الاثنين، أكتوبر 03، 2016

القاهرة .. موت مدينة المدن الثلاث


* ربما يكون هذا المقال مختلفاً بعض الشيء عن الطبيعة العامة للمدونة التي تهتم بالمسرح بشكل عام و لكني أظن أن المدينة و المعمار هما الأرضية التي تنمو عليها كافة الأشكال الأدائية التي تكتسب هويتها و سماتها و مميزاتها من ذلك الفضاء الذي تنشأ به و له .. وقد نشر هذا المقال ضمن العدد الأول من مجلة فنون التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب برأسه تحرير الصديق د. حاتم حافظ
بمراجعة سريعة لبعض ما كتب عن القاهرة خلال القرن الماضي يمكن الوصول إلى سمة أساسية تميز عمليات التقسيم و التصنيف المعماري للمدينة حيث تم تقسيمها إلى ثلاث مدن متجاورة و متداخلة ، ففي البداية هناك القاهرة الإسلامية و التي تمتد من باب الشعرية في أقصى الشمال الغربي و تنتهي بمصر العتيقة (مصر القديمة) في اقصى الجنوب الغربي للمدينة ، بينما تتمد إلى الجنوب الشرقي حتى الأباجية ..
 ومن ناحية أخرى تمددت مدينة الموتى بصحراء العباسية (صحراء المماليك) في الشمال الشرقي للقاهرة الإسلامية  ، بينما  أوقف تمددها إلى الشرق والجنوب جبل المقطم  الموجود في أقصى الجنوب الشرقي للمدينة القديمة .
أما المدينة الأوربية أو الحديثة فقد تم تخليقها في "الأرض الخربة"  المنبسطة بين النيل والمدينة القديمة  و التي كان لا يقطعها  إلا حي بولاق أبو العلا .. حيث كانت المنطقة التي  نطلق عليه اليوم منطقة وسط المدينة  ملكاً للنيل يتمدد فيه في زمن الفيضانات الوافرة ... بينما تتحول في أزمنة الجفاف لمساحة خربة وسبخة غير صالحة للزراعة  ، وهو ما جعلها مكان ملائم لإزدهار الفنون الأدائية التقليدية (رحبة باب اللوق تحديداً) من (أرباب الملاعب والحرف والمشعوذين والمخايلين و الحواة .. إلخ) - حسب المقريزي في خططه -  الذين كانوا يقدمون فيها  عروضهم  خارج سلطة  المدينة وفي نفس الوقت بالقرب من قواعدها الاجتماعية التي تحاصرهم و تطردهم وتستمتع بأعمالهم ، وبذات التحليل يمكننا أن نتفهم موقع "بحيرة الأزبكية " و محيطها كمواقع أحتفالية .
من ناحية أخرى فقد كان ذلك الفضاء المفتوح يمثل موقع للتوسع العمراني للمدينة و ملاذاً للفقراء الذين كانت تفيض بهم المدينة  ولم يتمكنوا من العثور على مستقر لهم داخلها حسب وصف الرحالة فريسكوبالدي الذي ذكر في عام 1348 "هناك أكثر من مائة ألف شخص ينامون ليلاً خارج أسوار القاهرة لعدم قدرتهم على السكن داخلها" .
وفوق تلك الأراضي السبخة و هامش المدينة الذي ولدت المدينة الحديثة ، أو كما يطلق عليها البعض (القاهرة الخديوية) التي تمددت في الأرض الخربة الممتدة بين القاهرة و النيل ولد ميدان الأوبرا و التحرير و باب اللوق  كما ولدت الشوارع الممتدة و المتسعة التي تحوي المسارح  والبارات وبيوت الدعارة الخاضعة للمراقبة الصحية .. الخ .وقد ساد في ذلك الوقت أفكار معمارية تتصور القاهرة الخديوية كجزء من المركز الغربي (قطعة من أوربا) فتحولت المدينة إلى عالم شبه منفصل عن المدينة التقليدية حيث ظهر الطراز العثماني الحديث بكل ما يحمل من مزج بين الطرز الغربية الحديثة و الطرز الأسلامية  قبلما يسود الطراز الشبابي الذي لم تزل منطقة وسط المدينة تحمل سماته ، وهكذا ولدت القاهرة الجديدة ممتلكة لقوانينها الخاصة وسكانها و طرق معيشتها في مقابل القاهرة القديمة التي أنطلقت بدورها في السعي نحو تلك المدينة الجديدة وقيمها بالتدريج لتتمازج معها في طرزها وتهبها بعضاً من قيمها ورؤيتها للعالم .
ومنذ ذلك الوقت بدأت تلك المدينة الجديدة بالتغول و التوحش  حتى أنه من الممكن وصف ما حدث بأنه ظهور للمدينة الرابعة (مدينة الحداثة) التي تمددت إلى الشمال في خلال النصف الأول من  القرن العشرين صوب العباسية و مصر الجديدة و أبتلعت شبرا وبولاق .. ثم تمددت جنوباً حتى المعادى وشرقاً في الستينيات صوب مدينة نصر .. كما أبتلعت مدينة الجيزة  وعين شمس و المرج  وتمددت جنوباً حتى لامست حلوان في الجنوب ،  وعندما لم تستطع الإكتفاء من كل ذلك بدأت في التوسع صوب الشرق و الشمال الشرقي متخطية الحدود الطبيعية المدينة القديمة  لتقام تجمعات سكنية لمختلف الطبقات سواء التي تم أستبعادها أقتصادياً كحال أسلافهم من الفقراء ، أو الأغنياء الراغبين في الإنفلات من المدينة المكتظة و الأستمتاع بالخصوصية و العزلة على أطرافها .
ومع الوقت تحولت القاهرة إلى ما يشبه بقعة الحبر التي تتمد في كافة الإتجاهات بحثاً عن مزيد من الأرض و الهواء .
 وفي خلال ذلك النمو المتصاعد و التمدد المخيف لمدينة الحداثة التي تبنت أنماط البناء الحداثية و ما بعد الحداثية  بدأت القاهرة الأوربية في أبتلاع المدينة القديمة و تحويلها إلي جزء منها وتابع لها ،  كما أبتلعت مدينة الموتى وحاصرتها من الشمال والشرق و الجنوب بمساكن الأحياء ، بل وتمددت إلي داخلها و شارك الأحياء الموتي في سكناهم ، بينما أختفت الأهرامات خلف المباني الشهقة وسحب الدخان والكباري المعدنية التي تتشابك في فضاء المدينة وتغلقه.
ولكن هل أختفت تلك المدن القديمة (المدينة الأسلامية ومدينة الموتى )  تلك المدن التي أدهشتا الرحالة و المستشرقين لما أمتازتا به من تميز معماري و ثقافي  ، بالتأكيد أنهما لم يختفيا ، فلقد نجحت المدينة الحديثة - بكل ما فيها من تشوهات و نتواءت وإلتواءات – في تحويل المدينة القديمة ومدينة الموتى  إلى جزء من موزاييك القاهرة الحديثة و طبقة من طبقاتها المتعددة التي تعكس الصراعات العنيفة  داخل أطراف مجتمع الحداثة سواء الذي يتمثل المركز الغربي وفضاءاته  ومعماره أو الذي يحاول الإرتداد صوب عالم أكثر أمناً و أستقراراً والتمرد على المركز الغربي ، إنها صراعات بين عوالم الأغنياء التي تحاول البحث عن جزر هادئة وآمنه في المدينة (كجزيرة الزمالك المحاطة بالنيل قديما أو التجمعات السكنية المغلقة حالياً) ، وبين عوالم الفقراء المنفيين إلى الزوايا المظلمة في المدينة و على أطرافها ، بين الأتساع و الأستقامة و الإمتداد في الطرق الرئيسية  و اللإلتواء و الضيق و الإنسداد في الأزقة و الحواري بالقاهرة الفاطمية.
وكتجسد لذلك الصراع ولدت على الأطراف الجديدة مثل (6 أكتوبر ، 15 مايو ، التجمع .. الخ ) للمدينة الحديثة  جبانات جديدة تمثلت مدينة الموتى القديمة فظهرت القباب القبطية والاسلامية ، و تم أعادة أستنساخ نظام الدفن المصري التقليدي وبالتالي نظم بناء الأحواش ولكن بإستخدام نظم  بناء أكثر حداثة حيث تخلت عن الحجر و التنوع الجمالي للمقابر لصالح نماذج موحدة اللون و التصميم تنمو في ظلال المدن الجديدة التي تتبني أنماط الأبنية الحداثية بشكل واسع الأمر الذي حول مدينة الموتي من عالم منفصل يمتلك معمارة الخاص و المميز إلي بؤر تجمع للموتي تحيا على هامش المدينة الحديثة التي أصبحت تطرد صراعاتها وتناقضاتها الأكثر عمقاً إلي الأطراف.
ولعل منازل الفقراء يمكن أن تكون نموذج أخر لتلك المدينة الحداثية الجديدة التي أبتلعت المدن القديمة – بل وأبتلعت مفهوم المدينة ذاته وتحولت لبقعة سرطانية تنتشر و تتمدد و تخلق بؤر جديدة لها على الأطراف – فعمارة الفقراء في مدينة القاهرة أمتازت بكونها أما أكواخ ضيقة مبنية من القش أو الطوب اللبن .. الخ أو مستعمرات سكانية مثل تلك التي وصفها علماء الحملة الفرنسية حيث تتجمع عشرات الأسر في غرف ضيقة و مظلمة .
ولكن في أحياء الفقراء الجديدة نجد نمو لنظام معماري حداثي .. وحدات متراصه .. أهتمام بالجانب الوظيفي وأهمال شبه تام للسمات الجمالية للحد الذي جعل من الطوب الأحمر المستخدم في البناء - يصبح بدرجاته اللونية وحسب عمر المنزل – هو العنصر الأكثر تميزاً في عمارة الفقراء الحديثة بينما تبدو الواجهات الملونة كجزر منعزلة وسط تلك غابات من المباني التي تهمل الأعتناء بالواجهات وتتركها عارية ... أن تلك الغابات المتشابكة من الأحياء الفقيرة الممتدة من المعصرة  و المعادي  في الجنوب و حتى عين شمس و المرج في الشمال  تعبر عن ذلك النزوع الخاص بالمدينة الحديثة وهي تخرج الفقراء من الأكواخ و البيوت الطينية إلي المباني الخرسانية التي لا تختلف في تصميماتها الخارجية و تحمل طابع التكرار..
بالطبع لم يختفي التقسيم الداخلي للكوخ الضيق الذي يكتظ بسكانه و يمنعهم مساحات الخصوصية وكذلك الأزقة و الشوارع الملتوية الضيقة التي تجعل من تلك الأحياء لا تختلف كثيراً في تصميمها عن  تصميم القاهرة القديمة مع مزيد من التشابه والتماثل ..
وذات الأمر يمكن أن يمتدد إلي منازل الطبقة الوسطي التي تهتم أكثر بالجانب الجمالي وأن بدأت منذ السبعينيات – ومع نهاية الإزدهار القصير لتلك الطبقة - في الأقتراب أكثر فأكثر بالنموذج المعماري للأحياء الفقيرة.

ربما لم يعد للقاهرة (مدينة المدن) من وجود  حقيقي إلا لدي مرضي الحنين للماضي و الباحثين في الطبقات الأركيولوجية للمدينة ،  لكن المدينة الحديثة التي أبتلعت المدن الثلاث (القديمة /  الموتي/ الخديوية) مزقت تلك المدن و حولتهم إلي جزء من عالمها يشاركون في تجسيد معاركها الشخصية كمدينة حداثية تتصارع لتقطع علاقتها مع الماضي  وتصارع لإستعادة ما هو أصيل و مركزي لتشكيل هويتها الجديدة. .. ولكن في خلال تلك الرحلة ربما تكون القاهرة قد سقطت وماتت كمدينة . 

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...