"إلي شعراء المسرح
، قتلي المرحلة
ميخائيل رومان ، ومحمود
دياب، ونجيب سرور"
أهداء سعد الله ونوس (الجزء الثالث)
"أن أهم ما طرحته الثورة على ضمائر الكتاب المسرحيين
كان سؤالين أثنين واضحي الكلمات ، الأول : هل المسرح الذي تقدمون مسرح شعبي حقاً
أم هو مسرح المثقفين فحسب ؟ والسؤال الثاني : هل هذا المسرح وثيق الصلة بتراث
البلاد في فنون العرض المسرحي عامة ، أم هو مسرح مستورد- معرب ، مسرح مستعرب؟ "
(المسرح في الوطن العربي – على الراعي – 95/96 )
"أما نجيب سرور
فلقد كان شيئاً مختلفاً ... كان عاصفة أندفعت إلي قلب الحياة المسرحية والثقافية
منذ عاد بعد تسكعه الطويل في موسكو وبودابست ، وبكل ما حمل في عقله وقلبه من خير
وشر . إنني أكتب هذه السطور بعد موته الفاجع الذي كان يعرفه ويسعي إليه و أحاول
النظر فيما قدمه للمسرح فأجدني لا أستطيع أن أبعد عن عقلي وقلبي وجه نجيب المعذب ! ولو صح أن نفصل – ولو للحظة – بين الكاتب وما
يكتب فلن يصح هذا أبدا بالنسبة لما كتب نجيب سرور ، لقد كان يعبر عما في ذاته
بالكلمات والسلوك معاً ، ولعل تعبيره بالسلوك كان أفصح وأكثر دلالة من الكلمات ،
بل لعله هو – أعني هذا السلوك – ما صنع كثير من الضجيج حول قيمة الكلمات"
(فاروق عبدالقادر – ازدهار وسقوط المسرح المصري - 102)
هل يمكن فعلاً الفصل
بين نجيب سرور و عوالمه الفنية ؟ أم أنه أمر يصعب تحقيقه كما يشير الناقد الكبير
فاروق عبد القادر؟ إذ كيف يمكن لنا التخلص من الحضور الطاغي لشخص نجيب سرور ونحن
نحاول الكتابة عنه أو الشروع في إنتاج (أو مشاهدة) أحد أعماله الفنية ؟ أو كيف
يمكننا التخلص من ذلك الفيض الإنفعالي العنيف و القوي الذي يرتبط بأسم نجيب سرور لدي كل من أخذ بعالمه الفني
وحياته العاصفة حيث يمتزج جنونه مع نصوصه وقصائده
، تماماً كما تنصهر معاناته الشخصية ومشاكله الأسرية مع موقفه من الدولة والنظام المسرحي ، وحيث
يندمج كل ذلك في النهاية في صورة الشاعر المعارض والمُصادر التي صنعت ببطء ودقة من
النظام القمعي و المعارضة اليسارية و نجيب سرور نفسه.
كيف يمكن أن نتخلص من
كل ذلك ؟! ففي النهاية سواء أتفقت مع النقاد والمخرجين الذين صعدوا به إلي مصاف
نبي مغدور أو هبطت به كما فعل نقاد أخرون إلي حدود التعامل مع تجربته على أنها
تجسيد بليغ لما يأسر المراهقين الذين لا يطلبون من العالم سوي الحدود القصوي ولا
يطلبون من الفن سوي الإنفعالات العنيفة والصاخبة.
سواء أكنت هذا أم ذاك
فلن تتمكن أبداً من تخليص تلك الرؤية من التعاطف أو الاحتقار أو الشفقة أو التضامن
.. الخ فحياة نجيب سرور كانت أهم أعماله وأكثرها تماسكاً كما يشير إلي ذلك "
فاروق عبد القادر" .. وبالتالي يصبح من الطبيعي أن يجد مكانه بين (دياب
ورومان) اللذان يختلفان معه في كل شيء تقريباً عدى حالة التفسخ الإجتماعي والنبذ
والمصادرة والنهاية المأساوية و
العبثية... وإن يظل لكل منهم موقعه وحدوده ...فهم شهود وشهداء وشركاء في تشكيل ما
يمكننا أن نطلق عليه الأن بثقة و بدون قلق مسرح الستينيات .. شهود على دولة يدنون
لها ويدنونها ، وشهداء لقمع و فساد الواقع السياسي والاجتماعي، وشركاء في تشكيل
الأسئلة الكبري التي شغلت (ولم تزل تشغل) العقل المسرحي المصري والعربي وأصحاب
تجارب كانت (ولم تزل) منارات لعشرات التجارب التي أهتدت بهديهم وتبعت خطواتهم و
تكنيكاتهم وأساليبهم.
وربما لذلك كله يصعب
علينا التملص من نجيب سرور ...
ولكن لنحاول أن نجعل من
ذلك الحضور الطاغي لنجيب سرور عاملاً مساعداً في تكشف جزء من عالمه ، وبالتحديد نص
(منين أجيب ناس) الذي يعد أحد أكثر نصوصه أمتلاء بالغنائية .. حيث يمكننا عبر ذلك النص تلمس الأسلوب المميز
لمسرح نجيب سرور في أكثر لحظاته صفاءً وقوة ... كما يمكن لنا فيه تلمس من خلاله معظم
التكنيكات المميزة لمسرحه .
عالم الإقتباسات
وأستحضار الأرواح والخطابات
ربما لا يمكن فصل نص
(منين أجيب ناس) عن تلك الأقتباسات التي يوردها نجيب سرور في بداية النص وفي مدخل
كل فصل من فصول النص ... والتي تمتد كما يشير د. عصام أبو العلا بدراسته (الدراما
الشعبية في المسرح الأقليمي) للإقتباس داخل النص ذاته من نص الموال الشعبي (أدهم
الشرقاوي) ([1])
كما يمكن لنا أن نرصد عشرات الإقتباسات الأخري التي تعود للأغاني جماهيرية وشعبية ...
وقبل كل ذلك وبعده فإن النص يتناص مع موال الشعبي حسن ونعيمة و أسطورة أيزيس
وأوزوريس ...
أقتباسات متنوعة
المصادر للحد الذي يجعل من تجاورها في بعض الأحيان مدهشاً في حد ذاته .. ففي مقدمة
كل فصل يمكننا أن نجد مقاطع من كتاب الموتي وأشعار لأبي العلاء المعري وآيات
قرأنية و مقاطع من الانجيل والتلمود ... الخ .
عالم من الإقتباسات
المنتزعة من سياقها ومواقعها داخل نصوص ..
والتي تم غرسها بشكل تعسفي داخل سياق النص المسرحي فلا هي أنتزعت بالكامل
وتم دمجها ضمن النص ولا هي ظلت محتفظة بسياقها التي يكسبها مشروعيتها كنصوص مقدسة
أو كنصوص أدبية .. بل أصبحت تكتسب شرعيتها
من الإشارات التي تحيلها إلي مصادرها الأصلية ، كما أصبحت حاملة لمعاني ينتجها تتابعها
وتجاورها وعلاقاتها بالنص الذي تحيل إليه و يحيل إليها طوال الوقت .
إن تلك العبارات التى
أستخدمها نجيب سرور ... هي أول الخيط الذي يمكننا أن نمسك به ونحن في طريق تخلصنا
منه أسر شخصه من ناحية ، و التوغل في عالمه الفني من ناحية أخرى ... فتلك العبارات
المقتبسة تدور في مجملها حول المخلص المنتظر والذي لا أمل في حضوره إما لكونه قد
رفع أو لكونه يعاني من البلاء .. كما نجد في الأقتباس العائد حسب النص إلي المسيح (جيل
شرير فاسق يتلمس آية ، ولا تعطي له إلا آية يونان النبي) كما تحيل بدورها
لحالة رفض للواقع القابع في أنتظار المخلص ... لكنه ليس رفضاً واعياً بقدر ما هو
رفض قائم على مشاعر الغضب و القلق و اليأس ... وبالتالي يتم توجيه ذلك الغضب إلي
المستعمر / العمد/ اليهود/الغفر/ الشرطة ... كمتسببين ومسئولين عن أختفاء المخلص
أو موته أو عذابه كما يتم إحالة أسباب فشل الواقع كلها إلي ذلك الأخر / المختلف
الذي يمثل التهديد الدائم والأبدي .
ربما يمكننا التوقف هنا
لبرهة لتأمل تلك المصادر وما تمثله وما
تشير إليه وما تحيل إليه سواء في النصوص التي أنتزعت منها أو في النص الذي أصبحت أحد عناصر تشكيله. وذلك
بهدف أكتشاف كيفية قيام النص بعملية تأسيس لهوية... هوية تحاول شرعنة ذاتها وترسيخها
عبر تخليقها من تلك الأقتباسات المتنوعة المصادر والتي تجري عملية تحويل لها من عبارات
ذات أدوار وظيفية داخل نصوص وخطابات متنوعة إلي عبارات في خطاب خاص بهوية وطنية
لمصر كما يقدمها النص ... هوية تتقاطع فيها أيزيس الفرعونية مع نعيمة القادمة من
الجنوب مع الدين الإسلامي و الثقافة
العربية .. وكما يخلق ذلك الخطاب تمايزه عبر تأسيسه لعداء مع أخر .. (هو هنا
أسرائيل .. الأنجليز .. الغرب .. الخوجات .. العمد.. الخ) .. وبالتالي تتخلق شبكة
كاملة من العلاقات التي يعتمد عليها النص .. فيتحول الكلب الذي يصحب نعيمة إلي تجسيد
لكلب أهل الكهف في مستوي من مستويات التأويل الممكنة للنص ..
وكملاحظة جانبية فإننا يمكن
أن نستنتج مما سبق أن تلك الأستراتجية التي يعتمدها النص في بناء الهوية يمكن لنا
أن نجد ترديدات لها بكل زوايا النص .. بداية من بناء النص الذي يمزج بين أسطورة
أيزيس وأوزوريس من ناحية و الموال الشعبي حسن ونعيمة ، مروراً بالتكنيك المعتمد في
بناء النص والذي يمزج بين الراوي الشعبي و الكورس و الدراما الغنائية ... الخ.
ولكن - وبالعودة لمحاولتنا تأمل تلك المصادر
وعلاقاتها - فربما يكون أول سؤال يمكن أن
نطرحه عليها في هذا السياق متعلق بالكيفية التي تمكن عبرها النص من تأسيس شبكة من
المعاني عبر الإقتباسات ؟ وبالتالي ماذا
يمكن أن تهبه لنا على مستوي أمكانية العرض تلك الأقتباسات ؟
ولنبدأ محاولتنا
للإجابة من السؤال الأخير أولاً .. فللوهلة
الأولي تبدو كافة تلك الإقتباسات التي يقدمها الكاتب ليست ذات علاقة مباشرة بالنص
وإنما هي أقرب لتعليقات أو حواشي تحيط بالنص المسرحي و تتناثر حوله وتقدم نفسها
كنصوص شارحة للمسرحية التي سوف تتخلي عن كل تلك الهوامش و الحواشي لحظة تجسدها على
خشبة المسرح..حواشي وتعليقات وأقتباسات تشير في جانب منها للمؤلف و تؤشر على حضوره
وقناعاته و ميوله وقرأته أكثر مما تشير لما يمكن تجسيده من النص المسرحي ... أو
لنقل أنها تشير لحضور ذات المؤلف كراوي عليم يقبع في مكان (ما) معزول ومنفصل عن
النص المسرحي لكنه حاضر و عبر أقتباساته وتعليقاته التي يوزعها هنا وهناك قبل
بداية النص المسرحي وبين الفصول حتى يؤشرعلى حضوره ويؤكده للقارئ.
أو بمعني أخر فإن تلك
الإقتباسات الموجودة في مقدمة النص المطبوع (وبين الفصول) ليس لها دور حقيقي في
بنا النص بقدر ما هي ترديدات لذات المؤلف وهي تحاول أن تغرس حضورها و تطرح
تعليقاتها و شروحاتها للنص خشية من عدم فهمه أو سوء قرأته من قبل المخرج بشكل
أساسي .. هذا إذا ما أستبعدنا ذلك الإقتباس المدهش للمؤلف من أشعاره و الذي يضمنه
ضمن الأقتباسات وما يمكن أن يؤشر عليه من محاولة ذات نجيب سرور طرح حضورها .
وبالتالي فإن
الإقتباسات الإفتتاحية يمكن التعامل معها- على ذلك المستوي – على أنها مبتورة
الصله بالنص الذي تحيل إليه وأن حضورها يظل مرتبطاً بقدرتها على الإحالة إلي وعي
ذات المؤلف بالعالم والنصوص التي شكلته و نطمت وعيه ووجهته .. وبالتالي فإن
علاقتها بالمصادر الأساسية التي أنتزعت منها تظل أقوي وأعمق .. بل وأكثر جذرية من
علاقتها بالنص المسرحي
لنتوقف هنا بعض الوقت
ولنحاول من جديد التعامل مع تلك الإقتباسات لا كزوائد زخرفية أو أمتداد لذات
المؤلف أو كمقدمات وعتبات للنصوص.. ولنحاول التعامل معها كجزء أصيل من بنية النص
المطبوع خاصة إذا ما وضعنها في إطار سلسلة الإقتباسات التي تشغل النص كل ..
وبالتأكيد فإنها لن ترتبط بنص العرض إلا عبر حضورها الصامت كمرجعية أو نصوص شارحه
مثبته في جسد النص .. لكنها وبالمقابل ستقوم بأدوار هامة في تشكيل النص وبناء شبكة
العلاقات التي تشكله حيث تخلق سلاسل مرجعية وتدخل في تشكيل خطاب النص .. وهو ما
يمكن أستكشافه عبر تحليل المقطع المقتبس
من كتاب الموتي في بداية النص فالنص الديني المنتزع من أسطورة أيزيس وأوزريس يتوقف
هنا عن القيام بالأدوار الدينية والتاريخية و العلمية التي كان يقوم بها في الحقبة
الفرعونية والتي كانت ترتبط بتفسير نشاءة العالم وطرح تصور للعلاقات بين عالم
الآلهة وعالم البشر ،وكذا تأسيس نظام الأخلاقي وأجتماعي قائم على مركزية الأسرة
وتبيان لموقع المرأة وأدوارها داخل مؤسسة الأسرة
... الخ ، وفي النهاية تشكيل جزء من المنظومة العقائدية للمصريين القدماء التي يحل فيها حورس في جسد
الفرعون الحارس والحامي و المنتقم والناصر لمؤسسة الأسرة و المناهض للفساد و الشر ...الخ
.
لقد أدي أنتقل الأقتباس عبر اللغة (من
الهيروغلفية للغة العربية ) وتمزقت الكثير من الروابط العقائدية التي كان يقوم
عليها بحيث أختفي الوجه السلطوي لحورس وأختفت الطبيعة المقدسة للنص (والتي كان
يكتسب جزء منها عبر صوغه بالحروف الهيروغلفية المقدسة و السلطوية ) كما أختفت
وتوارت سلسلة عناصر تشكيله وحلت محلها شبكة جديدة اصبح فيها يقوم بأدوار جديدة في
تشكيل الهوية و بناء نموذج البطل المخلص المغدور الأب (أوزوريس) وهو يعاد إلي
الحياة عبر كفاح أبنه المخلص له (حوريس) ... لقد تموضع النص تقاطع لحظة زمنية (ما
بعد حرب أكتوبر) ليصبح النصر العسكري في سينا هو نصر حورس ويتموضع ست في صورة العدو
الشرير .. ويحل أوزوريس في صورة الشهداء .. إما أيزيس فإنها تحل هنا في صورة الأم
و الأرض و الوطن .. وبالتأكيد فإن ذلك الموقع الذي يحتله الأقتباس في النص (أول ما
تقع عليه عين القارئ) يشكل جزء من بنية النص الذي يعيد أنتاج رحلة بحث أيزيس عن
جسد أوزوريس حتي تعيد إليه الحية .. وربما تتناقض ما يطرحه ذلك الإقتباس الذي يدعو
أوزوريس للنهوض حتى يتأمل نجاح حورس في الإنتقام له مع نهاية النص الذي ينتهي
بخروج جسد (حسن/أوزوريس) إلي البحر وضياعه للإبد (مع حضور تلك النبؤة التي تطلقها
الحورية بحتمية عودته).. وهو ما قد يشكل مقابلة زمنية بين تصور معاصر للفروق بين
الماضي و الحاضر والعلاقات التي تربط بينهم .. الخ .
ربما يمكنا أن نكتشف
تلك الثنائيات المتعارضة بين الأقتباسات و متن النص من خلال الإقتباسات التي
المضمنه في جسد النص .. فإننا نجد في الفصل الثالث نموذج مختلف من الأقتباسات
المشبع بها النص ...
فلاح 3:
|
صنف مش بطال .. جمالك
ليه ظهر..
الليلة يا قمر..
|
عامل 3 :
|
كده برضوا يا قمر ..
تصاحبني ع السهر ..
كدهــو ؟! " ([2])
|
هذا المقطتف هو نموذج
لعدد وافر من الأقتباسات التي يعتمدها النص لأغاني حديثة ذات طابع جماهيري .. وهي
الإقتباسات التي تأتي حاملة لشفرات زمنية مناقضة لزمن الحدث الدرامي .. فالدراما
التي نجد في أرجاءها عدد ضخم من الإشارات الزمنية
المحيلة لما قبل ثورة يوليو تصطدم طوال الوقت بتلك الإقتباسات التي تحيل
إلي لحظات زمنية تالية لتلك الفترة .. وربما يكون الصدام الأهم والأعمق على مستوي
النص هو الصدام بين ذلك الجلال الذي يغلف الإقتباسات الإفتتاحية في مقابل تلك
الإقتباسات التي تأتي دائماً في إطار من المرارة و الشعور بالعبثية كتجسيد لتدني الواقع وسوقيته.
ربما
لا يمكن فهم هذا الموقع المتدني الذي تحتله الثقافة الجماهيرية (Mass Culture) في مقابل الثقافة الشعبية (الفلكلور/ folklore) ، وكذلك الموقع المتدني الذي تحتله تلك الثقافة الجماهيرية في
مقابل الثقافة الرفيعة (High culture) .. داخل النص دون الشعور بقدر من التناقض و التشوش .. فتلك
الإقتباسات و ما يحيط بها من مناقشات حول أبتذال الألفاظ و المعاني (كما نجد في
ذات المشهد حين تتحدث الشخصيات حول أبتذال لفظة القمر في الأغاني الجماهيرية)
يقودنا بشكل مباشر نحو إدانة تلك تلك الثقافة التي تقوم بتصفية و تسليع كافة القيم
لصالح التسويق و الإنتشار الواسع.. وهو ما يرد ذهن القارئ مباشرة إلي تلك الإقتباسات
المنتقاه من القرأن و السنة النبوية و الإنجيل و شعر أبو العلاء المعري .. الخ ..
فجلال و سمو تلك الثقافة الرفيعة أهلها لتوضع موضع الإقتباس و الحكم و التي جيب
وضعها بين معقوفتين .. كما أهلتها لغتها المتعالية على لغة الواقع المبتذلة أن
تكون أكثر تعبيراً عما يستحق التبجيل و الإهتمام و التقديس .
من
ناحية أخري فإن النص يدين تلك الثقافة الجماهيرية لصالح الثقافة الشعبية ويصمها
بأنها أداة الإستعمار و العمد و الهجانة و الغفر و الشرطة و الدولة ، أداة تستخدم لتعمية
الطبقات الكادحة (العمال و الفلاحين) عن واقعهم المرير تماماً كما هو حال المخدرات
(ولعل أكبر قدر من الإقتباسات العائدة لأغاني جماهيرية يأتي في مشهد تناول العمال
و الفلاحين للمخدرات) .. وفي المقابل فإن وعي تلك الجموع وتصديها للمستغلين يأتي
بصورته الأكثر بروزاً في أقتباسات نعيمة و الكهل الذي تتناص حكايته مع حكاية موال
أدهم الشرقاوي ..
إننا
أمام هجوم شرس ومنطلق من عدة محاور ضد الثقافة الجماهرية التي يتم ربطها بالدولة
المستعمرة...
إنها
شبكة معقدة و متحركة تتصادم أقطابها طوال الوقت و تحتك عناصرها .. لكنها لا تكشف
في النهاية إلا عن وعي محافظ بالعالم .. يبحث طوال الوقت عبر سلاسل الإقتباسات عن
ترسيخ و تشكيل ثوابت و مرجعيات تمتد إلي ما قبل الدولة الحديثة .. بحيث تصبح
الثورة (أو التحرر الوطني) هو تحرر من أسر الدولة القمعية والإستعمار و القهر
والبحث عن ما هو أصيل في الثقافة المحلية ..
ومن
هنا يولد سؤال جديد ......
هل
نحن أمام نموذج للمسرح الشعبي (نص مسرحي ما بعد كولونيالي بكلمات أخرى)؟ وإذا كان
الوضع على هذا الحال فما هي التقنيات التي يعتمدها هذا النص لتحقيق ذلك ؟!
ربما
نحن الآن على أعتاب الأزمة التي يطرحها نص نجيب سرور ، وهي أزمة لا ترتبط بذلك
النص فحسب ، أو بتجربة نجيب سرور الإبداعية فحسب ، بقدر ما ترتبط بأزمة المجتمع
المصري و العربي ككل في علاقته بالدولة الحداثية في مرحلة ما بعد الإستعمار و التي
يمكن أن نجدها في الدراما المصرية منذ مراحل التأسيس .
وبشكل
مؤقت فإننا عند هذا الحد يمكن لنا أن نشعر
بقدر من الإطمئنان بأننا على الطريق الصحيح للخروج من أسر نجيب سرور .
كيف
نتخلص من الإستعمار ؟!
ربما
لا يكون من المدهش أن نكتشف أن نصوص نجيب سرور المسرحية الكبري – حسب تصنيف شخصي -
(ثلاثية ياسين وبهية – منين أجيب ناس- ملك الشحاتين..) تدور أحداثها في مرحلة ما
قبل الثورة (عدا قولوا لعين الشمس )... تماماً كما هو حال الكثير من نصوص جيل الستينيات التي أما أنها تقدم نفسها
كنقد لمجتمع ما قبل عام 1952 أو تتجه
للتاريخ أو التراث .. وربما ينبع سر عدم دهشتنا من إدراك معظمنا لطبيعة العلاقة
القوية التي تربط بين أبناء ذلك الجيل و الثورة
التي أعتبروا أنفسهم أما أنهم شركاء فيها أو أبناء لها وبالتالي يجب عليهم
الدفاع عنها و حمايتها و التبشير بها.
كذلك
يعلم أغلبنا بقسوة وصرامة يد الرقيب التي كانت تلوح في الآفق دائماً والتي كانت
تعصف بأي محاولة يمكن أن تنتقد – ولو من بعيد –النظام أو تشكك في شرعيته (كما حدث
من مصادرة ومنع لنصوص ميخائيل رومان ) .. أو ما تعرض له نجيب سرور من قطع لمنحته الدراسية و منعه من
العودة للوطن بعدما أنتقد النظام في حديث له أثناء البعثة وهو ما كان يمكن أن
يستمر لولا المناشدات التي قدمها بعض المثقفين من خلال الصحافة من أجل السماح
بعودته.
لننطلق
إذن من هذين التفسيرين المتعلقين بالتبشير بالثورة و بقمعية الدولة .. وبما يمكن
أن يكون قد نتج عنهما نتيجة تمازجهما كمدخل لمحاولة تفهم ذلك النزوع لدي بعض
الكتاب (ونجيب سرور بشكل محدد) للعودة إلي ذلك الزمن ..
قد
نكتشف في بداية طريقنا أن هناك نزوع دائم نحو أكتشاف أصل الداء الذي لم يزل ينخر
في جسد المجتمع والتأشير على القوي الإجتماعية التي تعادي الثورة والتي لم تسطتع
الثورة القضاء عليها أو تحيدها بشكل نهائي .. ففي النهاية يمكن أن نجد أشارات
مستمرة في نص (منين أجيب ناس) لدور العمد و الباشوات السلبي .. وهو مايؤشر على
فئات و طبقات أجتماعية لم تزل حية وفاعلة .
وقد
نكتشف في ذات الوقت أن هناك صراع موازي مع قوي الإستعمار التي التي تحاول القضاء
على تجربة الثورة .. وهي القوى التي ورثتها أسرائيل في مرحلة لاحقة حتى أننا نجد
في نص (منين أجيب ناس/ 1975) هجوم متصل على اليهود كمستعمرين و حلفاء للإستعمار.
كل
ذلك يمكن وضعه تحت لافتة (التبشير والدفاع عن الثورة) .. فالثورة (حسب الخطاب
الناصري) لها أعداء بالداخل من بقايا العهد البائد تحالفوا مع الرأسمالية العالمية
للقضاء على الثورة.. أو بمفردات أخري فإن الثورة كانت في مواجهة مع المركز الغربي
و ذيولها المنتمين لذلك المركز .. وبالتالي تصبح ألفاظ مثل الرجعية أو أسرئيل أو
الغرب أو الرأسمالية أو الأجانب .. الخ مرتبطة بحضارة المستعمر الذي تهدف الثورة
للتخلص منه والقضاء عليه عبر تنمية وعي أجتماعي بديل .. وعي نجده في ذلك الإقتباس
الذي صدرنا به تلك المقالة للناقد الكبير على الراعي .. حيث تبح الأولوية لإعادة
أكتشاف الثقافة المحلية والعودة لما هو أصيل ومركزي فيها .. ذلك الذي حاولت قوى
الإستعمار القضاء عليه و نفيه تحت دعاوي تمدين الشعوب المتخلفة و إلحاقها بركب
الحضارة...
وبالتالي
يصبح من الطبيعي أن يعتمد النص على مصادر من الثقافة المصرية الشعبية و التراث
العربي .. وأن يوجه سهامه ناحية المستعمر الغربي والإسرائيلي والقوي الإجتماعية
المتحالفة معهم.
وبالمرور
السريع على النص يمكننا أن نجد الكثير من السمات التي تؤيد ذلك التوجه منذ بداية
النص ...
ولكن
هناك أيضاً هجوم عنيف بالنص ضد الدولة ... فالعناصر المحسوبة على الدولة تقدم
دائماً كنموذج للخصم القوي و الباطش الذي يصعب التخلص منه ، خصم متسلط و قامع في
مقابلة جموع خاضعة و خانعة رغم وعيها .. بحيث تتحول رحلة نعيمة خلف جسد حسن الذي
يحمله النيل إلي مطارده بين الجسد الذي يلفظه النيل للشاطئ والغفر ورجال الشرطة
الذين يدفعونه المرة تلك المرة ليعود للماء .. وبالتالي تستمر الرحلة .
حورية 1 :
|
من شوية الجته طلعت في الشبك
جريو كل الصيادين
ع الحكومة وبلغوها..
طب ضابط ووراه عساكر ...
خلصوا الجته ورموها ..
تاني.. في البحر الكبير ([3])
|
بالتأكيد
لا ينتهي النص قبل أن تشير إحدي الحوريات إلي نعيمة بأن تدفن الرأس التي تحملها في
التراب حتى يأتي ميعاد عودته "لما الدنيا تبقي ضلمة كحل" ([4])
ربما
يبدو كل ما سبق وكأنه تبشير بثورة 1952 التي يدرك المتفرج وقوعها كما يدرك ما تخلف
عنها من نجاحات وهزائم وأنكسارات.. لكن تشبع النص بالإشارات و الإقتباسات التي
تحيل لدور أسرائيل و الهزيمة العسكرية و الأقتباسات المأخوذة من الأغاني
الجماهيرية (كما سبقت الإشارة) ربما يدفعنا لوجود رؤية مدينة للدولة القمعية
ووصفها بأنها ذيل للإستعمار الداخلي وتعبير عن مصالح الطبقات المهيمنة داخلياً ..
تلك الطبقات المنسحقة ثقافياً أمام المركز الغربي .
هل
هناك قدر من التناقض هاهنا ؟!
أليست
تلك الدولة التي يقوم النص بإدانتها (بشكل خفي) هي ذاتها الدولة التي أنتجتها ثورة
1952 التي رفعت رأية التحرر الوطني ؟
ربما
تكون الإجابة قريبة منا إذ ما نحن أدركنا أن النص كتب في منتصف السبعينيات عندما
كان النظام المصري قد قرر التخلي عن الحمل الثوري والتخلي عن التوجه المناهض للغرب
...وبالتالي يصبح كل شيء واضح وبسيط ... وبالتالي يحدث قدر من الإستقرار والثبات
.. ويصبح من الطبيعي أن نتناول نجيب سرور ككاتب يساري التوجه (منتمي للثورة
ومبادئها) ومناهض لنظام السادات..
لكنا
هنا سنكون قد تخلينا عن كل ما قدمته لنا الإقتباسات التي يمتلكها النص ، سواء المنتمية
للثقافة العربية أو تلك المنتمية للثقافة الشعبية .. إن جزء أصيل من أدوار تلك
الإقتباسات هو مناهضة الخصم (الأعداء .. العمد.. الغفر ) .. كما بينا وبالتالي فإن
الدولة و عناصرها الإدارية و الأمنية في محط الهجوم و الممهاه مع العدو .. وذلك ما
يعود بنا إلي تلك الملاحظة التي سبق لنا أن ذكرنها حول التعامل مع الدولة المصرية
الحديثة ومشروعها الحداثي لإرتباطه بالقمع وتفتيت الحريات العامة و كذلك لمحاولتها
القيام بأدوار طليعية داخل المجتمع المصري و مناهضتها للثقافة المحلية ...
وبالتالي فإن البدائل التي يقدمها النص والتي يفترض أنها تتعرض للتدمير والتراجع
أمام سلطة الدولة و الإستعمار .. هي ذلك الخليط المشكل من الفرعونية و الثقافة
الشعبية و الثقافة العربية الكلاسيكية ..
وهو
ما يعني إن (حسن/المغني الشعبي / أوزوريس) لن ينهض من موته ويعود إلا عندما يذهب
العمد والغفر والهجانة و الشرطة و الأستعمار.
ولكن
ذلك لا يعني أن النص يحمل أفكار رجعية أو أنه ينصر للماضي على حساب التقدم بل أن
الخطاب التقدمي الذي يتجلي في كافة أرجاء النص يظل هو الأكثر حضوراً تماماً كما
تتجلي الملامح ما بعد الكولونيالية التي من ضمنها مناهضة الدولة القائمة على النمط
الغربي .. فالنص بداية من المزج بين أسطورة أوزوريس وموال حسن ونعيمة ينجذب نحو
إعادة أكتشاف ما هو فني ودرامي في الثقافة المصرية ، وهو ذاته ما يحدث على مستوي
الطبيعة الغنائية المهيمنة على النص و التي تستعير طوال الوقت أقتباسات من
الأغنيات الشعبية كما تقوم بمعارضتها في أحيان أخري .. كما يتجلي ذلك التكتيك في
أستخدام تقنيات الراوي و كذلك في مناهضة الصريحة و القوية للإستعمار و قيمه وثقافته
وقيمه الجمالية أو كما يقول د. عصام أبو العلاء مقدمة الجزء الثاني من الأعمال
الكاملة " أننا إذا تعاملنا مع درامات نجيب سرور بمعايير الدراما
الغربية فسوف نجدها درامات ضعيفة لا قيمة لها ، وهو ما لا حقيقة فيه .. أما إذا
تعاملنا معها بوصفها إبداعاً مصرياً خاصا، له قوانينه الخاصة ، فسوف نكتشف أسرار
جماليتها ..." ([5])
في
النهاية فإن عالم نجيب سرور الدرامي ربما كان في حاجة لمزيد من الدراسات و
المداخلات التي تحاول ملامسة التقنيات التي كان يلجاء إليها لبنا عالمه وتشكيل
رؤيته للعالم.
[2] نجيب سرور –
الأعمال الكاملة (ج2)- الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة – 1995 - منين أجيب ناس – الفصل الثالث – ص 414
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق