر للحاضر / المستقبل يعني الموت أو الفناء أو التيه الأبدي.

تبدو الفرضية الأساسية هنا مرتبطة بنوع الواقع البديل وهو ما يمكن أن يصنف العرض ضمن حالة الانجذاب للأنواع الفنية السائدة والتي يمكن أن نجد أثارها في الرواية والمسلسلات والسينما، ذلك الانجذاب الذي خلق أباء له مثل الكاتب أحمد خالد توفيق قبل أكثر من عقدين، انجذاب لمفارقة الواقع والهروب منه صوب عوالم استعارية تحقق الانعتاق من ثقل ذلك الواقع وتعيد تجسيده ضمن استعارة اختزالية تحدده وتقلصه وتسعي للاندماج للخبرة الجمالية السائدة والخضوع لشروطها.

في مستوى أول يمكننا أن نري ذلك التوجه بوصفه تخل عن المشروع السياسي والجمالي الذي حمله المسرح المصري الجاد لعقود طويلة والذي كان يحمل رؤية حداثية لصالح انغماس في عولمة ثقافية تفرض شروطها الخاصة بالأنواع والجماليات السائدة. لكن ذلك ليس سوى سطح أيضا فخلف ذلك يمكننا أن نري تلك الرؤية التشاؤمية التي يحملها العرض والتي لا تري أمكانية الفكاك من الحاضر المتداع والذي يتجه نحو موت حتمي لا يمكن مواجهته سوي بالأسي الذاتي الذي تحمله كل الشخصيات، أسى على الإمكانات المهدرة عبر الحكاية الرومانسية التي يقدمها العرض والتي يمكن تلخيصها عبر رحلة ثلاث شخصيات تمتلك ميول فنية تحاول الفرار من المستقبل المرسوم لها (الموت/الوحدة/الارتباط بوظيفة) المستقبل الذي يمكن اختزاله ببساطة في الخضوع للحاضر وقوانين الواقع، لكن في النهاية فإن تلك الشخصيات لا تمتلك سوى الأسي وقدر من الرضا الذاتي عبر النجاح الفني مثل الخبر المنشور حول أول نحات أعمي بالنسبة لشخصية مراد أو الهروب من مستقبل الممرضة لشخصية ليلي أو الحب بالنسبة لشخصية على، لكن تلك النجاحات لا تكسر تلك القدرية التي تقود في النهاية نحو موت محتم لمراد بالسرطان.

أننا أما رؤية للواقع الذي نحياه، حيث ينغلق الأفق وإمكانية الفرار من الحاضر الذي يطغي بقوانينه على العالم ويحاصره، أنها رؤية لا تمتلك أفق مغاير للعالم أو رؤية سياسية أو حلول أخلاقية، فقط هو هروب مؤقت وتقبل مفعم بالأسي للحاضر الأبدي الذي نحياه.

بالطبع لا يملك العرض وصانعيه أمكانية مواجهة تلك الصورة المقبضة للعالم، وهو ما تجلي في اختيار النوع الفني والإغراق في العاطفية عبر تحويل ما يبدو هامشي مثل حكاية مراد الذي يواجه العمي والموت لحالة من التدفقات العاطفية التي يستغلها الممثلين في عرض حالات نفسية متطرفة كالبكاء والصراخ والكوميديا، تحويل يمكن أن نري أثره في تلك الرومانسية الحالمة التي تسيطر على العرض والتي تحول الموت (والذي يبدو وفق الأفق المبدئي للعرض جزء من قدر الحاضر الأبدي) لمنفذ لبكائية أسيه لا تمتلك أي أفق سوى الأسي الرومانسي.

أن ذلك المزيج الذي يتشكل في المسرح المصري والذي يمكن رصد أحد تجلياته عبر عرض(أما بعد) ربما يجعلنا نري حالة الانحطاط الجمالي والرهان على التواصل العاطفي مع الجمهور عبر الجماليات السائدة جزء من واقع سياسي واجتماعي يتشكل منذ سنوات طويلة، واقع لا يري أمكانية في الحلول الجماعية التي سقطت المرة تلو المرة ، كما لا يري أمكانية للخلاصات الفردية عبر الانغماس في الذات كما كان الحال في التسعينيات والألفية المبكرة، أنه واقع جديد لا يري سوى أفق مسدود وعالم دميم ولا يجد من منافذ في ذلك العالم سوى عبر الإغراق في أسي رومانسي تتجسد في الأداء المتشنج والميلودرامي في العرض الذي نجح في استنزاف التصفيق والضحكات أحيانا من الجمهور كما تجلي في الغناء والموسيقي الحية التي كان من الممكن أن تشكل جزء من رهانات العرض لولا تعمد أخفاء العازفين في الكواليس حتى لا يؤدي حضورهم في دائرة وعي المتفرج لتحطيم الإيهام الأسي الذي راهن العرض علي مشاركة الجمهور فيه .

أننا أمام مسرح مقيد بأفق محدود وضيق خاضع لرؤي مجترة وأنواع فنية معلبة لكن وخلف تلك القيود لم تزل هناك أرواح تئن وترغب في أن يتم رؤيتها حتى وهي تستسلم لشروط الواقع الذي لا تجد لها منه نجاة.

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...