سنوات
طوال تفصل بين الدورة الأولي لمهرجان حركة نوادي المسرح الذي أنطلق في بداية
التسعينيات والدورة الأخيرة التي انتهت فعالياتها قبل أسابيع في مدينة بنها في
نهاية العشرية الأولي من القرن الجديد، سنوات طوال مرت خلالها تلك الحركة بالعديد
من التحولات بين أتساع ونمو وتراجع وخفوت ، مرت بأزمات وتحولات في رؤية الفنانين
لدورها ومجالها وأهدافها ، كما مرت بكارثة حريق بني سويف ... لكنها ورغم كل ذلك لم
تزل حاضرة ومحافظة على قدرتها على جذب انتباه العديد من المبدعين والنقاد الذين
يرتبطون معها بروابط شخصية وقناعات فنية و جمالية أو حتى من يرتبطون معها بوصفها
الطريق الأكثر مباشرة لاحتراف العمل المسرحي بوصفهم مخرجين .
ربما
لم يحظى أي تيار أو شكل انتاج مسرحي بهذا القدر من الاهتمام النقدي والمتابعة
لفعالياته وتحولاته كما حظيت حركة نوادي المسرح خلال سنوات عمرها الطويلة، حيث
كانت عروضها والظواهر التي تنتجها ومبدعيها وما تحيل إليه من تحولات الاجتماعية
وسياسية والأشكال الفنية التي تعتمدها مجال خصب لعشرات – وربما المئات – من
المقالات والدراسات النقدية التي تناولتها كما كانت ألية عملها ومعايير تقييم
عروضها وتوجهاتها محل اهتمام الكثير من المسرحيين المنتمين لها بالإضافة للحركة
النقدية التي صاحبتها وتبنتها.
من
هنا ربما تكون محاولة الاقتراب من فعاليات الدورة الأخيرة للمهرجان محاطة ومحمولة
فوق خطاب خاص بتلك الظاهرة وتجلياتها وانتمائها وهويتها والآمال المعقودة عليها في
الحاضر والمستقبل، وهو ما يجعل من تلك المحاولة لقراءتها محفوفة بالكثير من
المخاطر والمزالق التي تحيل بشكل مباشر إلى قواعد بعينها يجب أن ترتبط بها تلك
العروض أو تحملها ... أو ما يطلق عليه بشكل عام " فلسفة نوادي المسرح"
كم لو أن هناك مجموعة من القواعد التأسيسية التي هناك اعتراف جماعي ، لكن تلك
القواعد والفلسفة الجمالية التي تتم الإحالة إليها ليست محل أتفاق أو مصاغة بشكل
نهائي ومعترف بها بل هي خليط من الكتابات والتوافقات التي تتحرك في تخوم جمالية
مرتبطة بنمو الحركة المسرحية المصرية بشكل عام بحيث تتحول التحولات الجمالية
والفكرية الأكثر حداثة لجزء أصيل من قواعد تعريف تلك الحركة لنفسها التي تطرح
نفسها في جزء من خطابها بوصفها المسرح الأكثر جراءة وحدة وتمرد على الواقع المسرحي
من خلال أفكار ورؤى شباب تلك الحركة والذين يتم تقديمهم بوصفهم الأكثر براءة
وثورية ومستقبل حركة المسرح المصري.
لكننا
هنا سوف نحاول الابتعاد بعض الشيء ذلك الخطاب الذي يطرح نفسه كمجموعة من المعايير
الجمالية النهائية للتقييم ونحاول التوقف أمام ما أنتجته تلك الحركة خلال عام يعد
من أكثر أعوام المسرح المصري قسوة بسبب تنامي الرقابة لحدود غير مسبوقة (على الأقل
بتلك الصورة المزعجة والمزرية) حيث أصبحت عروض نوادي المسرح خاضعة بشكل كامل بداية
من هذا العام للرقابة على المصنفات الفنية ليس على مستوي النص فحسب كما كان الحال
في الأعوام الماضية بل رقابة تطال العروض ذاتها من خلال حضور ممثل للرقابة على
المصنفات الفنية ... وهو ما يمثل تحول كارثي في تاريخ تلك الحركة ، فخلال عقود
نجحت الإدارة العامة للمسرح في تحييد موقف نوادي المسرح من الرقابة سواء الفنية أو
الأمنية عبر الكثير من المناورات التي كانت تستهدف بالإساس منح شباب تلك الحركة
أكبر مساحة ممكنة من حرية التفكير والإبداع وهو ما مثل بالتدريج جزء من خطابها عن
نفسها بوصفها حركة متمردة منفلته من الرقابة بكافة أشكالها ... بالتأكيد فإن ذلك
لم يكن حقيقي بالكامل لكنه كان كافي لمنح قدر من الشرعية لتلك الحركة لطرح نفسها
بوصفها حرة لعقود.
هنا
يمكن لنا أن ننطلق في رؤيتنا لتلك الظاهرة ومجال عملها في ظل متغيرات شديدة القسوة
تطال المسرح المصري ككل وتلك الحركة بشكل خاص... فعبر عشرون عرض قدمت في ختامي
نوادي المسرح لهذا العام يمكن رؤية الكيفيات التي أعتمدها المبدعين في التعامل مع
الواقع الجديد الذي فرض عليهم ومحاولتهم التحايل عليه أو التوافق معه ولعل عروض
(أليس في بلاد العجائب من الزقازيق، كراكيب دماغ من دمنهور، أبوكاليبس من
الأسكندرية، رحلة حنظلة من بني سويف) يمكن أن تكون نماذج دالة على ما نحاول
الإشارة إليه ، فنجد في عرض أليس وهو تأليف جماعي رؤية نقدية للواقع المصري من
خلال رحلة أليس القادمة من عالم مختلف (الغرب) لعالم العجائب أو مصر حيث كل شيء
مقلوب ومهترئ ومحطم ، نقد لكافة مظاهر الحياة بداية من سيطرة الباعة الجائلين على
الشارع تردي الوضع الصحي والهروب للعوالم الافتراضية في شبكة الإنترنت .... الخ ...
نقد ساخر وقاسي للواقع، لكنه في المقابل نجد نهاية توافقية مع الخطاب السياسي الذي
يتم الترويج له اجتماعيا من خلال انقلاب مفاجئ ومناهض لما يطرحه العرض في النهاية
من خلال أصوات الجد الريفي وجد أليس اللذان يقدمان خطاب مناهض للعرض ومدمر له ...
كذلك
الأمر في رحلة حنظلة التي قامت على تدخل دراماتورجي أنتزع نص ونوس من توجه
التحريضي وأنتهي بالعرض بنهاية مخالفة حيث تم حذف مشهد زيارة حنظلة للحكومة وتوحد
صوت حنظلة مع صوت جماعي بانتقاله لمرحلة الوعي حيث ينتهي حنظلة هنا إلى مجرد صوت
فردي أخر يمارس النقد ومحاولة أثارة الوعي.
وذات
الأمر في أبوكاليبس الذي يهرب إلى عالم الدستوبييا عبر تصور لنهاية الحضارة
البشرية وسيادة عالم أكلة لحوم البشر ... لكن حتى هذا العرض يهرب من مواجهة العالم
الذي يحاول رؤيته إلى عوالم غرائبية ورومانسية هشة تنتزع النقد العميق للواقع الذي
يمكن أن يشير إليه جسد العرض ويلقي بها في حالة أسي وتحسر على الإنسانية التي ماتت
نتيجة انهيار أخلاقي واجتماعي.
وأخيراً
عرض كركيب دماغ الذي أستبعد من التسابق لمشاركته في مهرجان جامعي يحمل روح ربما
تكون قد تآكلت مؤخراً مستمدة من النص الأصلي الذي أعتمد عليه وهو "1980 وأنت طالع" الذي كان يعبر عن حالة
الهزيمة الكاملة لجيل كامل، حيث يتوقف العرض عن حالة التخبط والأسي تجاه الفشل وأن
كان أحد أكثر العروض أتساقاً مع ذاته.
بالطبع فإن ذلك الوضع يعكس حالة الانكفاء على الذات واليأس
المعممة التي طرحتها كافة العروض، يأس يتجلى في المعالجة التي اعتمدتها كافة
العروض ... حيث يمكننا التوقف أمام نمطين أساسين للدراما والحركة المسرحية الأولي
هي حالة الصراع بين فردين في فضاء مغلق
يقومان بتحطيم بعضهما البعض ومطاردة بعضهما البعض والدوران في مدارات أبدية
حول بعضهما البعض مثل عرض الدبلة من القاهرة وعرض صدى الصمت من المنصورة ، وفي
المقابل هناك العروض التي تطرح العلاقة بين فرد ومجموعة حيث تقوم المجموعة بمحاصرة
الفرد والضغط عليه حتى النهاية أن هذان النمطان من العلاقة يمكن أن نجدهما في كافة
العروض تقريبا بل حتى في مونودراما سبق تقديمها لأكثر من مرة مثل الخنزير حيث تظهر
شخصية المرأة ويتم تجسيدها ليتحول العرض من دراما لنهاية مشرد إلى علاقة ثنائية
بين رجل وامرأة.
أن حالة الحصار والضغط المستمر على الفرد من الأخر أو
المجموعة تحولت إلى قاعدة ينطلق منها الجميع، فلا وجود لفرد يسيطر على الفضاء
وقادر على ضبط إيقاعه لا وجود لمجموعة متناغمة تتحرك بشكل متعاضد صوب غاية ... لا
وجود سوى لعالم ضاغط ومحطم للفرد ...
أن ذلك النمط من التصور للعالم لم يعد مقصور على التعامل
مع فضاءات درامية بعينها كما نجد في المعالجات التي اعتمدت على نصوص "تسمحيلي
بالرقصة دي" أو " القطة العمياء" أو" فاكهة الخريف" أو
"مدينة الثلج" بل وحتى شبكنا ستايره حرير وهي نصوص تقوم على العلاقة بين
فرد ومجموعة سواء مثل هذا الفرد سلطة أم هدف لاضطهاد ، لقد تحولت تلك العلاقة بين
الفرد والمجموعة لصياغة بصرية تفرض ذاتها حتى على عروض بعيدة دراميا عن ذلك التوجه
مثل الجوزاء أو الحلم الأمريكي ... الخ صياغة بصرية للحصار ممتد ودائم بلا أمل في
الخلاص.
أن ذلك الشعور المتنامي بالحصار وانعدام القدرة على
تغيير العالم أو الانتماء له كانت هي السمات الأساسية التي أعتمدها معظم المخرجين
في ختامي مهرجان نوادي المسرح لهذا العام وهو ما يمكن أن يكون مؤشراً على حالة
الإحباط العام التي يعاني منها هذا الجيل وتوتر علاقته مع العالم الذي يحيا فيه بل
ومحاولته في بعض الأحيان كما في عروض "بيت آل بيجاسوس، أدم لا يأكل التفاح
...) الهروب من الواقع ذاته والاتجاه صوب معالجة موضوعاتهم داخل أغلفة غربية ...
فبرغم أن النصين لكتاب ومخرجين مصريين إلا أن أحداثهم وشخصياتهم تنتمي للغرب ..
وهي ملاحظة يمكن أن نجد تجليها في عدد من العروض وليس هذان العرضان فحسب.
بالمجمل فإن عروض المهرجان تعكس وضعية لواقع تلك الحركة
ومبدعيها وهم يحاولون رؤية واقعهم في ظل ظروف عدائية للفن ولحرية التعبير، وضعية
تثبت أنه حتى في أكثر الأوضاع صعوبة فإن المسرح قادر على التعبير عن الواقع واتخاذ
مواقف واضحة .... ربما يكون الوضع غير مبشر ولا يحمل في الأفق سوى مزيد من
الانغلاق والفشل لكن في المقابل فإن المسرح وهو يكشف عن الخلل الاجتماعي والسياسي
العميق فانه قادر على الانتصار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق