الاثنين، يوليو 31، 2023

السراج ... دعوة للخروج من عالم منهار

 

في خضم الحراك السياسي والاجتماعي الذي يمر به المجتمع المصري ظهرت مجموعة من الاسئلة الباحثة عن سبل الخلاص من الازمة الاجتماعية والسياسية الحالية ، أسئلة تطرح ذاتها على المبدعين الذين  يحاولون بدورهم دفع المسرح للاستجابة الجمالية لتلك المتغيرات والافكار والاسئلة القلقة والغاضبة التي لم تعد الجماليات التقليدية قادرة على استيعابها أو التعبير عن الواقع الذي شكلها، وإجابات تحاول برغم عمليات القمع والمحاصرة التي تتعرض لها من الخطاب الوطني والثقافي المهيمن، وبالترافق مع تلك الوضعية تجلت مجموعة من التحولات الفنية التي تخلقت بوصفها استجابة لصعود تلك المتغيرات، والتي يأتي في صدارتها تآكل وتحلل تيار المسرح الشعبي الذي هيمن بتقنياته الكتابية والبصرية على قطاع كبير من المسرح المصري بخطاب ما بعد كولونيالي  يستند بالأساس إلى طموح أعادة اكتشاف التقاليد الادائية والكتابية ما قبل المسرحية والتي وجدت ضالتها في اداء المؤدي الشعبي والتراث السردي وتقنيات المسرح البريشتي. لقد استنفذ الواقع ذلك الخطاب الهادف لتأكيد وترسيخ الهوية الجماعية كما استنفذ المسرح تلك التقنيات التي لم يعد الخطاب السياسي والثقافي المرتبط بها قادر على التعبير عن الواقع أو الاجابة على الاسئلة والتحديات التي يطرحها.

من هنا تبرز أهمية عرض (السراج) لفرقة قصر ثقافة طنطا والمخرج -والمؤلف– محمد السباعي كونه يجمع بشكل واضح الكثير من تلك التقنيات الادائية والكتابية والاخراجية الجديدة التي تحاول طرح رؤيتها للعالم الذي نعيشه. ولعل اول ما يمكن التوقف أمامه في العرض هو التحول التقني نحو التقنيات المستمدة من السينما- والتي تختمر منذ عقود طويلة في المسرح المصري- حيث يمكن لنا أن نرصد بوضوح تقنيات الفوتومونتاج والمزج والمشاهد القصيرة والمونتاج المتوازي... الخ .بالطبع فإن تلك التقنيات في سبيل تحققها اعتمدت بالأساس على الإضاءة (لمحمود فايد) والتي قامت بتحديد المشاهد وتأطيرها وساهمت في عمليات الانتقال السريع بين المشاهد المسرحية وذلك في مقابل الوحدات الديكورية الضخمة  (لرانيا حداد)  المتعدد المستويات والهادفة لتجسيد الاكثير من الاماكن التي يتحرك بينها نص العرض.

بالطبع فإن تلك التقنيات السينمائية وخلال عبورها للمسرح لم تصل متحررة من شروطها الجمالية الخاصة بها حيث انتقل معها تقاليد الأداء السينمائي الواقعي المناهضة للتقاليد الادائية البريشتية والشعبية حيث يمكن ببساطة تلمس الأداء (بشكل عام) المتبني لتقاليد الأداء الواقعي والتقمص الكامل للشخصية الدرامية وطبيعتها النفسية والجسدية.

لكن وقبل التوقف عند تلك السمات الادائية بشكل تفصيلي ربما كان الضروري تحديد الإطار العام الذي يتحرك داخله العرض،حيث يقوم العرض على بنية حكائية غرائبية تدور حول قبيلة تحيا في مكان مجهول عالمها الذي يحتل مقام الجدة/المحروسة/العرافة (سهيلة سليمان) الذي يرتبط بعوالم صوفية وسحرية تهيمن على الدراما مثل عالم الأرواح التي ينتقل إليها نعمان/سراج (مصطفي زعفران) في رحلة أكتشاف نتائج سيطرته على القبيلة بالخداع والقمع ، أو بدر (هبة البشكار) التي تمتلك القدرة على شفاء الأجساد أو سجد (كريم الجنزوري) الطفل الميت الذي تعلق روحه قبلما يستكمل انتقاله الي عالم الموتى.

ان تلك العوالم السحرية التي ترتبط ببنية حكائية كبيرة متعددة الشخصيات والخطوط الدرامية والعلاقات المعقدة والممتدة أتت للمسرح من فضاء الروايات الجماهيرية التي وجدت لنفسها موقع قدم في الكتابة الدرامية خلال العقد الماضي والتي تصاعد حضورها مع انتشار وترسخ السينما وموضوعاتها .

عرض السراج ورغم اعتماده على التقاليد والتراث الثقافي والديني بشكل واضح إلا أن مرجعيته في بناء عالمه لا ترتبط بالافق الثقافي الخاص بتلك التقاليد كما لا تعتمد على أساليب المسرح الشعبي في التعامل مع تلك التقاليد الثقافية، حيث تسود جماليات المينستريم أو التقاليد والبنيات السرديات البسيطة السائدة في الفنون الجماهيرية واسعة الانتشار والقائمة على الصراع بين ثنائيات بسيطة ومباشرة مثل الصراع بين الشر والخير او الحق والباطل بمعزل عن تعقيدات الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي خاصة عندما تعمد البنية الدرامية -كما هو الحال في عرض السرج- إلى بناء عوالم سحرية مفارقة للواقع.

يمكننا في عرض السراج رصد ذلك الحضور الواضح لتقنيات الفنون الجماهيرية السائدة فبرغم تعقد العلاقات الدرامية الا أننا يمكن ان نجد في العرض حضور واضح لتلك الثنائيات العرافة/ ذكرى (يارا على) أو الأبيض والأسود -كما يتجلي في اختيار ألوان الازياء المسرحية- والتي تقسم العالم الدرامي بين قوى الخير وقوى الشر، وهي ثنائية يمكن ان نجد ترديداتها في كافة العلاقات الدرامية وتجسيداتها البصرية مثل ثنائية الأخوة أبناء نعمان ( باهي الفنان المتدين (محمد صبحي) في مقابل إخوته المصارعين على سلطة الاب المريض (أحمد صلاح (غريب)،عبدالله فتح الله (عزيز)،عمر فتحي (غالي)).

أن تلك الثنائيات البسيطة والاخلاقية وعمليات تجسيدها البصري هي سمة أساسية من سمات الروايات الجماهيرية السائدة، كما أن المشاهد الدموية والاستعراضات والميزانسين المسرحي الذي يستند لبناء صورة معقدة افقيا ( عدد الشخصيات الكبير على خشبة المسرح) والرأسي (في المستويات المتعددة) الذي يرتكز لجماليات السينما والمسرح التجاري الأمريكي.

 تلك الملاحظة حول تأثر العرض بتقاليد الفنون الجماهيرية السائدة يمكن ان نعيد في إطارها رؤية كيفية أعتماد العرض للتقنيات السينمائية ليس بوصفها محاولة للإعادة توظيف واستخدام تقنيات المونتاج السينمائي في المسرح وإنما بوصفها انجذاب للجماليات السائدة والتي تقبع التقنيات السينمائية في مركزها.

أن الارتباط بين تقنيات الفنون الجماهيرية السائدة والمسرح المصري حاليا والتي يمكن رصدها في عرض (السراج) - وعروض أخرى- يمكن أن نتوقف أمامها بوصفها تعكس تراجع عام لسيطرة الثقافة الوطنية أو القومية لصالح سيطرة واضحة لثقافة عابرة للهوية القومية لكن ذلك الاستنتاج لن يكون كافيا لتفهم الخيارات الدرامية التي لجاء إليها العرض مثل الربط بين شخصية باهي والتدين الاسلامي والفنون، أو التأكيد العابر على حالة العقم السائدة ، أو شخصية الغول الذي يمزق كل من يخرج عن الإيمان والخضوع لسلطة الضريح الكاذب، أو حتى في نهاية العرض التي تقوم على قرار نعمان العائد لعالم البشر بخروج باهي وبدر والأطفال  من أرض القبيلة (المدينة) وإغلاق الأبواب خلفهم بحيث يمنع  الخروج أو الدخول لغيرهم لا ينتهي العرض بخروج باهي والأطفال من صالة المتفرجين بينما ينهار العالم الخاص بالقبيله خلفهم.

تحيل تلك الخيارات الدرامية لعلاقة مع الواقع ترى أن العالم الذي نعيش فيه قد وصل لحدوده القصوى وان نهايته أصبحت حتمية لصالح عالم جديد يحلم بأن يقوم على أنقاض ذلك العالم المنهار برغم تهديد استمرار وجود شخصية ذكرى (وهو اسم له دلالته في ذلك السياق) في ذلك العالم الجديد.

رغم بساطة تلك الأفكار التي ترى أن الماضي يجب أن يتم القضاء عليه بشكل كامل لصالح عالم جديد يستمد مرجعيته من باهي( الفنان /المتدين) وبدر صاحبة القدرة على انقاذ الحياة هي أفكار لا تحاول طرح نفسها فحسب بوصفها محاولة للإجابة على أسئلة الواقع فحسب بل تلجأ للبحث عن جماليات مختلفة عن الجماليات التقليدية للمسرح المصري الجاد حيث وجدت ضالتها -مؤقتا على الاقل -في جماليات عابرة للهوية الوطنية .

برغم وقت عرضه الطويل نسبيا والممتد لما يقترب من ساعتين فإن عرض (السراج) ربما يشكل جزء من حالة القلق ومحاولة الخلاص التي يبحث عنها جيل مسرحي جديد ،بالطبع يمكننا التوقف أمام العديد من المشاكل المتعلقة ببطء الايقاع العام للعرض وعدم قدرة المخرج والمؤلف على إيجاد مسافة تبعيدية بين النص والعرض تتيح له القيام بعمليات اختزال واعادة بناء لنص العرض بما يحقق قدر أعلى من التركيز عبر عمليات حذف لبعض الخطوط الدرامية غير المؤثرة مثل خط العوالم. برغم كل ذلك يظل من الضروري تفهم ذلك العالم الذي يقدمه فريق قصر ثقافة طنطا والمخرج محمد السباعي بوصفه محاولة لرؤية جديدة ومخالفة تحاول التواصل مع المتفرج والالتفاف على انخفاض سقف الحريات الفنية.

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...