الاثنين، أكتوبر 03، 2016

مرسيدس ... نوستالجيا بطعم اليأس

يعيد عرض "مرسيدس" أزمة التاريخ و الهوية الأرمينية كأمة أصيبت خلال تاريخها بالعديد من النكبات التي وضعتها في حالة أستعادة دائمة لذلك العالم المفتقد الذي تبعثر و أنتهي بلا رجعة مع المذابح الكبري التي تعرض لها الأرمن في بداية القرن العشرين و التي أدت إلي عمليات هجرة واسعة ثم ما تلي تلك المذابح من توسع أقليمي للدولة السوفيتية التي أستكملت عمليات القمع والإخفاء لهوية تلك البلاد و سكانها .
أن عرض مرسيدس يقوم بعرض محاولات أستعادة ذلك العالم المنتهي و إعادة بنائه لكنه يصل في النهاية إلي أستحالة تلك الإستعادة التي يقف التاريخ الدموي عائقاً في سبيلها مرة بالهجرة ومرة بالعودة إلي الأرض التي فقد المهاجرين الكثير من علاقتهم بها بفعل الزمن وأختفاء العائلات وتأكل الثقافة الأرمنية أمام الزمن والإبادة المنهجية التي مورست ضد البشر و الثقافة .
حيث يتناول العرض ذلك الحنين المستحيل نحو أستعادة الماضي على أكثر من مستوي بداية من النص الدرامي الذي يتناول حياة أختين الكبرى تدعى ميرسيدس والصغرى زاهوري اللواتي هاجرا إلي اليونان ضمن من هاجر بعد مقتل والديهما أثناء مذابح 1915 التي تعرض لها الشعب الأرمني من قبل الدولة التركية حيث نشأ في دار رعاية مع بقية الأطفال الذين فقدوا آبائهم ، ومع مرور الوقت تتجلى أزمتهم في غياب جيل الآباء الذي من المفترض أن ينقل لهما الثقافة والعالم الذي ينتميان إليه،. وفي عام 1948 تقرر الأخت الصغرى السفر لأرمينيا لتترك أختها في محاولة منها لتحقيق حلمها في استعادة الوطن في صورته المثالية المتبقية في ذاكرتها، إلا أن هذا الحلم يتم تدميره بالكامل حيث وجدت زاهوري قطيعة كاملة مع الماضي إضافة إلى التشوهات النفسية التي خلفتها عمليات الإبادة والتي تتضح بشدة في أولاد عمومتها ، لينتهي العرض باستحالة العودة للوطن لتضحي زاهوري بنفسها، أما ميرسيدس الأخت الكبرى محور الأحداث رغم عزلتها إلا أنها تعاني من نفس ما تعانيه الأخت الصغرى في أرمينيا، ليتحول الخطاب النهائي للعرض للتأكيد على أن اليونان مثلها مثل أرمينيا الجديدة .
ولكن على مستوي التقنيات الدرامية فإن العرض يتبني تقنيات تدمج بين عمليات الإستعادة الدائمة للزمن و التداخل بين الأزمنة و تجسيد وعي الشخصية الأساسية "مرسيدس" التي تستدعي العالم الذي تنتمي إليه المرة تلو المرة ، حيث يشحن الفضاء بالذكريات المستعادة و العوالم المتداخلة التي تحاول مرسيدس البحث -عبرها- عن بقايا عالمها الذي تحن إلي أستعادته .
وعلى مستوي البصري يقوم العرض بالتأكيد على حالة الحنين تلك عبر عدة آليات أولها هو تشكيل الفضاء الذي تشغل الصور القديمة التي تشير للهجرة و للعوالم المفتقدة مركزه بموقعها في أعلى المسرح حيث تمثل تلك الخلفية المهيمنة على العالم مستوي الذاكرة ووعي الشخصيات التي يتم أسدعائها على مدار العرض المرة تلو المرة ، وعبر ذلك المستوي يتشكل الوعي الخاص بالشخصية الأساسية .. ويتضامن مع ذلك تصميم الديكور الأساسي لمنزل "مرسيدس " المخترق طوال الوقت بالماضي و الحاضر المتصارعين حيث الحقائب و الطرود القادمة دائماً من ذلك العالم المفتقد .
ويستكمل ذلك ثلاث راقصين يقدمون لتعبير حركي يجعلهم أقرب ما يكونوا لربات القدر اليونانيات اللواتي يملكن الأقدار و الأعمار .
وفوق كل ذلك يشحن فضاء العرض في المستوي ثالث بعشرات الشخصيات التي يتم أستدعائها للعالم الدرامي و التي تشغل ذلك العالم و تضيف عليه مسحة من الشجن والحنين لذلك العالم و تلك الوجوه الباسمة التي تنتمي دائماً للماضي في مقابل الوحدة و الغربة التي تعاني منها الشخصية الأساسي .
وعلى مستوى أخير فإن العرض ذاته وعبر طرز الملابس و الموضوع الذي يتناولها يعيد أنتاج ذلك العالم المفتقد الذي تم تثبيته و الذي تحول إلي يوتوبيا غير قابلة للإستعادة أو أعادة الإنتاج ، فالعرض الذي يقدم للمتفرج بعد قرن كامل من المذابح الأرمينية يمثل أستعادة لذلك التاريخ الدموي الذي يرفض أن ينتهي عبر الزمن سواء في المستوي الزمني الأساسي لدراما العرض – نهاية الأربعينيات – أو في زمن العرض الذي يتداخل فيه الواقع مع المستويات الزمنية التي يقدمها العرض .
أن ذلك المستوي يؤشر على عدم قدرة المجتمع الأرميني – سواء المهاجر أو المقيم بالوطن – على تجاوز ذلك التاريخ وسقوطه في فخ الحضور الدائم للتاريخ ، وهو ما يمكن أن يتلاقي مع العديد من التجارب التي تقدمها مسارح الأقليات المهمشة و المضطهدة حول العالم والتي تواجه أزمنة الإستعمار والتهميش من القوي الكبري (سواء الإقليمية أو العالمية) التي مارست (ومازلت) عمليات تفتيت و إبادة ضد ثقافات بأكملها وتحويل مجتمعات إلي جزء مع عالم غريب و مجهول يتناسب مع مصالح تلك القوي .
أن العرض عبر أعتمده لذلك الموضوع - الذي يمكن أن يصنف كأحد نماذج المسارح ما بعد الكولونيالية - لا يعيد فحسب أنتاج عالمه المفتقد عبر الحنين المابعد حداثي الذي يقوم على عمليات أستعادة الطرز والعوالم بل يسهم أيضا في إعادة طرح سؤال الهوية في أزمنة العولمة التي تفتت الثقافات المحلية لصالح ثقافة كونية تتجاهل أزمات التاريخ التي لم تزل تعاني منها معظم الثقافات حول العالم . 

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...