مهرجان القاهرة
الدولى للمسرح المعاصر والتجريبي
(الدورة 24 لعام
2017)
مداخلة للمحور الأول: (التراث، هل هو خاص بالريف
أم المدينة) - تفجير الأطر التقليدية
أين توجد نقاط الإرتكاز التي تحدد
الحدود الفاصلة بين المدينة والقرية ؟ وهل يوجد فعلاً ما هو خاص بالمدينة وما هو
خاص بالريف على مستوي التراث الأدائي الفني كما يذهب العديد من الباحثين في إطار
تأكيدهم على الطبيعة المدنية للمسرح ، حيث يتجلى المسرح في ذلك التحليل بوصفه فن
مدن في حين ينتمي للريف وأطراف المدن الأشكال الأدائية الأسبق كالأدائيات
الأحتفالية أو الطقسية أو المؤدين أصحاب التقاليد العتيقة (الرواه – ممثلي الشوارع
– المهرجين – الراقصات و الراقصين المحترفين – الحواة – لاعبي السيرك الجوالين..
الخ) ، أم نتبع جان دوفينيو في طرحه حول العلاقة الشرطية بين المدينة والمسرح " في المدينة يبرز العرض الخيالي . المدينة
وحدها ، وسط فضائها ، تنظم مكاناً تعرض فيه وجوه الإيهام . في اللغة الإغريقية
كلمة تياترون تعني عرضاً للفرجة ، وهكذا بدأ عصر المتفرج" ([i])
وبالتالي تصبح الفرجة جزء من بنية المدينة بينما الأشكال الأدائية القائمة على
مشاركة المتفرج بالأداء تصبح قروية وبالتالي يصبح الطقس والأحتفال الذي يكون فيه
الجميع مشاركين هو سمة القرية في حين يكون مجتمع المتفرجين والمؤدين سمة لمجتمع
المدينة . أم نتوقف مع تحليلات المادية الثقافية التي ترى أن من الضروري الأخذ في
الأعتبار بالأوضاع المادية "المكان، الهياكل التنظيمية والممارسات المؤسسية
،والمال،والناس حيث تعالج هذه السمات أين يقام المسرح في المدينة وماذا يعني ذلك
المكان وما دلالة هندسته المعمارية ..." ([ii])
وبالتالي فإننا ننطلق من العلاقات التي يتشكل في إطارها العرض المسرحي والتي يكتسب
من خلالها معناه كجزء من بناء المدينة وأحد منتجاتها فهو فن قائم على شبكة معقدة
من علاقات العمل والتراتبيات والتنظيم الإجتماعي للأدوار وهو ما يتناسب مع الأبنية
الاجتماعية والسياسية والأقتصادية للمدينة بينما تبدو القرية في المقابل غارقة في
علاقات بسيطة أولية.. يتناسب معها صوت الراوي الشعبي الذي يبتلع كل الأصوات وغيره
من الأشكال الأدائية الأحتفالية والطقسية التي ترتبط بالنظام الاجتماعي المتماسك
والمتعاضد. أم هل نتوقف أمام ذلك التراث الأدائي ونحاول أن نقوم بعمليات فصل
وتحديد تاريخي لما هو مرتبط تاريخياً بالمدينة وما هو مرتبط تاريخياً بالقرية ..
فيصبح ممثلي الشوارع كما يبدو من تعريفهم جزء من المدينة في حين يتم تحديد السامر
الشعبي كشكل أدائي مرتبط بالقرية و أحتفالات الحصاد .. الخ .
تبدو
محاولة التصنيف هنا شديدة الصعوبة يصعب تحديدها دون أن نقوم بعمليات تمزيق وبتر
ودمج وزراعة وإعادة تعريف للمسرح وما هو مسرحي وما هو غير مسرحي .أن مجرد وضع الفن
الأدائي في تلك الماكينة التصنيفية (مدينة/قرية) سيجبرنا بالتالي على أستعادة
قائمة طويلة من المراجعات والإطروحات والتجارب التي شغلت المسرح في القرن العشرين ،ذلك
أن تحديد المسافة بين المسرح والأشكال الأدائية السابقة ومحاولة الإمساك بما هو
مميز ومتمايز في الفن المسرحي عن غيره من الفنون (بما فيها الدراما التي أصبحت
شريك في أكثر من وسيط مثل السينما والتلفزيون) كان أهم منجزات زمن الحداثة الذي
كان مشغولاً في كل مراحله وأطواره بالبحث ما هو أصيل وأساسي وجذري في الفن المسرحي
.. وتأكيد المسافة التي تفصل ما هو مسرحي عن ما هو غير مسرحي ..
بالمقابل
- ونحن أمام تلك الأرض الشاسعة التي تطرحها علينا محاولة التميز تلك- هل يمكن وعلى مستوي أخر أن نحدد مجموعة من
السمات الفاصلة و المحددة التي يمكن لنا أعتمادها لتحديد الفارق بين المدينة
والريف والذي يبدو للوهلة الأولي شديد البساطة والبديهية لنا .. فمثلاً هل يمكن
أعتماد الفارق بين تعداد سكان المدينة مقارنة بتعداد سكان القرية كمدخل لتفهم
كيفية إدارة الفضاء بين المدينة المعقدة والمتنوعة والقرية البسيطة أحادية الوجه حتى
وأن واجهنا ونحن في سبيلنا لذلك أزمات من نوع كون بعض قرى الدلتا المصرية يزداد
تعداد سكانها على تعداد بعض المدن في الخليج العربي مثلاً ؟ أم يكون منطلقنا
العلاقة بين الفضاء والتجمع البشري فالقرية أكثر إلتحاماً بالطبيعة بينما تقاوم
المدينة الطبيعة وتحاول السيطرة عليها ؟ وبالتالي نصبح أمام ثناية الطبيعة /
الثقافة عند مد التحليل على أستقامته ؟ أم من الممكن أن ننطلق من ذلك الفضاء
المعقد والمتعدد المستويات اجتماعيا وسياسيا وأقتصاديا المميز للمدن في مقابل
القري الأكثر تحديداً وبساطة معتمدين على التحليل الماركسي الذي يضع المجمتمع
الصناعي في مواجهة المجتمع الزراعي كمراحل تطور؟!
أننا
في كل خطوة نصبح أكثر أقترابا فيها من القيام بعملية تصنيف نجد أنفسنا أمام خيارات
تصنيفية تزيد من تعقيد مهمتنا وأكثر تشعباً .. لذلك فإننا سوف نحاول الإلتزام
بمتابعة تاريخية بسيطة لتاريخ العلاقة بين
الفن المسرحي بصيغة الغربية والأشكال الأدائية التقليدية وفترات صعود وسقوط وصراع
تلك الأشكال الفنية في مواجهة بعضها البعض وتداخلها وتكاملها في أوقات أخرى أو
أبتلاع المسرح لها أو أبتلاعها للمسرح .. الخ . محاولين عبر ذلك أستكشاف العلاقات
المعقدة بين الفنون الأدائية والمسرح و المدينة و الريف.
1-
المدينة والأداء والأخلاق
"
يمكن القول أن الميادين العامة هي الأماكن التي تعرض فيها أكبر مشاهد الفسق مدعاة للخجل،
فهناك يقدم بعض الحواة والمشعوذين مشاهد شهوانية تنتهي بلوحات بالغة الانحطاط والفظاظة،
تشكل فسادا مدهشا للتقاليد.. والممثلون الرئيسيون في هذه اللوحات هم على الدوام
شيخ وطفل . وبرغم ذلك فلو أننا حكمنا على تقاليد الأمة بأكملها عن طريق الميل الذي
يبديه أبناء البلد عادة نحو هذه العروض ، لكونا بالتأكيد فكرة خاطئة وظالمة ، فمثل
هذه العروض الماجنة لا تجذب إلا السوقة و الرعاع ، ومثل هؤلاء الناس في كل مكان ،
نهمون لرؤية مشاهد الغلمة و الفسق بكل عريها ، ولكن ما يدعو إلي الأسف حقاً أن
تسمح السلطات بمثل هذه العروض" ([iii])
تتناثر
الأوصاف والأحكام الأخلاقية في معظم الكتابات الغربية التي تناولت مختلف أشكال العروض
الأدائية التي كانت منتشرة في مصر خلال الفترة الممتدة منذ الحملة الفرنسية على
مصر وحتى ثورة عام 1919 ، ففي خلال تلك الفترة الممتدة و الطويلة كان من المعتاد
أن يرصد الرحالة والمؤرخين والسياسيين الأوربيين تلك المظاهر الأدائية - التي كانت
تنتشر في شوارع القاهرة وبيوت عظمائها - وهم
يبدون أعلى قدر من الإستياء والرفض والإستهجان لتلك المشاهد التي تجرح الذوق
البرجوازي، وهو ما يتجلى في الإقتباس السابق ذا الرؤية المتعالية التي ترى أن
الشرائح الأكثر فقراً داخل المجتمعات الغربية والشرقية على السواء هي منحلة
أخلاقياً، حيث يؤكد "دي شاربول" على الأوصاف المزدرية للفقراء بوصفهم
بالسوقة والرعاع وأن ميولهم للمشاهد الأدائية " المنحطة و الفظة والفاسدة
أخلاقياً " هي جزء من منظومة ممتدة وعامة يتسم بها أمثال هؤلاء في كل مكان . ولعل
ذلك القلق من تلك الجموع الفقيرة وأخلاقيتها الأكثر أنفتاحاً وتحرراً جعلت من
مواجهة العري والعروض المثلية التي كانت تنتشر في شوارع وميادين القاهرة مطلب
أساسي سابق على بناء منظومة أخلاقية تتناسب مع البرجوازية بشرائحها المختلفة وقيمها.
أن
تلك الإدانة الأخلاقية (في الأقتباس السابق) لاتتوقف فحسب عند أستعراض التقزز الأخلاقي
البرجوازي لذاته ، بل تنتقل بشكل مباشر - كما فعل أدورد لين في ما بعد بوصفه للعرض
الأدائي الذي قدم في حضرة محمد على باشا – إلي الربط بين تلك العروض الأدائية وبين
السماح والقبول العام لدي السلطات المصرية بمثل تلك العروض. أن " دي شاربول" هنا يقيم الرابطة الأولي والأساسية بين الأداء
الفني كممارسة أجتماعية وبين دور السلطة السياسية في الحفاظ على النظام الأخلاقي والاجتماعي
. أن هذا التوجه الواضح نحو تأكيد دور المؤسسات الأمنية في الهيمنة على الفضاء
والمنع والتقييد بما يتفق مع أيديولوجيا الدولة البرجوازية وخطابها الأخلاقي من
الأمور التي يبدو أنها أساسية في تصور "دي شاربول" الذي كان ينظر لنظام
الحكم في مصر عند وصول الحملة الفرنسية كنموذج للدولة القمعية التي تمارس أقصي قدر
من الفساد وتقوم برعاية ودعم الفوضي وتنتقص من حرية الأفراد في الحركة والتملك ([iv])،
حيث كان ذلك التصور لنظام الإدارة -السياسية والأقتصادية والقانونية- الخاص بمصر
والمظالم التي تنتج عنه مهيمنأ منذ أطلاقه كجزء من مشروع الحملة الفرنسية وحتى
الأحتلال الانجليزي لمصر حيث كان يتم التسويق أجتماعيا في فرنسا - وأنجلتر في
مابعد ، كما كان يسوق للمجتمع المصري والعالمي- أن هدف الأحتلال هو تخليص المصرين
من النظام الفاسد والقمعي للمماليك – والخديوي في ما بعد - وهو ما تأكد لعلماء الحملة في ما بعد عبر الرصد
اليومي للحياة المصرية في الريف و الحضر حيث كانت لتلك العروض الأدائية بمستوياتها
المختلفة (راقصات وراقصي الشوارع والحواه والمشعوذين والموسيقيين والممثلين
المتجولين .. الخ) أحد الأدلة الأساسية لدي الراصد الغربي على أنتشار الفوضي وفساد
النظام وغلظته تماماً كما كان يكتشف ذلك من دراسة أشكال الإدارة المحلية والسياسية
والديانة الأسلامية ... الخ
أن
تلك الرؤية الاخلاقية كانت جزء أساسي من المفهوم المدني والحضاري الذي أعتمد عليه "الرجل
الأبيض" في تسويغ تفوقه وتخليق قاعدة للممارسات الإستعمارية، فتلك الرؤية
كانت تتبنى مشروع تنويري قائم على نشر قيم ومنجزات الحضارة وبالتالي التسويق
لعملية تنظيم الفضاء الاجتماعي والتحكم وفق تصور البرجوازية الاوربية ([v]).
لقد أستطاعت تلك الأفكار أن تجد لها أرضية داخل
عقل الدولة لمصرية التي كانت تنطلق منذ بداية القرن التاسع عشر في عملية تحديث
النظام الاجتماعي عبر بناء المؤسسات العسكرية والقضائية والأمنية والطبية .. الخ وفق
نظام بناء الدولة الحديثة . حيث ترسخ النموذج الغربي البرجوازي في بناء المؤسسات
السياسية والأقتصادية والاجتماعية في ذهنية الدولة المصرية وبالتالي فإن المركز
الغربي - وقيمه وأشكاله التعبيرية- أنتقل
بدوره .. حيث أنتقلت نظم التنظيم الاجتماعي مع نظم بناء المؤسسات ، بحيث أصبح تأسيس
الدولة المصرية لدور العرض المسرحية بوصفها جزء من تأسيس المدينة الحديثة جزء لا
يتجزأ من عملية إعادة ضبط الفضاء العام ونزع الشرعية عن مؤدي الشارع ، وهو ما سار
بشكل متوازي مع ذلك النمو المتصاعد للطبقة الوسطي المتعلمة التي نمت بشكل مطرد
خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول للقرن العشرين والتي أظهرت بالتالي تحيزاً للأشكال
الأدائية الأكثر أرتباطاً بالمركز الغربي "المسرح بشكل أساسي" والذي كان
يمثل النقيض الحقيقي للعروض الأدائية ما قبل المسرحية. حيث قامت طبقة الأفندية ([vi])
أبناء المدينة بتبني المسرح كأحد الفنون التي تعبر عن وعيهم بالعالم و موقفهم منه .
ولكن
هل يكفي ذلك التحليل لتحديد العلاقة بين المدينة الحديثة والأشكال الأدائية غير
المسرحية والقائم على الربط بين المنظومة الأخلاقية للبرجوازية والمسرح ؟ بمعني أخر هل ترتبط المدينة البرجوازية القائمة
على تنظيم الفضاء وتحديد المجال الخاص بكل ممارسة بالنفي الأخلاقي لتلك الأشكال
وبالتالي أستيعاب "الريف" لتلك الأشكال الأدائية المنفية وتوطنها به .
بالتأكيد
لا يكفي ذلك التحليل فالتقسيم الأخلاقي يمكن له أن ينهار بسهولة أمام طبيعة رؤية
مجتمع العصور الوسطي للمؤدين فقبل رصد "شابول" بما يزيد على القرن
تقريباً يصف " أوليا جلبي" أصناف المقلدين و المضحكين بقوله " عددهم ثلاثمائة
نفر ، وهم يقومون باللعب و"القشمرة"([vii])
في المقاهي و الخمارات ومقاهي البوظة (= الجعة) ، ويمرون هم يقدمون شتى أنواع
الملح و المضحكات بين القهوجية ، فأولاد الزنا لهم سبعون نوعاً من الحيل و
اللعب" ([viii])
.
كما يبدو من الوصف الذي يقدمه "جلبي" لمؤدي
الشوارع المصرين في نهاية القرن السابع عشر وما يحتويه الإقتباس من أتهام أخلاقي وتحديد
سلبي للمركز الاجتماعي لتلك الطائفة من المهرجين فكما يتضح فإن أبناء تلك الطائفة
يتم نعتهم من قبل المؤرخ " بأولاد الزنا " وهو ما يعكس رؤيته لموقعهم و
قيمتهم الاجتماعية كذلك فإن أرتباطهم بالمقاهي والخمارات ومقاهي البوظة يوضح طبيعة
وموقع تلك الطائفة داخل النظام الاجتماعي والمواقع التي يمكن لهم فيها تقديم
فنونهم . بمعني أخر فإن الموقع الإجتماعي المتدني و الإدانة الأخلاقية لفنون
الأدائية لم تولد مع ميلاد المدينة البرجواززية الحديثة بل هي جزء من رؤية
أجتماعية أقدم و أكثر تجذراً ، كما يكشف الأقتباس عن أسباب أرتباط تلك الأشكال
الأدائية بالمدينة أقتصادياً وهو وجود مواقع يمكن لها أستقبال تلك الفنون و أتاحة
الفرصة للفنانين لتقديم أعمالهم بحرية و بنظير مالي .. في مقابل محدودية أو ندرة
تلك المواقع في الريف.
أن أزدواجية الرفض والقبول للأشكال الأدائية في القرون
السابقة كما يرصد العديد من المؤرخين من
أمثال المقريزي ([ix])
كانت تقوم على فتح مجال للمؤدين لتقديم عروضهم
خارج سلطة المدينة (الدينية والسياسية)وفي نفس الوقت بالقرب من قواعدها
الاجتماعية التي تحاصرهم و تطردهم وتستمتع بأعمالهم بمعني أن الفنون الأدائية كانت
تحيا في إطار من "اللاشرعية المقبولة" برغم ما تحتويه تلك العروض من
تعارض صريح - وفاضح أحيانا- مع القواعد
الأخلاقية والشرع والقانون .. الخ. لكن في ظل النظام الاجتماعي لمجتمع ما قبل
المدينة البرجوازية فإن "هذه اللاشرعية الضرورية ، التي كانت كل شريحة
اجتماعية تحمل معها أشكالها الخصوصة كانت واقعة ضمن سلسلة من التناقضات و
المفارقات ، فهي في مناطقها الدنيا، كانت تقارب الجرمية التي كان يصعب عليها أن
تتميز عنها قضائياً إن لم يكن أخلاقياً" ([x])
ولكن وكما يرصد أيضاً فوكو فإن البرجوازية لم تكن تستطيع التعامل أو القبول بوجود
ذلك الهامش اللاشرعي الذي يهدد الملكيات الفردية في سواء في الملكيات العقارية أو
التجارية أو الصناعية وبالتالي أصبحت الحاجة متصاعدة لبناء الدولة البرجوازية
ومؤسساتها وترسانة القوانين الخاصة بها والتي تقوم بضبط ومراقبة الجسد البشري داخل
الفضاء ، فلا يصبح من الطبيعي أن يرتحل الفلاحين هرباً من سداد الضرائب ، كما أن
النظام البروسي في تشكيل وبناء الجيوش وضبط الجسد المقاتل يضبط أجساد المجندين ،
والنظام الطبي والقانوني والتعداد القومي .. الخ ([xi])
أن أستبعاد مؤدي الشارع من المدينة البرجوازية الحديثة
الناشئة - والتي تطورت سريعاً ونمت بشكل مطرد منذ هدم أبواب الحارات في أثناء ثورة
القاهرة ضد الجيش الفرنسي وحتى ثورة 1919 – كان يرتبط بعمليات السيطرة والمراقبة
للجسد وأطلاق يد الدولة و تنمية السلطة بكل مستوياتها حتى أدق مستوياتها والتي لا
ترتبط بالنظام السياسي أو سلطة دينية .. الخ
([xii])
فالجسد المؤدي الذي كان ينطلق في شوارع المدينة وميادينها و مقاهيها و حاناتها
مخترقاً الحدود الاخلاقية والقانونية أصبح موضع تدقيق ومراقبة وأصبح منعه وتحديد
مجال حركته ، تحديد أكتسب حدوده القصوى مع بناء داء العرض المسرحي التي أصبحت
المكان الأدائي المسموح والقانوني لممارسة الأداء تحت سيطرة ومراقبة عين السلطة
(ونحن هنا نتحدث عن السلطة بالمعني الذي يقصده فوكو).
فإلي أين ذهبت المظاهر الأدائية التي القروسطية والتي
كانت مزدهرة وفي قمة نشاطها خلال قرون الدولة المملوكية و العثمانية ؟
يمكننا أن نرصد تحولات أساسية في هذا المجال الأول هو
"المولد" الذي هو ممارسة ذات طبيعة أحتفالية وطقسية أستطاعت أختراق
المدينة البرجوازية المركزية (القاهرة) والمحافظة على حضورها في الأقاليم المختلفة
سواء الحضرية أو الريفية ، ذلك أن الكثير الفنون الأدائية ما قبل المسرحية قد
أنسحبت إلي "المولد" الذي أصبح مع الوقت ظاهرة منقطعة الصلة بالمدينة مع
تراجع الديانة الشعبية التي يحتل فيها الأولياء موقع هام وتنامي تيار ديني محافظ
وتجريدي يتماشي مع برجوازية المدينة (الأسلام السني).
أما التحول الثاني فهو أنسحاب و تجذر بعض الأشكال
الأدائية خارج حدود المدينة مثل الرواه الشعبيين والمداحين وفرق الغوازي .. الخ
بسبب حالة النمو غير المتكافئ للدولة بين المدن التي حظيت بدعم وتنمية أقتصادية وأطراف
ريفية لم تحظى بذات الدعم.
وعليه فإننا يمكن أن نصل إلي أن ذلك الجسد الأدائي لم
يكن جسد خاص بالريف أو المدينة بلهو جسد في حال حركة نشطة يحتل فيها الجسد المؤدي
أدوار مختلفة بحسب موقعه وعلاقته بالفضاء الذي ينتجه و يحدد له الأدوار التي يمكن
أن يقوم بها وكذلك الأوضاع والأداءات الجسدية والصوتية المقبولة وتلك التي لا يمكن
له أداءها والتي تقع خارج حدود عمله .
2-
التيار مابعد الكولونيالي وأستعادة الجسد المقموع
في كتاب "يا ليل يا عين" رصد الكاتب الكبير "يحيي
حقي" لحظة شديدة الأهمية في تاريخ تطور علاقة الدولة مع الفنون الأدائية ،
حيث يتوقف عند لحظة دخول "زكريا الحجاوي" مكتبه في مصلحة الفنون وخلفه
مجموعة متنوعة من الفنانين الشعبيين الذين أتى بهم من أقاليم مصر المختلفة بعد
رحلة بحث طويلة عن المؤدين الشعبيين في محافظات مصر المختلفة في منتصف الخمسينيات
من القرن العشرين ، وهي لحظة يمكن أن نعتبرها فريدة وفاصلة في تاريخ الفنون
الأدائية في مصر والمنطقة العربية بشكل عام.
ربما لم يتم التوقف بشكل كافي أمام تلك التجربة الأساسية
والمبكرة في تاريخ الفنون الأدائية خلال النصف الثاني من القرن العشرين ، وهي
تجربة تستحق التوقف أمامها لأسباب متنوعة في مقدمتها أنه قد تم توثيقها ورصد مراحل
تطورها عبر أحد صناعها الأساسيين، وكذلك لكونها أول التجارب الحقيقية في مجال تدخل
الدولة المصرية في عملية أستعادة التقاليد والفنون الأدائية التي تعرضت للنفي
الأخلاقي والأمني والاجتماعي لزمن طويل ، حيث ساهمت "مصلحة الفنون"
كمؤسسة حكومية بشكل مبكر في عملية أستعادة الجسد الأدائي المقموع و المطرود و
المحاصر من الريف ومحاولة إعادة توطينه وضبطه وفق للتصور الخاص بالدولة.
ولعل منطلق تلك العملية ومصدر إلهامها كان محاولة الوصول
للدقة التي تمتعت بها فرقة الرقص الشعبي الصينية التى يسرد الكتاب زيارتها لمصر في
إطار التبادل الثقافي والتي علقها يحيي حقي على عرضها بقوله " لقد بلغ
الانضباط البشري الحد الذي لا يبلغه الا الانضباط الالي ، يتمزق المشاهد بين ترنحه
تحت عبء الشعور بما يراه بقسوة القسر وبين بهجة الشعور بالإعجاب ..
بالانبهار" ([xiii])
أن ذلك التعليق
الذي ينتهي بالإعلان عن حالة الإنبهار من الإنضباط و الدقة و التزامن وأنسحاق
الذات الفردية أمام التشكيل الجماعي كان هو النموذج الأساسي الذي شغل ذهن "يحي
حقي" وهو ينظر لتلك المجموعة من الفنانين الشعبيين الذين أحضرهم "زكريا
الحجاوي" فهي مجموعة متنوعة الأحجام
والأشكال والتي ترتدي طرز متنوعة وينتمون لمرجعيات مختلفة .
"كانوا ...
الفلاح الأجير ، وابن العمدة كبير المقام ، من الهواة هم
، ينطقون بفرح المشاركة تطوعاً في عيد. وفيهم المحترف عن أب عن جد ، جاء يحدوه
الطمع لأن يقفز فوق ظهورنا إلي الإذاعة عقبال عندك ...." ([xiv])
لقد أنشغل "يحي حقي" بأهمية تصنيفهم وتدريبهم
وضبط أدائهم وفقاً لنموذج الفرقة الصينية الذي يحضر في الكتاب بشكل متواتر ، ولعل
ذلك ما جعل من التي تكيفهم وضبطهم وتنظيمهم وليتناسب أدائهم مع جماليات خشبة
المسرح من الأمور الأولية التي فكر فيها "يحي حقي" ولذلك لجاء إلي
مجموعة من المخرجين المحترفين (سعد أردش- كمال يس – نبيل الألفي – حمدي غيث – عبد
الرحيم الزرقاني).
أن تلك الخطوات الأولي نحو إعادة ضبط وتأطير وتجهيز الفن الأدائي التراثي كما يتجلى
في كتاب" ياليل ياعين" تسعى بشكل دؤوب نحو الوصول تخليص الفن الأدائي
التقليدي من كافة روابطة بالواقع الذي أنتجه وإعادة إنتاجه ليتلائم مع فضاء خشبة
المسرح ليصبح "في منطقة البين بين" بتعبير يحي حقي. أنه مشروع الحداثة الذي
تبناه المسرح المصري في تلك المرحلة فالمسرح (الفن المسرحي) هو القاعدة التي يتم
على أساسها قياس كافة الأشكال الأدائية التقليدية التي يتم أستدعائها والبحث
داخلها عن السمات المسرحية التي يمكن أن تصلح للخضوع لتقنيات وتقاليد المسرح وأستبعاد
تلك السمات التي لا يكمن أخضاعها لعمليات تنظيم العرض المسرحي.
ملاحظة أخيرة هامة بالنسبة لموضوع بحثنا وهي أن "يحي
حقي" وهو في إطار بناء عرض"يا ليل يا عين " أتجه نحو تقسيم العرض
إلي ثلاثة أقسام رئيسية قائمة على توزيع جغرافي (الصعيد،القاهرة ،الوجه البحري)
بحيث أصبحت الرقصات الشعبية هي المشكل الأساسي للفنون الأدائية المعبرة عن الهامش
بينما أصبح من نصيب القاهرة "الأرجوز وخيال الظل والمواكب الدينية ...
الخ" ولعل ذلك التوجه يكشف لنا عن طبيعة تصور تقسيم الفنون الأدائية بين
الريف والحضر ، ففنون الريف هي فنون أحتفالية أو طقسية بينما فنون المدينة
الأدائية تقدم بالأساس للمتعة الفنية. وهو ما يشير إلي جزء من تصور للعلاقة بين
الفن الأدائي والريف والحضر كما يشير إلي أتساع مفهوم التراث الأدائي في المرحلة
ما بعد الكولونيالية ليشمل التراث الأدائي للريف والمدينة وأخضاعهم لتقنيات الفن
المسرحي وقواعده .
عند هذا الحد يمكننا أن نتوقف في تحليل كتاب "
ياليل يا عين " لنخرج منها بمجموعة من النتائج التي يمكن لنا أختبارها - بقدر
محدود من الثقة- عند تعرضنا لأي تجربة من
تجارب تأصيل الظاهرة المسرحية عربياً (أو مصرياً ) ففي النهاية تظل العلاقة بين
المسرح وتقنياته و قواعده التنظيمية وبين الفنون الأدائية التقليدية قائمة على
إعادة التشكيل لتلك التقاليد الأدائية وصياغتها مسرحياً .
أن أضفاء النظام والضبط والتصنيف كان جزء أساسي من عملية
أستعادة للجسد الأدائي المقموع والمنفي ، بحيث يتم تحويله إلي جزء من آلية تشكيل
الهوية الوطنية ومناهضة المركزية الغربية بمعاير تناسب الخطاب المهيمن.
أن
الفنون الأدائية الشعبية عندما تم أستدعائها من الريف والمولد الشعبي كانت لم تزل
محتفظة بالكثير من السمات المميزة لها فهي قائمة على التنوع والخروج على الإنتظام
وبالتالي فإن إعادة ضبط وتوطين ذلك الجسد المقموع داخل ثقافة المدينة التي كان
مستبعد منها كان يستوجب القيام بمجموعة ضخمة من الإجراءات الإنضباطية لعل أولها هي
ضبط الجسد وتقليمه بما يتناسب مع أنضباط الحركة المسرحية ودقتها، تحرير المادة
الشفاهية والأدائية وتوثيقها كتراث وبالتالي حفظها والتعامل معها كمرجع وليس
بوصفها موضوع أدائي . أما أخر تلك الإجراءات فهو إعادة بناء ذلك الجسد الأدائي وفق
تقنيات ذات مرجعية مسرحية وذلك من خلال دمج تقنيات الأداء التمثيلي القائم على
الإرتجال والكوميديا اللفظية والجسدية الخشنة بتقنيات كوميديا الفودفيل الفرنسية
البرجوازية([xv])
الأمر الذي يؤدي في النهاية لذوبان تلك التقنيات في إطار ما هو مقبول أجتماعياً
وأخلاقياً.
كذلك
كان الحال بالنسبة للمسرح في الستينيات
حيث تم إعادة توطين لذلك الجسد المؤدي وفق مجموعة من القواعد المسرحية الغريبة
عليه وتم مزجه بمناهج مثل الملحمية البرشتية.
في
النهاية فإذا كان النزوع نحو المركزية الغربية قد بلغ منتهاه في إزاحة الجسد
المؤدي من الفضاء العام إلي الفضاء المسرحي بضيغه الغربية ، فإن مناهضة تلك
المركزية الغربية لم تكن تسير في الإتجاه المضاد بالمعني الحرفي للكلمة .. بل كانت
تحاول إعادة أستكشاف الملامح الثقافية الخاصة ولكن في إطار هيمنة الدولة
البرجوازية التي تمددت وأتسعت رقعة نفوذها منذ 1919 لتبلغ مداها الأقصى مع
الستينيات .
أن
ذلك العلاقة مع ما يطلق عليه "التراث الأدائي" أصبحت شديدة التعقيد فمن
ناحية كانت مقاومة المركزية الغربية تنطلق من قاعدة نمو الطبقة الوسطي التي خاضت
في سبيل ذلك الكثير من الطرق بداية من تيار الإسلام السياسي (الاخوان المسلمون)
وليس نهاية بالتيار القومي والوطني .. لكنها في المقابل لم تسطع التخلي عن مشروعها
الأساسي الذي هو مشروع الدولة المصرية والذي ينظر بريبة وقلق تجاه الأطراف غير
الحضارية كما ينظر بقلق نحو المنتجات الثقافية التي تنتجها تلك الأطراف . وبالتالي
فإن توطينها لا يكون عبر إستدعائها إلي الواقع بقيمها ولغتها التي كانت في
الستينيات غير قابلة للتطبيق بل عبر أستدعاء لتلك الفنون كفنون تراثية يتم إعادة
تشكيلها وتوطينها بما يتوافق مع الفن المسرحي الذي تحول من فن مرتبط بالمركزية
الغربية إلي الأساس الذي يتم القياس عليه لكافة الفنون الأدائية التمثيلية البديلة
أو الموازية (سواء هنا أو في معظم أرجاء العالم).
على
مستوي أخر فإن التوجهات ما بعد الكولونيالية أستطاعت - وعبر مجموعة الدراسات و
المحاولات والأعمال الإبداعية المسرحية التي تكاثرت منذ الستينيات وحتى
الثمانينيات من القرن العشرين - القيام بدور هام في وضع أسس لنظام العلاقة بين
الريف والمدينة بالنسبة للأشكال الأدائية حيث سعت بشكل واضح إلي السير في أكثر من
طريق الأول هو طرح أسئلة ذات طبيعة جدلية من قبيل "هل عرف العرب المسرح ؟!
" أو " هل كان هناك مسرح لدي قدماء المصريين ؟!" وإلي جوار تلك
الأسئلة فإن تلك التوجهات أنطلقت في أكثر من طريق بداية من العودة للمواد الشفاهية
أو التراثية العربية والمصرية كمصادر ، وكذلك العودة للمصادر الأدائية التقليدية
مثل الاراجوز والكوميديا الشعبية والإرتجال والغناء و الرقص .. الخ كمصادر أساسية
في بناء العالم المسرحي . يحيث أصبح من الممكن أجتزاء السامر من قاعدته الاحتفالية
وتحويله- ومعه التقنيات الأدائية المميزة له – إلي أطار تقدم عبره عروض مسرحية.
3- المركز والأطراف ولعبة تبادل الأدوار
كانت
تجربة عرض " يا ليل يا عين " موجهة بشكل أساسي نحو جمهور مدينة القاهرة
ومن فوق خشبة مسرح دار الأوبرا الملكية ، تماماً كما تم تقديم عرض "الفرافير"
لكرم مطاوع بالعاصمة وفوق خشبة المسرح القومي على الرغم من أعتراض المؤلف الذي كان
يري أن العرض يجب أن يقدم في سامر شعبي .
يبدو
من الأمثلة السابقة أن المدينة في مرحلة مبكرة من ميلاد التيار المابعد كولونيالي
كانت هي من يقوم بعملية أستدعاء للتراث الأدائي من الريف ، فالريف هنا يتم وضعه
داخل الخطاب المسرحي كمركز وأصل ومصدر للثقافة المصرية التي يتم أستدعائها إلي
خشبة المسرح في المدينة بهدف مناهضة المركزية الغربية والتخلص من أثار الإستعمار
الثقافية و إعادة بناء الهوية الوطنية والقومية . ولكن ومن جهة أخرى فإن المركز
الحضري (العاصمة) أحتفظ بإمتلاك الحق (بشكل حصري) في تحديد ما ينتمي للهوية
الثقافية المصرية والعربية والاسلامية وما لا ينتمي إليها، حيث قامت العاصمة/
المركز ببناء هويتها عبر أختيار عناصر ثقافية وأدائية وإعادة صياغتها وبنائها بحيث
تنقطع علاقتها بالأصل الذي كانت مستمدة منه وتصبح جزء من بناء الخطاب الخاص
بالسلطة (الطبقية-السياسية- الاقتصادية- الثقافية..الخ) المهيمنة والتي تقوم ببناء
الحقل الخاص بها وتحديد ماهو ينتمي للتراث الأدائي وما لا ينتمي إليه فنجد أشكال أدائية
مثل رقصة البطن أو التراث الأدائي القبطي (الغناء، الأدائيات الطقسية) قد تم
أستبعادهم بشكل واضح من الدخول في التيار الأساسي للتراث الأدائي في حين نجد أن
الرقص والغناء النوبيان قد تم تضمينهم داخل المتن الأساسي للتراث الأدائي برغم
أختلاف اللغة .
أن
عمليات الإستبعاد والتضمين بالتأكيد هي عمليات ديناميكية وفي حالة حركة مستمرة
فرقصة البطن أو التراث القبطي لم يتم نفيهم مرة واحدة وإلي الأبد ، بل هم جزء من
عمليات التفاوض الأجتماعي والفني طوال الوقت .. لكن ذلك لا يجعلهم في نفس موقع
الأدائيات الطقسية الصوفية (الرقصات، الغناء.. الخ على سبيل المثال) التي تم
أستيعابها والقبول بها بشكل مباشر عندما تم الإستعانة برقصة "أبو الغيط
" من قبل زكي طليمات في بداية الخمسينيات ([xvi])
، فالأداء الفني المعتمد على الأصول الصوفية وجد طريقه إلي الإستقرار داخل تصنيف
التقاليد الأدائية التراثية المعتمدة لأسباب متعلقة بالخطاب الرسمي للبرجوازية
المصرية (بشرائحها المختلفة) التي قامت بصناعة نموذجها الخاص من الصوفية الفنية
الضعيف الصلة بالتقاليد الصوفية والشرائح الاجتماعية التي تنتمي إلي تلك الطوائف وتتبنها
كمذهب والتي تقع مراكزها الحقيقية في الريف بعدما أنسحبت من المدينة بالتدريج أما
تصاعد حضور التيار السني المحافظ ونمو الدولة البرجوازية..
أن
التراث الأدائي هنا - وكما أشارنا في ما سبق – لم يتم أستدعائه وتضمينه داخل
الممارسة المسرحية دون إعادة بناء وتصنيع وتشكيل تعيد بناءه وتخليق الروابط التي تحدد
الأدوار التي يقوم بها في الواقع كما تحدد التقنيات التي يتم أستخدامها وتنميتها
وتضمينها وتلك التي يتم أستبعادها ونفيها ، فاللغة والأداءات الجسدية الخادشة
للنظام الاخلاقي البرجوازي التي شعر "شابول" بالتقزز الأخلاقي منها تم
أستبعادها والتخلص منها ونفيها بل وفي بعض الأحيان يتم الإشارة لحضورها أو
أستخدامها لأداء أدوار غير تلك التي كانت تقوم بها فمثلاً أستخدمت لغة خشنة (مؤطرة
ومحكومة) للتأكيد على الدور الثوري للفنان الشعبي في مواجهة السلطة الاستعمارية أو
الاقطاعية أو الدينية ..الخ ، أو تم أستخدام الأداء الجسدي لتقديم محاكاة ساخرة
لتلك السلطات وتأنيثها أو ما شابه .. الخ
أن
المدينة البرجوازية التي هي – في أحد مستويات التحليل – عقل الدولة وجسدها قامت
ومنذ نشائتها في القرن التاسع عشر بمجموعة واسعة من عمليات الإستيعاب والتضمين والنفي
والإستبعاد والقمع والضبط والتصنيف والتأطير والاجتزاء للفنون الأدائية التقليدية
، فمنذ تبني الدولة للظاهرة المسرحية بصيغتها الغربية في مصر كان هناك توجه واضح
نحو أضفاء الهوية الخاصة بالمجتمع ومقاومة الهوية الكولونيالية .. فتم أعتماد
الغناء الشرقي الطربي في البداية كعنصر جذب وتعريب للظاهرة المسرحية كما تم أعتماد
العديد من تقاليد الكوميديا الشعبية وتضمينها .. ولكن تظل لحظة التحول الحقيقية في
تاريخ علاقة تلك الفنون الأدائية التقليدية بالمسرح هي ميلاد مسارح الثقافة
الجماهيرية في مصر . فالمركز الثقافي (المدينة) وفي محاولته لمد سيطرته على
الأطراف (بعدما قام بعملية أستيعاب لها داخل منظومة ثقافة المدينة و تطويع و ضبط
للفنون والأدائيات الطقسية) قرر أن يقوم
بفرض هيمنته الثقافية على الأطراف ..
ولكن هل يمكن أن نعثر في تجارب المسرحيين أو دعواتهم
وتنظرياتهم على ما يناقض أو يناهض ذلك الطرح الذي يشير لتوجه الممارسة المسرحية في
أتجاه واحد قائم على سيطرة المدينة (المركز) على الريف (الهامش) والتعامل معه كسلة
للتقاليد الأدائية التي يتم إعادة صياغتها وتقديمها ؟ وهل يمكن أن نقوم بتصنيف
الريف بوصفه بأنه صامت سلبي وغير فاعل ؟
بالتأكيد يمكننا أن نتوقف عن عدد من التجارب المسرحية في
الثقافة الجماهيرية التي حاولت التملص من هيمنة المدينة ككل بداية من تبني دعوة
يوسف أدريس وتجارب أحمد أسماعيل وهناء عبد الفتاح و عبد العزيز مخيون وتجربة فرقة
بني مزار.. الخ والتي هي تجارب بطبيعتها ذات توجه يساري وكانت تستهدف قرى بعينها وتحاول
أن تطرح ذاتها كنموذج يمكن تكراره ، حيث يختفي المتلقي القاهري (أو متلقي المدينة
بشكل عام) ويصبح المؤدين والمتفرجين من أبناء القرية (حتى وأن كان العقل الأساسي
التبشيري – المخرج – من المدينة ) . أن تلك التجارب في معظمها قد تم توثيقها
كنماذج ناجحة ... وفيها يتحول الريف من أن يكون مجرد كأصل هش وضعيف ومفكك يتم
تشكيله وطبعه بالمعني عبر المركز الذي يختلقه كما سبق لنا أن قدمناه في تحليلنا
لتجربة يا ليل يا عين ؟
في البداية يمكننا أن نتوقف أمام وصف د. نهاد صليحة لأحد
تلك التجارب وهي تجربة المخرج أحمد أسماعيل الذي وصفته بأنه "فنان مبدع خلاق،
يعمل بجد واجتهاد، في أعماق الريف المصري ليصل إلى صيغة مسرحية حقيقية لمسرح شعبي
مصري عربي أصيل، وهو لا يألو جهدًا في تجميع المواهب المنتشرة في أنحاء إقليمه؛
ليوظفها في تجارب فنية لو حدثت في بلد آخر لأفردت لها الجرائد صفحاتها وكتبت عنها
الكتب" ([xvii])
أن تعليق "د.صليحة" ينطلق هنا في أتجاهين
الأول مرتبط بذات المبدع صاحب التجربة والذي يمثل جوهرها الحقيقي الذي يبذل الجهد
ويعمل - في صمت - بعيداً عن المدينة وجرائدها وكتابها "في أعماق الريف"،
أم الأتجاه الثاني فهي الذي تتناول فيه أهداف العمل في الريف بوصفه مكان لإستكشاف
التقنيات والفنون الأدائية "الحقيقية" لمسرح شعبي مصري عربي أصيل
في البداية سوف نتوقف أمام الإتجاه الأول للإقتباس حيث
يتم التأكيد على صفات" فنان.. مبدع ...خلاق .. يعمل بجد ..اجتهاد ... لا يألو
جهدًا .... يوظف .. " أنها صفات تشير وتكشف عن الطبيعة المركزية لدور المخرج في
تلك التجربة – المخرج المنتمي للمدينة والتقاليد الأدائية المسرحية حتى لو أنتمي
بأصوله العائلية للقرية- فالمخرج هنا يتمرد
على مسرح المدينة ويعلن أخلاصه للتقاليد الأدائية غير البرجوازية ، تلك التقاليد
الأدائية الريفية التي يتم أعادة بنائها وصياغتها لتقوم بدور في مقاومة المسرح
البرجوازي وطرح بدائل له .. أنه الفرد لا التيار .. فالمجتمع الريفي يدعم ويساند
لكنه ليس هو المنتج بل الفرد المنتمي لتقاليد المدينة المسرحية الذي يبحث ويدرب
وينتج... ربما وجبت الإشارة هنا أننا نحاول رصد سمة أساسية في الخطاب المتعلق بالعلاقة
بين الريف والمدينة على ذلك المستوي .. أنه النموذج المثالي للعلاقة كما تتخيله
المؤسسة الثفاقية للدولة والمثقفين بوصفهم حامل لمشروع الدولة .. الوضع الذي يكون
فيه الفرد المثقف - المؤمن بأهمية التنمية الثقافية للمجتمعات المحلية - في حالة تناغم المجتمع الريفي الذي يدعم ويساند
بحيث يتحول البرجوازي الصغير المثقف الذي هو حامل مشروع الدولة إلي القاطرة
الحقيقية لمجتمع الحداثة بينما تضافر جهود المجتمع لتحقيق أهدافه.
يمكننا الأن أن ننتقل إلي التوجه الثاني والذي يقوم
بتأطير الريف والتعامل معه بوصفه موقع متميز عن المدينة، موقع يمتلك تقاليد وتراث
أدائي "حقيقي" يمكن من خلالها أنتاج صيغ مسرحية أصيلة وغير ملوثة
بتأثير من المركزية الغربية أو مركزية المدينة ، صيغ مسرحية أصيلة تقدم وتعبر عن
الهوية الثقافية للريف بشكل خاص و"الوطن" بشكل عام . ولعل تأكيد الهوية
عبر الفن الأدائي هو من الأمور المرتبطة ببناء الدولة المصرية الحديثة فأستكشاف وتأكيد
ما هو مشترك وأصيل وجامع- بين تلك
الجماعات والتشكيلات البشرية المقسمة دينياً وعرقياً وأقليمياً – هو أحد أهم
الأهداف الأولية لهذه الدولة .. والتي على أساسها قامت ببناء المواطنة التي تجمع
بين ساكن الريف وساكن المدينة والتي تجعل من قضايا مجتمع الفلاحيين مرتبطة بقضايا
العمال والطبقة الوسطي وقضايا الجنوب والشمال .. الخ .
أن كل ذلك يمكن أن يقودنا إلي طرح أسئلة من قبيل لماذا
لم يتم تنمية تجارب في المسرح العمالي (على سبيل المثال)؟ وعلى نفس منوال التساؤل حول تجارب (مسرح
الفلاحين) في السبعينيات من القرن العشرين وأسباب نشاطها في تلك المرحلة؟ وبالتأكيد يمكننا أن نتوقف أيضاً للتساؤل حول
أسباب عدم تحول تلك التجارب لحالة عامة وأنحسار الثقافة الجماهيرية في المراكز
الحضرية في المحافظات ؟
يمكننا أن نحاول الإجابة على السؤال الأول بأن العامل
ينتمي بحكم تعريفه إلي المركز الحضري وبالتالي فإن الفنون الأدائية الخاصة
بالمدينة الحديثة جزء من وعيه الجمالي .. بل ربما لم يحاول اليسار في ذلك المجال
أن ينتج ما يتخطى تقاليد المسارح الغربية مثل الواقعية الإشتراكية والملحمية.
بالنسبة للسؤال الثاني فإن حركة التوجهات ما بعد
الكولونيالية في مجال المسرح وصلت إلي ذروتها في مصر مع السبعينيات والثمانينيات
حيث أثمرت التجارب الخجولة التي أنتجها المسرح المصري في الخمسينيات والستينيات عن
نمو واسع لحركة التوجه نحو البحث عن التقاليد الأدائية الشعبية في السبعينيات
والثمانينات وهو ما أنحسر في بداية التسعينيات مع الهزيمة الكبيرة لتيارات اليسار
.
أما السؤال الأخير والمتعلق بإنسحاب الثقافة الجماهيرية
من المناطق الريفية نحو المراكز الحضارية فذلك يرتبط بمجموعة معقدة من الأسباب
الاقتصادية واللوجستية والسياسية والاجتماعية التي جعلت من الوصول للريف أمر شديد
الصعوبة إلا في ظروف خاصة وبتنسيق موسع مع أجهزة الدولة والقيادات المحلية.
بالمجمل فإن الخطاب السياسي والثقافي لم يكن يقف في
مواجهة عملية نسب الفنون الأدائية التقليدية إلي الريف كمستقر للهوية الاصلية
والعميقة للشخصية المصرية...
في هذا الإطار ولد بشكل متزامن تياران أساسيان
في الثقافة المصرية الأول هو التيار المابعد كولونيالي الذي نجد حضوره المتواتر
منذ نهايات القرن التاسع عشر على مستوي الأدب و الشعر والسياسة والمسرح وهو التيار
الذي وصل إلي قمته على المستوي المسرحي خلال مرحلة الستينيات والسبعينيات ولعل
يوسف أدريس عبر عن ذلك التيار بشكل واضح بقوله :" في الريف لا يزال السامر
مسرحا شعبيا لا يعرف أحد متى بدأ وفي المدينة كاد ينقرض مسرح مماثل، مسرح الحواري،
وخيال الظل والأراجوز وكل تلك الأشكال المسرحية الصريحة، ولكني لا أعتقد انها
أشكال من احتكار الشعب المصري ولا يمنع هذا أن شعبنا بمواهبه التمثيلية والتأليفية
طورها ونبغ فيها ذلك لأن الشعب المصري حدث له شئ في تاريخه لم يحدث لشعب آخر، شئ
قطع تماما كل صلته بتاريخه الطويل الذي يعتبر أطول تاريخ لأي شعب معروف " ([xviii])
أما
التيار الثاني فهو التيار النقدي للتيارات المابعد كولونيالية بصورها الرديكالية
والتي نجد حضورها عند نقاد من أمثال د.لويس عوض الذي كان يري " أن الثقافة عند
بعض مثقفي العرب مرادفة للتراث والثقافة التقليدية ولما يسمونه الأصالة ولكل ما
تتكون منه الهوية أو الشخصية القومية ، كما أن فيه اعترافا بالجزع من النمو والتنمية
والحركة والصيرورة بوصفها أعاصير يمكن أن تطيح بهذه الهوية القومية . وهذا نوع من
اليأس لا يتولد إلا في مجتمعات تحس بزلزال التغيير لأن التغيير فيها عاجز عن أن
يتم بطريقة سلمية " ([xix])
بالتأكيد
فإن الصراع بين رؤى التيار الأول - الذي وجد لنفسه في خطاب الدولة المصرية و
الطبقة المهيمنة ما يدعمه- من ناحية ،والتيار الثاني- الذي وجد بدوره داخل الدولة
وخطابها ما يدعمه - من ناحية أخرى لم يكن بالصراع الوجودي الذي يستدعي أنسحاق طرف
أمام طرف وأنسحابه الكامل من المشهد الاجتماعي والسياسي والثقافي لصالح الطرف
الأقوى .. بل أن ما حدث هو العكس تقريباً حيث تلاقي الطرفان على مشروع حداثي موحد
يستهدف الإنتقال من المركز إلي الأطراف كما يطرح د.ثروت عكاشة
"
من هنا كان لا معدى عن مزج بين ثقافة العاصمة وبين ثقافة الأقاليم ، تأخذ هذه من
تلك وتأخذ تلك من هذه . غير أن ديمقراطية الثقافة لا تعني الهبوط بها إلي مستوى العامة
فتفقد الثقافة جوهرها وإنما تعني الأخذ بيد العامة ليرقوا إلي مستواها . والسبيل
إلي ذلك الأجهزة التي تحمل على عواتقها عبء التثقيف الجماهيري بما تقدمه من عروض
فنية على أيدي فرق فنية مدربة لقنت فنها في معاهد فنية متخصصة ، يلقن عنها الجمهور
ما تتسع له ثقافته وتهيئ له السبيل لينهج نهجها ويسير على دربها . وفي هذه المعاهد
الفنية تنشأ القيادات ، فإذا قيادة تأخذ عن قيادة، وتقوم إلي جانب هذه المعاهد فرق
متخصصة . وبهذا نستطيع أن نخلق قيادات عمل [كوادر] لا ينقطع مددها" ([xx])
أن الأطراف يتم التوجه إليها بثقافة المركز كوزموبوليتانية
التوجه والتي تأخذ على عتقها القيام بأدوار تنموية تجاه "تثقيف
الجماهير" من خلال قيادات تنتمي لمعاهد فنية متخصصة وتلقت التعليم الغربي
وبالتالي درست تقنيات فن الأداء الغربي . وفي مقابل ذلك فإن الثقافة المصرية يجب
أن نقوم على التمازج بين العاصمة و الأطراف الأقليمية.
وقد مثلت مسارح الثقافة الجماهيرية و فرق الفنون الشعبية
النماذج التطبيقية لتلك التوجهات الفنية حيث سعت المؤسسة الثقافية بشكل مستمر منذ
نشأتها وحتى اليوم إلي تدعيم الفن المسرحي ونشره في الأقاليم الريفية والحضرية
كمشروع أساسي للدولة المصرية ، وفي المقابل فإن هناك توجه نحو تنمية أشكال أدائية
وحمايتها من الاندثار والتأكل مثل السير الملحمية أو أنماط الفنون الأدائية
التقليدية لإنتاج عروض تقترب من الهوية المحلية المميزة لكل أقليم بالإضافة لدعم
الهوية الوطنية والقومية و تأصلها والحافظ عليها.
في هذا المجال ولدت حالة الحركة والسيولة الدائمة بين
مجال كل من المركز والأطراف ، فالمركز يقوم بتبني الأشكال الأدائية الريفية
والمدنية التي يحاول أخضاعها لقيمه وأخضاع المسرح لتقنياتها وأخضاعها لتقنياته ،
وبالمقابل فإن المدينة المركزية تنطلق دائما نحو الحواضر الصغيرة والريف لترسيخ
حضورها ونشر قيمها وفنونها المعتمدة من الطبقة المهيمنة ، تلك الفنون التي تمتاز
بتوافقها مع القيم و الضوابط والأفكار التي تتبناها المدينة .
أن المسرح وحسب ذلك التحليل فن ينتمي بكليته كمشروع إلي
الدولة / المدينة المركزية التي تحمله وتحاول التعاطي معه وتنميته أو مناهضته
وأكتشاف أشكال وتقنيات أخرى له أو لغيرة من الفنون الأدائية القريبة الصلة به
والتي يمكن لها أن تدفعه للقيام بالمزيد من الأدوار في بناء الهوية الوطنية
والقومية والدينية للدولة والمجتمع.
4- تفجير المسرح التقليدي وتفجير المسرح الحداثي
كانت لعبة تبادل الأدوار بأكملها قائمة على أن التراث
المسرحي - الذي أنتج وفق الرؤية البرجوازية والكولونيالية - هو العدو الذي يقوم
المسرح الحديث - كأحد عناصر بناء الدولة الحديثة وما بعد الكولونيالية- بمناهضته . وبالتالي فإن العودة للإشكال
التراثية الأدائية يجب أن تتخذ وجهتين الأولي هي العودة للتراث الأدائي الخاصة
بالمدينة القديمة التي كانت قائمة قبل تشكيل المدينة الكولونيالية ومعمارها المميز
ونظمها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجمالية .. ولكن ما كان يوقف تلك
العودة الدائمة لفنون المدينة الأدائية كما يرى يوسف أدريس (كما سبق أن أوردنا) هو
كون تلك الفنون الأدائية المنتمية للمدينة" كادت
تنقرض" فالمدينة الحديثة التي توافقت مع مشروع الدولة والمشروع الكولونيالي
لم يكن بها مكان لتلك الفنون الأدائية
أما
الجهة الثانية فقد كانت التوجه للريف الذي لم يزل غير ملوث أو مصاب والذي يحمل تلك
الهوية الأصيلة والحقيقية ([xxi])
،هذا الريف الذي تحكم علاقة الدولة الحديثة به علاقة أشكالية ذلك أن الريف هو
مستقر لمجموعة كبيرة من عناصر الهوية الوطنية الحديثة فهو يمتلك تمايز ثقافي عن
النموذج المختلط الذي أنتجته المدينة الحديثة التي يريد الأفندي المرتدي للبذلة
الغربية أن يقاوم فيها التأثيرات الكولونيالية التي هو أحد تجلياتها ([xxii])،
ولكن إلي جوار اليقين بتلك التصورات المثالية والتطهرية حول الريف فإن الريف ذاته
يظل بتكويناته الاجتماعية البسيطة والقبلية وثبات نظام أنتاجه و تكراريته .. الخ
هو العدو الحقيقي للدولة الحديثة التي ترغب في التخلص من الريف كنموذج للرجعية والتخلف
والاقتراب من نموذج المدينة فالقرية في النهاية يجب أن تلتحق بالمدينة وتكون جزء
منها وأستنساخ لها (أو كما يرد في أغنية لصلاح جاهين : تماثيل رخام على الترعة
وأوبرا في كل قرية ...)
من
ناحية أخرى هناك فرضية مرتبطة بأصالة القرية نجدها حاضرة بشكل متواتر بالكتابات
التي أعتمدنها هنا (كمراجع لنا في دراستنا) مفادها أن القرية تختفي مع الهجوم
المتواصل عليها من قبل المدينة وتكنولوجياتها وظرز ملابسها ونظم تعليمها ونطم
إدارتها الأمنية والسياسية وطرزها المعمارية .. الخ . أن تلك الفرضية قامت
بإستدعاء ما وصفه د.لويس عوض بحالة من " الجزع من النمو والتنمية " –كما
سبقت الإشارة – وبالتالي فإن الحفاظ على الريف وحفظ تقاليديه الأدائية جزء من
الحفاظ على هويته من التأكل.
بين
طرفي تلك المعادلة تبرز معضلة لعبة تبادل الأدوار الحقيقية ، والتي أنتهت إلي
التعامل مع الريف بوصفه معرض للفنون الأدائية التقليدية والتراثية التي يجب أن يرصدها
المسرح ويعيد تشكيلها وتكوينها حتى تصبح قادرة على القيام بالأدوار الجمالية والسياسية
التي يفترض أن تقوم بها والتي هي بمنتهي البساطة (الوصول للجماهير عبر وسائط
جمالية منتمية لثقافتهم وذلك بهدف تنمية المجتمعات المحلية ودفعها لتبني رؤى أكثر
حداثة من ناحية، والحفاظ على الهوية الثقافية لتلك المجتمعات من ناحية أخرى)
أن
ذلك النزوع صعد تدريجياً منذ بداية السبعينيات ووصل لقمته في التسعينيات حيث سادته
حالة من اليأس المقيم وغير القادر على أنتاج الجديد أو تطوير ذاته وذلك أن مشروع
الدولة في المرحلة ما بعد الكولونيالية ذاته كان قد وصل إلي نهايته خلال نفس
المرحة تقريباً ، وبالتالي لم يعد من الهام بالنسبة للتيارات المسرحية السائدة
(عدا مسرح الثقافة الجماهيرية) أن تنظر بعين الرضا إلي التقنيات والتقاليد الفنية
الهجينة التي أنتجها المسرح المصري خلال المرحلة ما بعد الكولونيالية ، بل لقد
سادت روح من النفور والعداء لذلك التوجه مرتبطة بنمو تيارات فنية بديلة تتعامل مع
العناصر الأدائية التراثية كعناصر تشكيل وليس كهدف أو غاية للمسرح ، حيث أختفى ذلك
النزوع القوي لدي المسرح المصري – والعربي – للتعامل مع التراث بالهدم وإعادة
التشكيل لأهداف أيديولوجية وحلت محله حالة من رفض الأيدولوجيات والتوجه إلي ما هو
أكثر تعيناً وحضوراً وهو الحكايات الصغيرة و الجزئية.
لأكتشاف
ذلك التحول سوف نتوقف أمام نموذجين وهما عروض الحكي و المسارح الجسدية.
وكبداية
سوف نتوقف أمام بعروض الحكي التي تنمو بشكل منذ التسعينيات و حتى اليوم بحيث تحولت
إلي شكل أدائي هجين ينتمي للفن الأدائي بذات القدر الذي ينتمي به لفنون السرد.
بالتأكيد
فإن "الحكواتي" – كما يطلق عليه في الشام وفلسطين- أو راوي السيرة
الشعبية على الرباب في المقاهي والاحتفالات في مصر ، أو غيرهم من الرواة الشعبيين
والحكائين الفطريين (الجدات .. بعض رواد المقاهي... الخ ) هم الأساس الذي أنطلقت
منه عروض الحكي فهي يتم التسويق لها أحياناً بوصفها محاولة لإعادة أستكشاف
التقنيات والتقاليد الأدائية الخاصة بالحكاء الشعبي.. لا ضمن العرض المسرحي كما
أعيد أنتاجه في عشرات العروض المسرحية مثل "رحلة رأس المملوك جابر"
وغيره ، بل أن إستدعاء الشكل الأدائي ذاته والتعامل معه بوصفه إطار مرن يمكن إعادة
تشكيله
لعل
أول تجربة أمكن لي رصدها في تاريخ عروض الحكي هي تجربة القاص الراحل "يحيي
الطاهر عبد الله" في سبعينيات القرن العشرين والتي كانت جزء من مشروعه القصصي
كما يقول في حديث صحفي : " وأنا إذا قلت وأجدت القول سأجد من يسمع وهذا ما أفعله
.. ويجب أن أقول ولا يجب أن أكتب لأن أُمَّتى لا تقرأ.. وحين أقول يكثر مستمعي لأن
الناس ليسوا صماً . أنا لا أعتقد أن مخاطبة المثقفين مسألة ذات وزن.. أنا سألت
نفسي : لمن أكتب؟ فوجدت أن الناس الذين أكتب عنهم لا يقرأو فني .. وهم منفيون
ومغتربون ومستلبون .. لذا أعتقد أن القول أفضل والقصص التي أكتبها سبق أن قلتها
مائة ألف مرة لمائة ألف شخص .. لذا أيضاً أقول إنني لا أبذل أي جهد في الكتابة
لأنني أدون ما أقوله في جلساتي وتعاملاتي " ([xxiii])
أن
تلك تجربة "فن القول في مقابل فن الكتابة" كما يرصد لها "يحيي
الطاهر" تنطلق من محاولة لإستعادة مرحلة شفاهية قبل كتابية وأخضاع التقاليد
الكتابية لها وهو ما لم يفعله في مجموعاته القصصية أو الرواية .. حيث ظلت التقاليد
الكتابية وتقنيات السرد الكتابية هي الأساس الذي أنطلقت منه بنية أعماله السردية .
وبالتالي فإن تلك المعركة الأساسية التي يفترض أن تقوم عليها التجربة كانت محسومة
، كذلك فإن "يحيي الطاهر" لم يقدم نفسه كمؤدي يقوم بتقديم عرض أدائي
لمشاهدين بل قدم نفسه كحكاء يسرد على مستمعيه قصص قام بإنتاجها وليس قصص تراثية أو
حكايات شعبية وهو ما يعني أن التقنيات الأدائية التقليدية للحكاء والراوي الشعبي
لم تكن حاضرة أو مبتغاه.([xxiv])
إذا
فما الذي يجعل من تلك التجربة المبكرة نموذج لعروض الحكي التي نمت خلال التسعينيات
وأصبح لها مؤدين مشهورين ؟!
أعتقد
أن الإجابة تكمن في ذلك النزوع الذي كان يشغل "يحيي الطاهر" والذي يتمثل
في الدور الذي يتحمله تجاه مجتمعه والذي لا يقرأ والذي يفترض عليه الوصول إليه
والقيام بدوره التنموي و الجمالي والثوري ، وهو ما يعيدنا من جديد للمشروع الثقافي
الذي كانت الدولة تتبناه وهو الدور الذي يحمله المسرح في تنمية المجتمعات المحلية
(كما سبق لنا الحديث).
أن
تلك التجربة الأدائية المبكرة كانت تنطلق من ذات الأرض التي كان يقف عليها الخطاب
الثقافي العام الذي كان سائد في المرحلة ما بعد الكولونيالية (ولعل تبني مسارح
الثقافة الجماهرية لمعالجات رواية الطوق والأسورة نموذج على ذلك التلاقي في الرؤى).
لكن
وبرغم ذلك التلاقي والتوافق فإن تجربة "يحيي الطاهر" لم تكن تهدف إلي
دمج وإعادة تشكيل تلك التقاليد والتقنيات والأشكال الأدائية التراثية ضمن التقاليد
والنظم والقواعد الخاصة بخشبة المسرح كما كان يهدف "الحجاوي ويحيي حقى" قبل
ذلك بسنوات . بل كان الشكل الأدائي ذاته يقدم نفسه كحالة تجاور بين تقنيات السرد
وتقنيات أداء الحكاء وتقنيات الممثل المسرحي ولعل ذلك القلق بين تعريف عروض الحكي
(جلسة- عرض) يكشف عن مدي القلق الذي تدور في أفقه ذلك الشكل الأدائي فهو أحيانا ما
يقدم بوصفه"جلسه" نسبة للوضع الأستاتيكي الذي يجمع بين المؤدي /الحكاء
والمستمعين/المشاهدين وبالتالي مفارقته لمفهوم العرض المسرحي التقليدي أو الحداثي الذي
يحتل فيه الممثل المركز.. فنحن هنا لسنا أمام ممثل يقوم بأداء دور الحكاء .. بل
أمام الحكاء الذي يستعير تقنيات الممثل .
في خطوة
تالية لعروض الحكي بدأت المحاولات الخجولة و الأولية للقصاصين يتم تبنيها عبر
مؤدين وبالتالي تنوعت المصادر السردية حيث نجد تيار كامل تشكل حول تقديم الحكايات
الشعبية مستعيناً بتقنيات الحكائين التقليدية ولغتهم و الصياغات المعتمدة مثل
"كان ياما كان.. أو صلي على النبي .. الخ " كما ظهر تيار مناقض يعتمد
على الحكايات الشخصية واليومية و العادية والذكريات والمونولوجات ... الخ ، كما
ظهرت توجهات متنوعة في التعامل مع الجسد المؤدي فهناك من أنطلق من الوضع الساكن
للحكاء الجالس في مواجهة المتلقين في ظروف تحاول أنتزاع كل ما هو مسرحي لدرجة
التخلص من الإضاءة المسرحية والإكتفاء بإضاءات محايدة لا تقوم بتميز المؤدي وتشير
إليه ، وعلى الطرف المقابل عروض تسعى للوصول لتقاليد المسرح عبر جسد المتحرك و
الموسيقي و الغناء .. الخ .. بالإضافة لتقنيات السرد المتنوعة .. أو تقديم الساردين
الكتابين لقصصهم وروايتهم ضمن ذلك الشكل الأدائي (محمود أبو دومة علي سبيل المثال)
بحيث يصير الكتاب هو توثيق للحكي بقد ما الحكي عرض للكتاب
بالتأكيد
فإن تحليل وأستكشاف الحكي كشكل أدائي ربما يحتاج إلي دراسة منفصلة .. لكننا هنا سوف
نتوقف أمام تلك الملاحظات السريعة لنخرج منها بأن الحكي ربما كان نموذج مثالي
لفنون ما بعد الحداثة التي لا تنشغل ببناء ثنائيات من قبيل
"المدينة/الريف" " الأنا/الأخر" حيث لم تعد الهوية وتأصيلها و
تنميتها هي الموضوع الأساسي التأكيد على
تنوع العناصر التي تشكلت منها تلك الهوية و على التجاور بين الطرز والأساليب
والأفكار والمرجعيات التي تشكلها.
وعلى
ذات المستوي يمكننا أن نرصد للمسارح الجسدية والمسارح الراقصة ..
إذا
كنا قد ألتقينا في الصفحات السابقة بتجربة "يا ليل يا عين " وكيفية
تعاملها مع الجسد المؤدي التقليدي كجسد منفلت من النظام يجب ترويضه وتضبطه وإعادة
صياغته بحيث يصبح النموذج الحداثي السوفيتي والصيني القائم على إعادة تشكيل وضبط
الرقصات الشعبية وإخضاعها لتقنيات و تقاليد فن البالية وتقنياته وتقاليده هو
المثال الذي وصل بعرض يا ليل يا عين إلي التخلى عن الراقص الشعبي في النهاية و
الإستعانة براقص محترف "محمود
رضا" ليقوم بإعادة ضبط الحركة تحويل الجسد الشعبي إلي جسد جمالي وفقاً
للتقاليد الحداثة .
وإذا
كنا قد توقفنا عند عملية تبادل الأدوار والمراكز بين المدينة والريف والتي أنتجت
فرق الثقافة الجماهيرية المختلفة (المسرحية – الفنون الشعبية) التي وصلت صيغتها
الأكثر قبولاً عند " عبد الرحمن
الشافعي" والتي تعتمد على عملية أحتواء متبادل .
فإن
الجسد في التسعينيات وفي عروض لطيف واسع من المخرجين والمصممين مثل "أنتصار
عبد الفتاح" أو "وليد عوني" أو "ميريت ميشيل" لم يعد هو
ذات الجسد المؤدي الذي تقوم الحداثة بضبطه وتأطيره بل صار جسد هو خليط من يجمع بين
ما هو يومي كحركة الجسد في ما هو يومي .. بالإضافة للحركة الموروثة من الأدائيات
الطقسية (الندب ، الذكر .. الخ) والرقص الشعبي وتقنيات الرقص الحداثي الغربية
المعتمدة على مناهضة تقنيات وقواعد البالية , وأخيراً فن البالية ذاته
أن
المسارح الجسدية و عروض الرقص المسرحي الحديث لم تعد تتوقف أمام ما هو منتمي
للتقاليد الأدائية التراثية وما هو منتمي للتقاليد الأدائية المعتمدة من قبل
المركز البرجوازي ولا حتى ما هو ذاتي و يومي .. وبالتالي فإن الجسد المؤدي خرج من
الفن المسرحي ليقف كما هو حال الصوت في الحكي باحثاً لذاته عن شكل فني يمكن فيه
للتجاور أن يحل محل المركزية.
لقد
قامت التسعينيات (في جانب منها بالتأكيد وليسفي مجمل الظاهرة) بتفجير كل من الأطر
التقليدية و ثنائية الريف والمدينة ، كما تخلت عن ألعاب الإحتفاء الحداثي و ما بعد
الكولونيالي - أو القمع – بالفنون الأدائية التراثية وتعاملت معاها كعنصر تشكيل
داخل لعب التجاور التي تهدم الحكايات الكبري و المعارك العظيمة .
[i] دوفينيو.جان - فضاءات العرض المسرحي – ت: أ.د حماده إبراهيم –
منشورات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي – الدورة العاشرة – مركز اللغات و
الترجمة – أكاديمية الفنون – القاهرة – 1998-
ص22
[ii] هارفي . جين – المسرح
والمدينة – ت: أريج إبراهيم – المركز القومي للترجمة – ع: 2302- القاهرة – 2014- ص
48
[iii] دي شاربول . ج – دراسة عن عادات و تقاليد سكان مصر
المحدثين – كتاب وصف مصر – ت: زهير الشايب – ج : 1 – دار الشايب – ط:3 – القاهرة -
1992 – ص 197
[iv] أن " رأسمالية
الدولة وتصفية الثروات أولاً بأول ،أدت إلي القضاء على الطبقة البرجوازية من ناحية
مع عدم تبلور طبقة أقطاعية أرستقراطية من ناحية أخرى، أو بتعبير أدق كان التركيب
السائد يقوم على أن رأسمالية الدولة تحمي تحت جناحها أقطاعاً بلا أرستقراطية . وقد
أدي هذا أيضاً إلي عزل سكان المدن عن سكان الريف عزلاً جغرافياً واجتماعياً
واقتصادياً ، فلم تقم بينهم ثورات مشتركة في أي ركن من أركان السلطنة ولم تمتد
ثورة طبقة إلي غيرها من الطبقات" د. لويس عوض – تاريخ الفكر المصري الحديث (من الحملة الفرنسية
إلي عصر إسماعيل)- مكتبة مدبولي – القاهرة
– ط4 - 1987- ص14.
أن ذلك الوصف التحليلي الذي قدمه الدكتور
لويس عوض يمكن أن يكون أحد عناصر تفهمنا لرفض البرجوازية الاوربية الصاعدة للنظام
الاقتصادي والاجتماعي المصري ونعته بالتخلف والقمعية.
[v] "إن الرجل الانجليزي جاء إلي مصر بفكرة
ثابتة مفادها أن لديه مهمة تعين عليه تنفيذها ، وأنه في ضوء وجهات نظره وآرائه عن
تحقيق العدالة بين الأفراد والمساواة بين الناس أمام القانون ، وتحقيق السعادة
لأكبر عدد ممكن من السكان ، وأفكار أخرى من هذا القبيل ، سيكون من الطبيعي أن يفهم
مهمته في هذا الإطار ، على أنها إفادة السكان كلهم" اللورد كرومر – مصر الحديثة – ت: صبري محمد
حسن - ج 2- المركز القومي للترجمة – ع: 2157 –
2015 – القاهرة - ص167
[vi] كانت كلمة أفندي متفق على أنها تعني تلك الطبقة من سكان
المدن التي تلقت تعليماً غربياً . أما في صورتها الجماعية فهي تستخدم إشارة إلي
فئة من الطبقة الوسطي
[vii] القشمرة : تعني المزاح
بالعامية العراقية
[viii] أوليا جلبي – "الرحالة العثماني أوليا جلبي –
الرحلة إلي مصر و السودان وبلاد الحبش
1672-1680 – الجزء الثالث "مواكب مصر واحتفالاتها" – ت: الصفصافي
أحمد القطوري – المركز القومي للترجمة –ع :1494-
القاهرة – 2010- ص 53
[ix] سبق للباحث تناول تطور
الأشكال الأدائية على مستوي أكثر أختزالاً في مقال له بعنوان " القاهرة.. موت
مدينة المدن الثلاثة" و الذي كان يرصد التحولات الأساسية في تطور المدينة
معمارياً وعمليات تشكل الفضاء داخلها .وقد نشر المقال بمجلة فنون القاهرية في عام
2016
[x] فوكو . ميشيل – المراقبة و المعاقبة (ولادة السجن) – ت:
د. على مقلد- مركز الإنماء القرمي – بيروت – 1990- ص110
[xi] يمكن لمزيد من المعلومات والتحليل الأكثر عمقاً بذلك
المجال يمكن مراجعة كتابي الباحث خالد فهمي (كل رجال الباشا) ، (الجسد والحداثة)
واللذان يرصد عبرهما تطور موقع الجسد وكيفية التحكم به و مراقبته و معاقبته و
مداواته في إطار ميلاد الدولة المصرية الحديثة .
[xii] "إن دراسة الميكروفيزياء(ميكروفيزياء السلطة) تفترض أن السلطة
التي تمارس فيها يجب أن لا تؤخذ كملكية ، بل كاستراتيجيا، وأن مفاعيلها التسلطية
لا تعزى إلي " تملك بل إلي استعدادات وإلي مناورات،وإلي تكتيكات ، وإلي سير
عمل ؛ وأن تكتشف فيها بالأحرى شبكة علاقا دائماً ممتدة ، ودائماً نشطة بدلاً من أن
تكون أمتيازاً بالإمكان الأمساك به ، وأن ينظر إليها على أن نموذجها هو الصراع
المستمر بدلاً من أن تكون العقد الذي يتم بموجبه التخلى عن ممتلكات أوالأستيلاء
عليها . وبالأجمال يتوجب الأفتراض أن هذه السلطة تمارس أكثر مما تمتلك ، وأنها
ليست "الامتياز" المكتسب أو المحفوظ بأسم الطبقة المسيطرة ، بل هي الأثر
الأجمالي لمواقعها الاستراتيجية – أثر يظهره واحيانا يجدده موقع المحكومين المغلوبين
. ومن جهة أخرى لا تطبق هذه السلطة ببساطة ونقاوة ، وكأنها التزام أو نهي، على
أولئك الذين "لا يملكونها" فهي تستثمرهم وتمر عبرهم وبهم ،وتستند إليهم،
كما أنهم بدورهم ، في نضالهم ضدها ستندون بدورهم على المماسك التي تكون لها
عليهم." (فوكو . ميشيل – المراقبة و المعاقبة (ولادة السجن) – ت: د.
على مقلد – ص 64- 65)
[xiii] يحيي حقي – يا ليل يا عين (سهراية مع الفنون الشعبية)-
الشركة الشرقية للنشر والتوزيع – بيروت - بدون تاريخ – ص 15
[xv] راجع: د. على الراعي – مسرح الشعب (الكوميديا المرتجلة
في المسرح المصري)- الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة – 2003-
[xvi] " منذ أكتشاف زكي طليمات وهو يخرج مسرحية يوم القيامة لصاحبنا المسمي
بأبو الغيط أصبح هذا الراقص في حلقة الذكر كالدودة لا يخلو منه عرض لأعياد شعبية
" يحي حقي – يا ليل يا عين – مرجع
سابق
"قدم أول عمل متكامل في مجال الفنون الشعبية هو
أوبريت "ياليل يا عين" بطولة نعيمة عاكف ومحمود رضا، وأوبريت "يوم
القيامة"، وأوبريت "موال من مصر" الذي قدمه في نهاية السبعينيات"ريهام عبد التواب - "طليمات"
في ليلة أقل جمالا من ليلتنا.. ستأتين راكعة-
/ زكي-طليمات-صاحب-الفضل-في-إنشاء-أول-معهد-للتمثيلhttp://www.dotmsr.com/details/273927
http://mohamed37-sayno.blogspot.com.eg
/2011/12/blog-post_4056.html
[xxi] يمكن أن ننظر لقضية نصوص
الأهرام بوصفها نموذج لذلك النوع من التطهرية
التي ميزت التعامل مع الفنون الأدائية الخاصة بالريف : " حدث في عامي 1961 – 1962 أن نشرت جريدة "الأهرام" القاهرية مجموعة من النصوص الشعبية الارتجالية سجلها )شوقي عبد الحكيم) وشاركه الكاتب (أحمد بهجت) تحت اسم (مسرح الفلاحين ( ، كمسرحيات موروثة كانت تقدمها الفرق الشعبية المتجولة في منطقة الفيوم ، وهي مجموعة من المأسي والمرتجلات ، وهي النصوص التي تختلف عن النصوص التي ألفها شوقي عبدالحكيم مثل "شفيقة ومتولي" ، "المستخبي" ، "حسن و نعيمة " ، ملك عجوز ، رجل أعمي ،الكلام ، خوفون ، الشبابيك ، الأعيان ، الملك معروف ، أوكازيون ، سميراميس ، وقد أثارت النصوص المنشورة تحت عنوان (مسرح الفلاحين جدلاً كبيرًا كما يقول د.علي الراعي في كتابه "الكوميديا المرتجلة ص 84) ) في المسرح المصري ..بين من رحبوا بها علي أنها مسرح شعبي مبتكر نشأ في الريف ، وبين من اعتبروها تشويها أو "تشعيبًا" لمسرحيات من (المدينة) ويقرر »د.الراعي" أنه علي ضوء الدراسة التي قام بها في كتابه : "يبدو لي واضحًا أن نصوص "الأهرام" هي بالفعل أثار وافدة من المدينة إلي الأقاليم. فهناك مثلاً نص "سعدان رأس الغول" الذي نشرته "الأهرام" والذي كانت فرقه (شرفنطح) الارتجالية تمثله بطريقه أو بأخري ، و»هناك ما ذكره (الكاتبان) عن ملابس كانت تشتري من الفرق القاهرية ، ومايشير إليه حوار المسرحيات في أكثر من موضع من تأنق في التعبير مكانه المعقول مدينة كبري ، وبالإضافة إلي ما ذكر عن الممثل )أحمد محراث(ومجده القديم في القاهرة.ومن المنطقي بعد هذا أن نفترض أن يكون (أحمد محراث)وأمثاله قد.نقلوا إلي الأقاليم، ليس فقط الملابس وذكريات المجد الغابر ،وإنما النصوص أيضًا والنصوص أولاً هذا إذا إكتفينا باستقراء نصوص "الأهرام"وبعض النصوص المنشورة في كتاب د.علي الراعي "الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري "،ويضيف بقوله »غير أن هناك دليلا أقوي من كل ما تقدم علي أن الحركة في المسرح الشعبي قد كانت تنتقل من القاهرة إلي الأقاليم ، وليس العكس ، ونجده في السيرة الذاتية التي كتبها الفنان محمد إدريس ، فنان المسرح المرتجل والمكتوب معًا ، والتي قرر فيها بصراحة أنه ذهب مع غيره إلي صميم الأقاليم ، وتوغل حتي القري والسوامر ، وأفراح الفلاحين ويضيف »د.الراعي"-المرجع السابق – بقوله »علي أن نصوص "الأهرام"لا تظهر أي أثر لارتجال كان يتم أثناء تمثيلها ،وأغلب الظن أن ممثلي الأقاليم والريف أي »الفلاحين« كانوا يلجأون إلي حفظ أدوارهم عن ظهر قلب ، لأن لاعتماد علي الارتجال يستلزم قدرات فنية كبيرة
لا أظنهم كانوا يتمتعون بها"
عبد الغني داوود –
الفلاح في المسرح المصري – جريدة مسرحنا
[xxiv] هناك تسجيل صوتي وحيد توصلت إليه للقاص يحيي
الطاهر عبد الله وهو يسرد شفاهياً قصة له ، حيث يدعم أستخدام الفصحى وتقليدها
الكتابي ذلك الطرح الذي نحاول عرضه هنا .. كما يجب أن نؤكد على كون القاص قد قصصه
في أكثر من مناسبة لجمهور وليس لأفراد كما يوحي الأقتباس المأخوذ عنه ضمن
المتن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق