في قلب وسط مدينة
القاهرة تجمع العشرات في انتظار لحظة الانطلاق، وبإشارة من مرشد تحركت تلك
المجموعة من البشر وعبرت الطريق لتدخل إلى دار سينما قديمة ومهجورة منذ عقود..
الأتربة والبقايا والحطام بكل مكان، وتحت إضاءه صفراء شحيحة تكفي بالكاد للرؤية تم
توزيع كمامة وكشاف صغير وحلقة بلاستيكية من النوع الذي يعلق في أيدي الرضع للتعريف
بأسمائهم ونوعهم وأرقام سرائرهم على كل متفرج، وفي نهاية عملية التوزيع قام مرشد
مختلف بتعريف الجمهور بمجموعة القواعد الأمنية والتنظيمية الخاصة بالعرض والتي
تنتهي بأن يطلب منهم الخروج سريعا من المبنى عبر الممر الذي سوف يحدده وذلك لوجود
مخاطر – حسب تعبيره - وذلك في تلميح يقوم ببناء أفق توقع للمتفرج حول الأسلوب الذي
سوف يعتمده العرض في فض علاقته بالمتلقين (أو المشاركين كما كان يبدو ساعتها)..
ومن ثم تبدأ رحلة العرض.
ربما تكون تلك الإجراءات التي صممها المخرج والسينوغرافي “عمر المعتز بالله” (ومجموعة العمل) لبناء العلاقة بين المتفرج وعرض “هدوء نسبي” - أو الميتافورسيس (المسخ) كما يشير العنوان اللاتيني للعرض– هي جزء لا يتجزأ من بنية العرض وعنصر من عناصر تشكيله، فهناك حالة انتقال من المدينة وإيقاعها إلى الاستقرار ضمن خليط من الغرباء في انتظار العرض، الأمر الذي سرعان ما يحول مجموعة الغرباء تلك إلى رفاق رحلة، وهو ما يزداد تأكيده ببطء واستمرار مع كل خطوة حتى البداية الحقيقية للعرض، ولعل هذا ذاته ما كان العرض يستهدف المحافظة عليه حتى النهاية من خلال ذلك الخروج المرتجل والمناهض لتقاليد نهاية العروض المسرحية فلا وجود لتحية للممثلين ولا إضاءة كاشفة لإعلان نهاية اللعبة المسرحية .. وبلا تصفيق أو إضاءه أو قاعة مسرح ومقاعد محددة، حيث تتحول علاقة المتفرج بالعرض إلى ما يشبه المغامرة في عالم غريب وخطر وعدائي (أتربة – دخان – دماء – أسلحة بيضاء.. إلخ) مغامرة تنتهي بذلك الخروج المرتجل الذي لا يقطعه سوى تلك المؤدية التي تقبع في نهاية ممر الخروج من قاعة العرض تراقب المتفرجين في رحلة خروجهم وقد حل محل رأسها شاشة تلفاز مضيئة بالتشويش الدال على عدم وجود إرسال تلفزيوني، بالإضافة لبعض اللطخات الحمراء قبلما يجد المتفرج نفسه في الشارع من جديد لتنتهي المغامرة وينخرط من جديد في المدينة وإيقاعها، وقد تحلل من رفقة المجموعة وذلك العالم المقبض الذي يجمع بين رؤية لنهاية العالم (أبوكاليبس/Apocalypse ) والانحطاط وتحول الجنس البشري لمسوخ نصف حيوانية، وأخيراً التأثيرات الواضحة لتقاليد وتقنيات سينما وأدب الرعب وبشكل خاص نوعية الرعب الجسدي (body horror) القائم على انهيار وتحول الجسد البشري وانحطاطه .
إنه خليط من التقاليد والتقنيات يتم دعمها عبر العرض حيث يعتمد العرض بشكل كامل على التأكيد على الحالة الدموية والتحول والانحطاط الذي يصيب الشخصيات وعالمها والذي يدعم من خلال الصورة المسرحية التي تظهر شخصية “الأب” في صورة جسد بشري مترهل وعاجز برأس خنزير وكذلك الفتاة التي تحمل جهاز التلفاز التي تتحول في النهاية إلى جسد بشري ورأس عبارة عن جهاز تلفاز كما سبقت الإشارة . كما يتم دعم ذلك عبر الحوار المسرحي الذي هو عبارة عن جمل متشظية يتم تكرار بعضها بشكل دوري على مدار العرض وذلك عبر جمل تكرارية تعبر فيها الشخصيات عن كونها لم تزل تحمل الصفة الإنسانية أحياناً كما تأتي أحيانا بصيغة التساؤل “هل مازلنا بشرا؟” .
إن تلك التقنيات والتقاليد التي تبدو مدعومة على مدار العرض والتي يتم دعمها عبر فضاء العرض العدائي وكذلك عبر السينوغرفيا وكذلك عبر الحيل التي يعتمدها العرض مثل سقوط أجزاء من المبنى أو حتى عبر عناصر الضغط الحسي (الدماء – النيران – الأدخنة – الأتربة). ولكن في المقابل، فإن العرض يقوم بتفتيت تلك التقنيات عبر تفتيت السرد التقليدي الخاص بتلك النوعيات فهو يقوم بتمزيق البنية الحكائية بحيث لا نتعرف إلا على ظلال لحكاية أسرة تعاني من الانحطاط الجسدي في نهاية عالمها الخاص حيث تفقد آدميتها ببطء وهي تنتظر الموت الذي يترصدها والذي يلتقط شخصية الأب في النهاية .
إن بناء العرض القائم على معارضة تقاليد أدب وسينما الرعب التي تنتمي لمجموعة الفنون الجماهرية ربما يكون أحد الرهانات الأساسية للعرض فهذه التقاليد والتقنيات التي يتم تدميرها بشكل منتظم على طول العرض وانتزاعها من الخطابات التقليدية التي تتبناها ربما يفتح المجال لتدمير وجود خطاب موحد يتبناه العرض لتبقى علاقة المتلقي ونشاطه التأويلي هو العنصر الأكثر حضورا .
بالتأكيد، فإن تلك الحالة لا تمنع وجود خطاب يطل برأسه عبر العرض طوال الوقت خطاب يجد حضوره في حضور وسائل الاتصال والإعلام (أجهزة التليفون المحمول والتلفاز..) إن حضور تلك الأجهزة ربما يشير إلى طبيعة العالم الذي أتت منه تلك الشخصيات وطبيعة عمليات التحول والانحطاط التي تعاني منها، كذلك فإن عملية قتل الأب (الخنزير) وتعليقه والإشارة إلى تحوله لغذاء كما يشير العرض بتعليقه بنفس وضعية الذبيحة النازفة للدماء التي تتصدر الصورة المسرحية ربما يشير كذلك لرؤية متشائمة للواقع وتداعياته، فاليأس الذي يتمدد عبر الواقع والصراعات الاجتماعية التي تسود المجتمع تجد لذاتها حتى في مثل ذلك العرض الذي يراهن على بناء صورة مسرحية جمالية بالأساس لا تنتج معنى محددا.
ربما كانت رهانات العرض على التعامل مع الفضاء مبشرة، فنحن في فضاء غير تقليدي لمبنى مكون من عدة أدوار، مبنى في وسط المدينة مهجور ومدمر، لكن العرض وبعد المشهد الأول الذي يتم فيه اقتياد المتلقين/ المشاركين إلى الفتاة التي تقوم بتحطيم عظام بسكين كبير في ضوء الشموع، نجد أن بقية العرض ينتقل لبناء مشهد تقليدي يتم فيه تقسيم الفضاء بين مساحة للأداء ومساحة للتلقي وهو ما يخفض من سقف الإمكانات التي يوفرها الفضاء العدائي الذي كان من الممكن أن يستوعب المتلقين ويحولهم إلى مشاركين بالفعل. لكن خيارات العرض في النهاية كانت لصالح بناء لوحة بصرية لعالم متهالك ثابت ينتظر النهاية بلا أمل في المستقبل .
ربما تكون تلك الإجراءات التي صممها المخرج والسينوغرافي “عمر المعتز بالله” (ومجموعة العمل) لبناء العلاقة بين المتفرج وعرض “هدوء نسبي” - أو الميتافورسيس (المسخ) كما يشير العنوان اللاتيني للعرض– هي جزء لا يتجزأ من بنية العرض وعنصر من عناصر تشكيله، فهناك حالة انتقال من المدينة وإيقاعها إلى الاستقرار ضمن خليط من الغرباء في انتظار العرض، الأمر الذي سرعان ما يحول مجموعة الغرباء تلك إلى رفاق رحلة، وهو ما يزداد تأكيده ببطء واستمرار مع كل خطوة حتى البداية الحقيقية للعرض، ولعل هذا ذاته ما كان العرض يستهدف المحافظة عليه حتى النهاية من خلال ذلك الخروج المرتجل والمناهض لتقاليد نهاية العروض المسرحية فلا وجود لتحية للممثلين ولا إضاءة كاشفة لإعلان نهاية اللعبة المسرحية .. وبلا تصفيق أو إضاءه أو قاعة مسرح ومقاعد محددة، حيث تتحول علاقة المتفرج بالعرض إلى ما يشبه المغامرة في عالم غريب وخطر وعدائي (أتربة – دخان – دماء – أسلحة بيضاء.. إلخ) مغامرة تنتهي بذلك الخروج المرتجل الذي لا يقطعه سوى تلك المؤدية التي تقبع في نهاية ممر الخروج من قاعة العرض تراقب المتفرجين في رحلة خروجهم وقد حل محل رأسها شاشة تلفاز مضيئة بالتشويش الدال على عدم وجود إرسال تلفزيوني، بالإضافة لبعض اللطخات الحمراء قبلما يجد المتفرج نفسه في الشارع من جديد لتنتهي المغامرة وينخرط من جديد في المدينة وإيقاعها، وقد تحلل من رفقة المجموعة وذلك العالم المقبض الذي يجمع بين رؤية لنهاية العالم (أبوكاليبس/Apocalypse ) والانحطاط وتحول الجنس البشري لمسوخ نصف حيوانية، وأخيراً التأثيرات الواضحة لتقاليد وتقنيات سينما وأدب الرعب وبشكل خاص نوعية الرعب الجسدي (body horror) القائم على انهيار وتحول الجسد البشري وانحطاطه .
إنه خليط من التقاليد والتقنيات يتم دعمها عبر العرض حيث يعتمد العرض بشكل كامل على التأكيد على الحالة الدموية والتحول والانحطاط الذي يصيب الشخصيات وعالمها والذي يدعم من خلال الصورة المسرحية التي تظهر شخصية “الأب” في صورة جسد بشري مترهل وعاجز برأس خنزير وكذلك الفتاة التي تحمل جهاز التلفاز التي تتحول في النهاية إلى جسد بشري ورأس عبارة عن جهاز تلفاز كما سبقت الإشارة . كما يتم دعم ذلك عبر الحوار المسرحي الذي هو عبارة عن جمل متشظية يتم تكرار بعضها بشكل دوري على مدار العرض وذلك عبر جمل تكرارية تعبر فيها الشخصيات عن كونها لم تزل تحمل الصفة الإنسانية أحياناً كما تأتي أحيانا بصيغة التساؤل “هل مازلنا بشرا؟” .
إن تلك التقنيات والتقاليد التي تبدو مدعومة على مدار العرض والتي يتم دعمها عبر فضاء العرض العدائي وكذلك عبر السينوغرفيا وكذلك عبر الحيل التي يعتمدها العرض مثل سقوط أجزاء من المبنى أو حتى عبر عناصر الضغط الحسي (الدماء – النيران – الأدخنة – الأتربة). ولكن في المقابل، فإن العرض يقوم بتفتيت تلك التقنيات عبر تفتيت السرد التقليدي الخاص بتلك النوعيات فهو يقوم بتمزيق البنية الحكائية بحيث لا نتعرف إلا على ظلال لحكاية أسرة تعاني من الانحطاط الجسدي في نهاية عالمها الخاص حيث تفقد آدميتها ببطء وهي تنتظر الموت الذي يترصدها والذي يلتقط شخصية الأب في النهاية .
إن بناء العرض القائم على معارضة تقاليد أدب وسينما الرعب التي تنتمي لمجموعة الفنون الجماهرية ربما يكون أحد الرهانات الأساسية للعرض فهذه التقاليد والتقنيات التي يتم تدميرها بشكل منتظم على طول العرض وانتزاعها من الخطابات التقليدية التي تتبناها ربما يفتح المجال لتدمير وجود خطاب موحد يتبناه العرض لتبقى علاقة المتلقي ونشاطه التأويلي هو العنصر الأكثر حضورا .
بالتأكيد، فإن تلك الحالة لا تمنع وجود خطاب يطل برأسه عبر العرض طوال الوقت خطاب يجد حضوره في حضور وسائل الاتصال والإعلام (أجهزة التليفون المحمول والتلفاز..) إن حضور تلك الأجهزة ربما يشير إلى طبيعة العالم الذي أتت منه تلك الشخصيات وطبيعة عمليات التحول والانحطاط التي تعاني منها، كذلك فإن عملية قتل الأب (الخنزير) وتعليقه والإشارة إلى تحوله لغذاء كما يشير العرض بتعليقه بنفس وضعية الذبيحة النازفة للدماء التي تتصدر الصورة المسرحية ربما يشير كذلك لرؤية متشائمة للواقع وتداعياته، فاليأس الذي يتمدد عبر الواقع والصراعات الاجتماعية التي تسود المجتمع تجد لذاتها حتى في مثل ذلك العرض الذي يراهن على بناء صورة مسرحية جمالية بالأساس لا تنتج معنى محددا.
ربما كانت رهانات العرض على التعامل مع الفضاء مبشرة، فنحن في فضاء غير تقليدي لمبنى مكون من عدة أدوار، مبنى في وسط المدينة مهجور ومدمر، لكن العرض وبعد المشهد الأول الذي يتم فيه اقتياد المتلقين/ المشاركين إلى الفتاة التي تقوم بتحطيم عظام بسكين كبير في ضوء الشموع، نجد أن بقية العرض ينتقل لبناء مشهد تقليدي يتم فيه تقسيم الفضاء بين مساحة للأداء ومساحة للتلقي وهو ما يخفض من سقف الإمكانات التي يوفرها الفضاء العدائي الذي كان من الممكن أن يستوعب المتلقين ويحولهم إلى مشاركين بالفعل. لكن خيارات العرض في النهاية كانت لصالح بناء لوحة بصرية لعالم متهالك ثابت ينتظر النهاية بلا أمل في المستقبل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق