خلال فترة التسعينات أشار الناقد الراحل حازم شحاتة – بدراسة نشرت بمجلة فصول - إلى سمة أساسية كانت تميز الدراما المصرية في الستينات وهي مناجاة القائد أو السلطان وتحذيره من الحاشية أو التوجه إليه بمطالب أو حتى انتظاره...
لقد كان المخلص حاضرا ومتجسدا ويكفي أن يتقدم منه “حلاق بغداد” ويطلب منه منديل الأمان لتبرز فرصة تسمح بصعود صوت الطبقة الوسطى (التي تنتج وتتلقى الفن المسرحي) ليخبر الزعيم بما يدور في الشوارع وما يقض مضاجع تلك الطبقة من مخاوف وتهديدات، أو عبر تشفير تلك الرسائل في “الفتى مهران” داخل الرسالة للسلطان.. أو حتى في “باب الفتوح” في صورة المطاردة المستمرة بين يعقوب والناصر صلاح الدين.
إن ذلك الخطاب الذي كان مسرح الستينات يتنباه هو تجلى واضح للكيفيات التي كانت تربط الطليعة الثقافية والاجتماعية للطبقة الوسطى (التي نمت وتوسعت في الخمسينات والستينات) بالحراك الكبير الذي قاده النظام السياسي الذي أنتجته يوليو، حيث استفادت تلك الطبقة من عمليات إعادة بناء النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للدولة المصرية، حتى وإن كانت الأفكار الأساسية التي أنتجت ذلك الحراك قد خرجت من رحم حالة الفوران الفكري والسياسي خلال فترة الأربعينات التي أنتجت معظم مبدعي الستينات كما أنتجت الضباط الأحرار، فلقد كان ذلك الحراك يقوم بأدواره الأساسية في ظل نظام يرغب ويمتلك القدرة على قيادة حراك ثوري يستهدف بالأساس منح الطبقة الوسطى المصرية الفرصة لاستكمال مشروعها السياسي والاجتماعي بعدما تآكلت تلك الفرصة التي أتاحتها ثورة 1919 مع توسع ونمو سلطة البرجوازية العليا في المدينة والاقطاع الزراعي في الريف.
فوق خشبات المسارح كانت الطليعة الثقافية لتلك الطبقة تستشعر المخاطر التي تحيق بذلك الحراك الاجتماعي، ومن هنا كانت تحاول التنبيه طوال الوقت إلى تلك السلييات التي تشكلت من تركز السلطة في يد النظام، وهو يتحرك وينمو ويتغلغل في مفاصل الدولة المصرية. لكن ذلك النقد من ناحية أخرى كان لا يمتلك نقدا جذريا للنظام بقدر ما كان يمتلك رؤى إصلاحية، فالطبقة الوسطى كانت ترغب في ضبط إيقاع النظام وتطويعه لا هدمه وهي سمة تاريخية في كل الحركات الاحتجاجية والثورية التي قادتها الطبقة الوسطى منذ بروز وعيها بذاتها كطبقة في ظلال ثورة 1919 وحتى ثورة 25 يناير (إصلاح وترميم لا تغيير).
من ناحية أخرى، من الممكن المجادلة بأن مصدر تلك المناجاة «للزعيم» التي كانت تسود مسرح الستينات هي جزء من آلية إنتاج صورة الزعيم التي يتم فيها تجسيد الرئيس بوصفه المتحكم في مفاصل الدولة كافة، تلك الرؤية التي كانت تقوم كل أجهزة الدولة بتشكيلها ورعايتها للحد الذي جعلها جزءا أساسيا من الخطاب الخاص بالنظام في تلك المرحلة، لكن ذلك التصور التقليدي وما يصاحبه من أفكار حول غياب للتعددية السياسية أو القمع الأمني لدى مناهضي ثورة يوليو (أو حتى بين مؤيديها في بعض الأحيان) غير كافٍ لتفسير حالة إلحاح ذلك الخطاب وأساليب طرحه بشكل متكرر في مسرح الستينات، فالزعيم الذي هو تجسيد للدولة المصرية، لم يكن مجرد مشروع ديكتاتور صغير يقوم بابتلاع الدولة داخل ذاته بل كان معبرا عن خطاب اجتماعي وسياسي واقتصادي قامت تلك الطبقة بتبنيه وتبعت النظام في تحقيقه، حيث استعاد نظام يوليو نموذج الدولة المصرية الحديثة كما تأسس في القرن التاسع عشر الذي تقوم فيه الدولة بقيادة الحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ودفع المجتمع للنمو عبر مشاريعها التي تصطبغ بصبغة تنموية بالأساس.. فالسلطان هو ممثل الدولة المصرية التي ينتمي مشروعها إلى تلك الطبقة وتقوم بتطبيقه. إن الدولة التي تحمل مشروع تلك الطبقة وتقوده في مسيرة تثوير النظام الاجتماعي التقليدي في الريف والمدينة وإلحاقه بمشروع تلك الطبقة، هي من تتم مناجاتها بالأساس وتقديم الشكاوى إليها.
إن تلك المناجاة للقائد لم تزل قادرة لليوم على التواصل مع متلقٍ شاب قد يناصب ثورة يوليو العداء ويحملها كل الخطايا والأخطاء والهزائم التي تعرض لها، فعلى الرغم من العداء التقليدي مع نموذج القائد أو صورة الأب، الذي يتجسد في خطاب الطليعة الاجتماعية للطبقة الوسطى في هذه الأيام، فإن نصوص مسرح الستينات الكبرى لم تزل قادرة على إيجاد طريقها لخشبات المسارح.
بالطبع، إن علاقة يوليو مع المسرح لم تتوقف عن تلك المناجاة للدولة/ القائد، فمع منتصف الخمسينات تبنت ثورة يوليو خطابا جديدا يكتسب هويته من معاداة المركز الغربي وإعادة اكتشاف القيم الثقافية الأكثر رسوخا وحضورا في الثقافة المصرية والعربية حاملة معها مصادر الهوية الوطنية المصرية التقليدية، وهو ما وجد طريقه لخشبات المسارح التي تلاقت مع الدولة في خطابها الآيديولوجي القومي والوطني.. ولعل ذلك ما جعل من نصوص ألفريد فرج التي أعادت استدعاء ألف ليلة أو واقعة قتل سليمان الحلبي لكليبر موضوعات أساسية، وأيضا نص “الفرافير” والتنظيرات المرتبطة به عند يوسف أدريس أو توفيق الحكيم.. إلخ. كل تلك التجارب التي يمكن أن نجد لها مثيلا على مستوى الإخراج، وجدت لنفسها موضع قدم داخل التيار الرئيسي للمسرح المصري، وأصبحت أساسا من أسس التجربة الجمالية والفكرية اليوم.
بالمجمل، فإن المسرح المصري قد يدين حتى اليوم بالكثير من التصورات الكبرى لتلك اللحظة الفاصلة في تاريخ الدولة المصرية التي استعادت لزمن قصير مشروعها الأساسي والأكبر مع دولة يوليو قبلما يستدعي من جديد ذلك المشروع وتلك الدولة.
لقد كان المخلص حاضرا ومتجسدا ويكفي أن يتقدم منه “حلاق بغداد” ويطلب منه منديل الأمان لتبرز فرصة تسمح بصعود صوت الطبقة الوسطى (التي تنتج وتتلقى الفن المسرحي) ليخبر الزعيم بما يدور في الشوارع وما يقض مضاجع تلك الطبقة من مخاوف وتهديدات، أو عبر تشفير تلك الرسائل في “الفتى مهران” داخل الرسالة للسلطان.. أو حتى في “باب الفتوح” في صورة المطاردة المستمرة بين يعقوب والناصر صلاح الدين.
إن ذلك الخطاب الذي كان مسرح الستينات يتنباه هو تجلى واضح للكيفيات التي كانت تربط الطليعة الثقافية والاجتماعية للطبقة الوسطى (التي نمت وتوسعت في الخمسينات والستينات) بالحراك الكبير الذي قاده النظام السياسي الذي أنتجته يوليو، حيث استفادت تلك الطبقة من عمليات إعادة بناء النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للدولة المصرية، حتى وإن كانت الأفكار الأساسية التي أنتجت ذلك الحراك قد خرجت من رحم حالة الفوران الفكري والسياسي خلال فترة الأربعينات التي أنتجت معظم مبدعي الستينات كما أنتجت الضباط الأحرار، فلقد كان ذلك الحراك يقوم بأدواره الأساسية في ظل نظام يرغب ويمتلك القدرة على قيادة حراك ثوري يستهدف بالأساس منح الطبقة الوسطى المصرية الفرصة لاستكمال مشروعها السياسي والاجتماعي بعدما تآكلت تلك الفرصة التي أتاحتها ثورة 1919 مع توسع ونمو سلطة البرجوازية العليا في المدينة والاقطاع الزراعي في الريف.
فوق خشبات المسارح كانت الطليعة الثقافية لتلك الطبقة تستشعر المخاطر التي تحيق بذلك الحراك الاجتماعي، ومن هنا كانت تحاول التنبيه طوال الوقت إلى تلك السلييات التي تشكلت من تركز السلطة في يد النظام، وهو يتحرك وينمو ويتغلغل في مفاصل الدولة المصرية. لكن ذلك النقد من ناحية أخرى كان لا يمتلك نقدا جذريا للنظام بقدر ما كان يمتلك رؤى إصلاحية، فالطبقة الوسطى كانت ترغب في ضبط إيقاع النظام وتطويعه لا هدمه وهي سمة تاريخية في كل الحركات الاحتجاجية والثورية التي قادتها الطبقة الوسطى منذ بروز وعيها بذاتها كطبقة في ظلال ثورة 1919 وحتى ثورة 25 يناير (إصلاح وترميم لا تغيير).
من ناحية أخرى، من الممكن المجادلة بأن مصدر تلك المناجاة «للزعيم» التي كانت تسود مسرح الستينات هي جزء من آلية إنتاج صورة الزعيم التي يتم فيها تجسيد الرئيس بوصفه المتحكم في مفاصل الدولة كافة، تلك الرؤية التي كانت تقوم كل أجهزة الدولة بتشكيلها ورعايتها للحد الذي جعلها جزءا أساسيا من الخطاب الخاص بالنظام في تلك المرحلة، لكن ذلك التصور التقليدي وما يصاحبه من أفكار حول غياب للتعددية السياسية أو القمع الأمني لدى مناهضي ثورة يوليو (أو حتى بين مؤيديها في بعض الأحيان) غير كافٍ لتفسير حالة إلحاح ذلك الخطاب وأساليب طرحه بشكل متكرر في مسرح الستينات، فالزعيم الذي هو تجسيد للدولة المصرية، لم يكن مجرد مشروع ديكتاتور صغير يقوم بابتلاع الدولة داخل ذاته بل كان معبرا عن خطاب اجتماعي وسياسي واقتصادي قامت تلك الطبقة بتبنيه وتبعت النظام في تحقيقه، حيث استعاد نظام يوليو نموذج الدولة المصرية الحديثة كما تأسس في القرن التاسع عشر الذي تقوم فيه الدولة بقيادة الحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ودفع المجتمع للنمو عبر مشاريعها التي تصطبغ بصبغة تنموية بالأساس.. فالسلطان هو ممثل الدولة المصرية التي ينتمي مشروعها إلى تلك الطبقة وتقوم بتطبيقه. إن الدولة التي تحمل مشروع تلك الطبقة وتقوده في مسيرة تثوير النظام الاجتماعي التقليدي في الريف والمدينة وإلحاقه بمشروع تلك الطبقة، هي من تتم مناجاتها بالأساس وتقديم الشكاوى إليها.
إن تلك المناجاة للقائد لم تزل قادرة لليوم على التواصل مع متلقٍ شاب قد يناصب ثورة يوليو العداء ويحملها كل الخطايا والأخطاء والهزائم التي تعرض لها، فعلى الرغم من العداء التقليدي مع نموذج القائد أو صورة الأب، الذي يتجسد في خطاب الطليعة الاجتماعية للطبقة الوسطى في هذه الأيام، فإن نصوص مسرح الستينات الكبرى لم تزل قادرة على إيجاد طريقها لخشبات المسارح.
بالطبع، إن علاقة يوليو مع المسرح لم تتوقف عن تلك المناجاة للدولة/ القائد، فمع منتصف الخمسينات تبنت ثورة يوليو خطابا جديدا يكتسب هويته من معاداة المركز الغربي وإعادة اكتشاف القيم الثقافية الأكثر رسوخا وحضورا في الثقافة المصرية والعربية حاملة معها مصادر الهوية الوطنية المصرية التقليدية، وهو ما وجد طريقه لخشبات المسارح التي تلاقت مع الدولة في خطابها الآيديولوجي القومي والوطني.. ولعل ذلك ما جعل من نصوص ألفريد فرج التي أعادت استدعاء ألف ليلة أو واقعة قتل سليمان الحلبي لكليبر موضوعات أساسية، وأيضا نص “الفرافير” والتنظيرات المرتبطة به عند يوسف أدريس أو توفيق الحكيم.. إلخ. كل تلك التجارب التي يمكن أن نجد لها مثيلا على مستوى الإخراج، وجدت لنفسها موضع قدم داخل التيار الرئيسي للمسرح المصري، وأصبحت أساسا من أسس التجربة الجمالية والفكرية اليوم.
بالمجمل، فإن المسرح المصري قد يدين حتى اليوم بالكثير من التصورات الكبرى لتلك اللحظة الفاصلة في تاريخ الدولة المصرية التي استعادت لزمن قصير مشروعها الأساسي والأكبر مع دولة يوليو قبلما يستدعي من جديد ذلك المشروع وتلك الدولة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق