في
العادة ما تبدو السياسات الثقافية للدولة المصرية غائمة وغير واضحة المعالم وممزقة
بين الخطوات الثقيلة للمؤسسات التي تعيد إنتاج ذاتها من جهة، وسلاسل الصراعات
الشخصية والفئوية بين الفاعلين في بناء الحركة المسرحية من جهة أخرى، ولعل تلك
الثنائية هي التي تبدو مؤثرة ومعرقلة لبناء أي سياسة ثقافية واضحة أو منتجة، لكن
الصور التقليدية ربما لا تنقل الصورة الكاملة لواقع السياسات الثقافية في تلك
اللحظة المرتبكة التي تمر بها الدولة المصرية ككل، وقطاع الثقافة فيها بشكل محدد.
لذلك،
فإن تتبع مصادر تشكل السياسات الثقافية وطريقة بناء الأفكار العامة لبناء المشروع
الثقافي والفعاليات الكبرى، وبشكل خاص المهرجان القومي للمسرح بوصفه الموضوع
الأساسي الذي يشغل المسرحيين اليوم، قد يكون مدخلا جيدا لتتبع طرق بناء وتشكيل الأزمة
التي تواجه تلك الفعالية وغيرها من الفعاليات.
في
البداية، ربما لا يبدو من الجديد أن نشير إلى أن أهم الفترات التي تشكلت فيها
الاستراتيجية الثقافية للدولة المصرية، كانت مرحلة الخمسينات والستينات التي تلاقت
فيها عدة مشروعات أساسية بداية بمشروع الدولة الذي وجد في طموح نظام يوليو
واندفاعه داعما أساسيا لتحقيق كل التصورات التي تراكمت منذ ميلاد الدولة في بداية
القرن التاسع عشر، مرورا بالصراع بين التصورات البنائية الكبرى لأجنحة النظام
وبشكل خاص بين الدكتور ثروت عكاشة وجمال عبد الناصر والدكتور عبد القادر حاتم الذين
ساهم كل منهم (إلى جوار آخرين بالطبع) في بناء جزء أساسي من بنية الاستراتيجية
الثقافية التي على أساسها تشكلت المؤسسات الثقافية الأهم التي لم تزل حاضرة حتى
اليوم.
من جهة
أخرى، فإن النظام الساداتي الذي لم يزل حاضرا حتى اليوم اندفع على النقيض في تبني
استراتيجيات ثقافية نقيضة تقوم على التخلص من المشروع التنموي القائم على تدخل
الدولة المباشر في قيادة الحراك الاجتماعي وهدم الأبنية الثقافية التقليدية عبر
وضع الدولة في قيادة النظام الاجتماعي بوصفها قاطرة الحداثة. وفي مقابل ذلك التخلي
عن أدوار الدولة، فإن النظام لم يفتح المجال أمام المجتمع المدني للقيام
بأدوارها.. لقد انسحبت الدولة من أدوارها في الدعم والتنمية الثقافية عبر مؤسسات
جديدة تقوم بدور الممول للأنشطة الثقافية لكنها ظلت مع ذلك محتكرة للفضاء العام..
بالمجمل لقد تخلت عن أدوار الدولة لكنها لم تتخلَ عن السلطات التي منحها المجتمع لها
للقيام بقيادة مشروع الحداثة.
ونتيجة
لذلك التناقض العميق، فقد استمرت المؤسسات التي قامت على أكتاف المشروع التقدمي في
خمسينات القرن العشرين منذ إنشاء مصلحة الفنون بقيادة الراحل يحيى حقي قائمة
بقيادة الحراك الثقافي، لكن من جانب آخر، فإن عمليات عرقلتها وكبح حركتها عن
القيام بأدوارها في بناء سياسات ثقافية تتفق مع بنيتها وأدوارها المفترضة.
لقد تم
قتل السياسات الثقافية التنموية واستبدالها بسياسات هجينة لا تتيح بناء أدوار
للمجتمع المدني بالنمو الطبيعي ولا تسمع للدولة للقيام بأدوارها التقليدية، الأمر
الذي أدى في النهاية إلى واقع الحركة المسرحية الذي نعيش فيه والذي لم يزل عالقا
في جماليات وأفكار الستينات من ناحية، وغير القادر على التحرك صوب التلاقي مع واقع
المجتمع أو ترشيح العناصر الأفضل ودفعها للتطور، فالمسارات تم سدها وعرقلتها رغم
وجود سياسات ثقافية طموحة لإنتاج فعاليات مثل المهرجان القومي، لكن التناقض العميق
بين بنية المؤسسات التي تمت عرقلتها وتجميدها وأصبحت مجبرة على إعادة إنتاج نفسها
في مقابل عرقلة المجتمع المدني والحجر عليه، أدت إلى تفتيت الحركة المسرحية
وتكلسها.
إن ذلك
التناقض أصيل وعميق، ويمكن أن نتلمس آثاره في كل مجال تقريبا ويصعب التخلص منه دون
بناء عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع أو إعادة الحياة للعقد الاجتماعي الذي
تم نقضه بشكل نهائي من قبل المجتمع والنظام.. وكلا الخيارين غير قابل للتحقق في ظل
الوضع الراهن الذي يتأرجح باستمرار بين الحفاظ على المكتسبات والحقوق التي للدولة
وبين التخلي عن الأدوار والواجبات المكلفة بها.
إن
المهرجان القومي يمزقه اليوم ذلك التناقض الذي أنتجه.. فالقومي يفترض أنه يتعامل
مع كل المؤسسات الإنتاجية سواء الرسمية المحترفة أو تلك المنتمية بشكل أو بآخر
للمجتمع المدني مثل الجامعة والمستقلين والهواة.. إلخ، وبالتالي فهو غير قادر على
تجاوز التناقضات التي ينتجها ازدواجية السياسات الثقافية أحيانا وغيابها حينا آخر.
بالطبع،
فإن تجاوز تلك التناقضات أكبر من قدرة الأفراد الطامحين تدفعهم أهداف عامة وشخصية
لا تنتج إلا حلولا جزئية غير مؤثرة بشكل إيجابي بقدر ما تسهم في مزيد من تشديد
الأزمة وتجسيدها.. فأين الحل إذن؟
قد يكون الحل هو التعامل مع التناقض ومحاولة تفريغه عبر تخليق سياسات ثقافية جزئية قادرة على التعامل مع الواقع بشكل ابتكاري ودفع الجهات الإنتاجية إلى إدراك أزماتها ومحاولة تجاوزها وفق معطيات الواقع. وهو ما يمكن أن يتحقق عبر تحويل التنافسية التي يتيحها المهرجان القومي إلى داعم لوعي تلك المؤسسات بدورها وتفعيل دور الجهة الاستشارية (لجنة المسرح) عبر إيجاد تحليلات لما تقدمه كل جهة وتقييم لعناصرها وما حققته، وبالتالي محاولة تفتيت الانسدادات وتخليق مسارات للتحرك بين تلك الجهات تتيح للعناصر المتميزة فرصة للتقدم على المستوى المهني وكذلك تطوير أدواتهم وتنميتها.
قد يكون الحل هو التعامل مع التناقض ومحاولة تفريغه عبر تخليق سياسات ثقافية جزئية قادرة على التعامل مع الواقع بشكل ابتكاري ودفع الجهات الإنتاجية إلى إدراك أزماتها ومحاولة تجاوزها وفق معطيات الواقع. وهو ما يمكن أن يتحقق عبر تحويل التنافسية التي يتيحها المهرجان القومي إلى داعم لوعي تلك المؤسسات بدورها وتفعيل دور الجهة الاستشارية (لجنة المسرح) عبر إيجاد تحليلات لما تقدمه كل جهة وتقييم لعناصرها وما حققته، وبالتالي محاولة تفتيت الانسدادات وتخليق مسارات للتحرك بين تلك الجهات تتيح للعناصر المتميزة فرصة للتقدم على المستوى المهني وكذلك تطوير أدواتهم وتنميتها.
إن
السياسة الثقافية الجزئية التي يمكن أن ينتجها المهرجان القومي عبر تنافسيته وعبر
مجموعة الأهداف الطموحة التي يمتلكها، والتي هي بحكم تكوينها كاشفة للتناقض
الأساسي في الاستراتيجية الثقافية للدولة، يمكن أن تكون مقدمة للتفكير في إيجاد
سياسة ثقافية بديلة وعقلانية وواقعية لا ترتبط بالطموحات الفردية أو التكلسات
المؤسسية التي نعاني منها.
إن أزمتنا (اليوم على الأقل) ليست إيجاد أفكار جديدة بقدر العمل على تفعيل وإعادة إحياء الخيارات المتوافرة تكلست بفعل التناقضات التي قامت بعرقلة حركتها ومنعتها من النمو الطبيعي. فالأزمة ليست في طريقة التسابق أو التأكيد على تنوع الأنماط الإنتاجية بقدر إتاحة الفرصة لتلك الأنماط للتلاقي والتطور عبر التدافع والتنافس والتعاون والتواصل من ناحية، ودفعها للتفكير (أو إلزامها عبر تحري الدقة) في ذاتها وفي تقييم عناصرها وخطابها وجمهورها المستهدف بالتعاون مع المهرجان بوصفه مؤسسة جامعة ونشاطا مركزيا وفعالية أساسية مرتبطة بالجهات البحثية (الجامعات، الأكاديمية، المركز القومي..) التي تسهم في التحليل والتقييم والتدريب. وبالطبع، لجنة المسرح بوصفها جهة إنتاج أفكار وتوصيات في المقام الأول.
كل هذا هو محاولة للتعامل مع التناقض، لكن في النهاية يبقى أن تتعامل الدولة مع تناقضتها وأن تنتهج سياسة ثقافية واضحة بعيدا عن أساليب الالتفاف التقليدية مثل استبدال دور المؤسسات بأفراد أو تبني مشاريع فردية أو حتى اختزال دور المؤسسات في مشروع وظيفي.
إن أزمتنا (اليوم على الأقل) ليست إيجاد أفكار جديدة بقدر العمل على تفعيل وإعادة إحياء الخيارات المتوافرة تكلست بفعل التناقضات التي قامت بعرقلة حركتها ومنعتها من النمو الطبيعي. فالأزمة ليست في طريقة التسابق أو التأكيد على تنوع الأنماط الإنتاجية بقدر إتاحة الفرصة لتلك الأنماط للتلاقي والتطور عبر التدافع والتنافس والتعاون والتواصل من ناحية، ودفعها للتفكير (أو إلزامها عبر تحري الدقة) في ذاتها وفي تقييم عناصرها وخطابها وجمهورها المستهدف بالتعاون مع المهرجان بوصفه مؤسسة جامعة ونشاطا مركزيا وفعالية أساسية مرتبطة بالجهات البحثية (الجامعات، الأكاديمية، المركز القومي..) التي تسهم في التحليل والتقييم والتدريب. وبالطبع، لجنة المسرح بوصفها جهة إنتاج أفكار وتوصيات في المقام الأول.
كل هذا هو محاولة للتعامل مع التناقض، لكن في النهاية يبقى أن تتعامل الدولة مع تناقضتها وأن تنتهج سياسة ثقافية واضحة بعيدا عن أساليب الالتفاف التقليدية مثل استبدال دور المؤسسات بأفراد أو تبني مشاريع فردية أو حتى اختزال دور المؤسسات في مشروع وظيفي.
إننا
أمام أزمة.. ولا نملك رفاهية العمل الفردي أو استعادة الخبرات الناجحة وإعادة
إنتاجها على أمل أن تنجح في الوقت والمكان الخاطئين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق