زمن الثورة ... تلك السنوات الساخنة التي تأرجح فيها
المستقبل بين مئات الإحتمالات والإمكانيات التي تدرجت من سقوط الدولة و أنهيارها و
حتى الميلاد الجديد لدولة قوية ومجتمع عدالة أجتماعية و حريات عام .. وبين تلك
الدستوبيا المخيفة و هذه اليوتوبيا المفعمة بالآمال تحرك الزمن سريعاً حاملاً معه
مئات الأحداث الدامية و لحظات الإنكسار والأفراح ..
وفي مقابل ذلك الصعود القوي لدراما الواقع وتقلبات
المصائر و صراعات الوجود بين الافكار و القيم وجد المسرح المصري ذاته أمام خيارات
صعبة و مؤلمة بداية من اللهاث وراء الاحداث والواقع المتقلب و المتغير وليس نهاية
بخيار الإبتعاد عن التورط في ماهو يومي و
الإتجاه للإنتظار حتى تتضح الصورة بعد أنحسار الضباب الذي كان يلف المشهد .
وفي محاولة جادة و عميقة للبحث عن واقع المسرح المصري في
سنوات الثورة و ما لحق بالمسرح المصري من أثارها على المستوي الفني و ما أنتجه
المبدعين من أعمال في تلك المرحلة أنطلق الناقد والشاعر "جرجس شكري" في
كتاب " الخروج بملابس المسرح " والذي فاز عنه بجائزة الدولة التشجيعية
لهذا العام في رحلة بحث تاريخية واسعة عن
ما أنتجه المسرح المصري خلال تلك السنوات ، حيث جمع الكتاب رصد و نقد متعدد
المستويات لمجموعة واسعة من العروض المسرحية التي أنتجت بين أعوام 2011 و 2014 عبر
فصول الكتاب التي أعتمدث على تلك المتابعات النقدية التي أنتجها الناقد جرجس شكري
خلال تلك الأعوام والتي ما أن تجمعت و أنتظمت تاريخياً حتى أصبحت سرداً توثيقيا
للمسرح المصري خلال هذه السنوات بقدر ما كشف تتابعها عن مجموعة من سمات التشابه و
التمايز التي ربما كان رصدها صعباً في ظل سيولة تلك السنوات وازدحامها بالاحداث .
ولكن قبل أنطلاق الكتاب في تلك الرحلة الاستكشافية التي
أمتزج فيها ما هو سياسي بما هو مسرحي عبر فصول الكتاب المختلفة قدم الناقد جرجس
شكري فصل تمهيدي عن واقع المسرح المصري في لحظة ما قبل الثورة ، تلك اللحظة التي
يرصدها الكتاب كنموذج و نهاية للطريق الذي سارت فيه الدولة المصرية و مؤسساتها
الثقافية عبر سنوات طويلة من التكلس و الفعاليات الاحتفالية التي لم تكن تتجه إلي
أحداث تراكم أو تحقيق مشروع واضح و مكتمل المعالم .. حيث تحول المشروع الثقافي
والمسرحي للدولة إلي مجموعة من الفعاليات التي لا تهتم بإنتاج المسرح كمشروع
ثقافية بقدر ما تهتم بالمسرح كمناسبة لمزيد من التجميل لصورة المؤسسة الثقافية
التي فقدت الحياة و الهدف .
ومن هذا الرصد لواقع المسرح المصري في نهاية 2010 يتقدم
الكتاب إلي مجموعة الآمال و التوقعات الكبيرة و اليوتوبية لمستقبل المسرح المصري
كجزء من ذلك الحلم الكبير بدولة جديدة وشابة حيث يطرح الكاتب مجموعة التوقعات التي كانت تمثل
بالنسبة له الخيارات الأمثل في ظل التكلس و الموات الذي أصاب مسرح المؤسسة الرسمية
، حيث طرح الكتاب قناعة بأن المسرح المستقل كان يمثل القاعدة التي يمكن أن يتقدم
على أكتافها المسرح في مرحلة ما بعد الثورة . وفي هذا الإطار قدم الكتاب مقارنة
كانت تمتلك قدر من الواقعية بين المسرح المصري في عام 2011 و ما تلاها من سنوات
وبين مرحلة بداية الخمسينيات عشية قيام ثورة 23 يوليو و التي كان المسرح المصري
فيها قد أستنفذ تجربة كاملة من مسارح الفودفيل و الميلودراما و التراجيديات والتي
أصبحت غير قادرة على إلتقاط إيقاع العالم الجديد الذي ولد مع نهاية الحرب العالمية
... وهو ماجهز الساحة لظهور جيل جديد من الكتاب و المخرجين و الممثلين .. الخ جيل يمتلك وعي مختلف و رؤية مختلفة للعالم
ومسرح جديد بتقنيات جديدة وأفكار غير مبتذلة .. حيث ولد جيل الستينيات .
بعد ذلك ينتقل الكتاب لدراسة الأسباب التي أدت إلي عدم
ظهور ذلك التحول الكبير الذي كان الجميع يعتقد أنه يتحرك في أحشاء الواقع بعد
الثورة ، حيث يرصد الكتاب لمجموعة من التصنيفات الاساسية التي توزعت عليها عروض
المسرح المصري خلال تلك السنوات . فهناك العروض التي أنطلقت نحو محاولة محاكاة
دراما الواقع عبر إعادة تمثيل لمشاهد من الثورة أو عبر محاولة نسخ المظاهر
الادائية التي أنتجها الشارع الثائر .. كما يرصد الكتاب لمجموعة العروض التي قررت
الإبتعاد و الانزواء عن الواقع و التي حاولت الهروب من مواجهة الواقع عبر التوجه
إلي مسرح منفصل عن الشارع بكل قضاياه
الملحة و الساخنة .. و كذلك العروض التي حاولت غرس الثورة وأحداثها أو الصراخ بشعارتها
ضمن عروض ليس لها علاقة بما تقدمه وما تطرحه من أفكار ... الخ
وعبر ذلك العرض لتلك التصنيفات يخلص الكتاب إلي أن
المسرح المصري لم يستطع أن يخرج من أسر
لحظة النهايات التي تشكلت في نهاية عصر مبارك .. حيث ظل المسرحيين يحاولون
أما اللهاث خلف الوقائع بحثاً عن الاجواء الاحتفالية حتى بين بعض من كانوا يكرهون
الثورة و يناهضونها .. أو الانزواء و التخلي عن الواقع و البحث عن مناطق أمنة و
ساكنة يمكن أن يركنون أليها خوفاً أو يأساً أو للتعبير عنعدم قدرتهم على قراءة
الواقع.
ومن خلال كل ذلك تحرك الكتاب في التاريخ بحثاً ذلك
المسرح الذي حاول الاقتراب من الواقع و ملامسته و عدم الانجراف في ما هو سطحي
وعابر عبر عشرات التجارب التي يرصدها بالإضافة إلى سرديات تاريخية تضع القارئ في
مواجهة الواقع بكل دمويته و عنفه و قسوته و تقلباته كخلفية لحركة المسرح المصري
وحركته خلال تلك السنوات الساخنة .
في النهاية فإن كتاب الخروج بملابس المسرح للناقد و
الشاعر "جرجس شكري" يظل محاولة جادة و رائدة لاستكشاف لحظة شديدة الصخب
و الضبابية في تاريخ المسرح المصري .. تجربة ربما تكتسب قيمتها تلك الجدية التي
تعاملت بها مع موضوعها ولاتساع العينة التي أعتمدها الكاتب .. الأمر الذي يجعل من
الكتاب بالإضافة لتحليله النقدي مرجع توثيقي هام للمسرح المصري في سنوات الثورة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق