*تم تقديم هذا المقال كمداخلة ضمن ندوة النقد ودعم المسرح المقاوم التي عقدت ضمن فعاليات مهرجان القاهرة للمسرح المعاصر و التجريبي الذي عقد في القاهرة مؤخراً
تاريخياً حمل الناقد نوعين من المهام ...
تمثل النوع الأول منهم في دوره كخبير جمالي يمتلك كافة القواعد و القوانين
الجمالية التي تأسست عبر أجيال وأجيال من النقاد و المنظرين و الفلاسفة .. أما
النوع الثاني – وهو لا يقل أهمية - فهو
دوره كمفسر و محلل للعرض المسرحي .
النوع الأول متجه للفنان بشكل أساسي .. أنه
التقيم الجمالي الذي يمسك العمل الفني و يقوم بتشريحه فوق طاولة معدنية باردة تمتص
تلك الحيوية والسخونة و العرق والجمال الذي يخطف الأبصار و تقشعر له أبدان
المتلقين ، فيدرس الناقد الطول المناسب و العلاقات بين الأجزاء و مدي الإلتزام
بقاعدة التوسط الأرسطية (ليس كبيراً يصعب أدراكه أو صغيراً لا يمكن ملاحظته) ،والإيقاع
المنتظم (أو المتصاعد) ، والمحاكاة و مدي الدقة في مجاكاة الواقع أو إعادة صياغته
مركز تحديد ما هو جمالي ..الخ
بالمجمل يتم تحديد نجاح العرض المسرحي من
خلال مدي قدرته على تحقيق ما يطلق عليه المتعة التي هي خليط من (الدهشة و الإعجاب
و التلذذ و الأثارة ) وهي أمور تتحقق خلال أتساق بناء العمل الفني وتناسق العلاقات
بين أجزاءه وأنتظام أيقاعه و مهارة صناعه في المحاكاة .. بالطبع قد أصبح ضرب و
تدمير تلك المتعة من أهداف التيارات الحداثية و ما بعد الحداثية (كل بطرقه) لكن
تظل تلك المتعة الجمالية جزء أصيل من العلاقة التي تربط بين المتلقي والعمل الفني
وبالتالي يصبح من الطبيعي أن يكون تحليل و تقييم مدي نجاح العمل الفني في تحقيق
تلك المتعة المهمة الأساسية التي يضطلع بها الناقد أزاء العمل الفني وصناعه ...
وأن ظل يقوم بدور أساسي في تفسير أسباب أستمتاع أو نفور المتلقي من العمل الفني .
النوع الثاني يتجه على العكس من ذلك نحو
المتلقي الأساس .. فتحليل العمل الفني و تحديد ما يطرحه من أفكار و ما يقدمه من
أطروحات حول الواقع و ما يعكسه من رؤى للمجتمع أو يحمله ويخترقه من خطابات ... الخ
تمثل المهمة الأساسية التي يحملها الناقد تجاه الجمهور ، فهو متلقي مثالي يستطيع
إلتقاط كل العلامات التي ينثرها العرض ، كما أنه خبير مهني يمتلك خبرة طويلة
بالمجال و مشاهدات تنظم العمل ضمن سلسلة من العروض المشابهة في مواجهة سلاسل أخري
، وقراءات متعمقة بالمذاهب والتوجهات الفنية تمكنه من فهم و أستيعاب حتى أكثر
العروض أبهاماً و غموضاً وأغتراباً عن خبرة المتلقي الفنية وبالتالي تحليلها و
تبسيطها و تقيمها و تصنيفها .. الخ .
ولكن هل أكتفي النقاد يوماً بهذه الأدوار
كمقيمين و محللين ؟
ربما يكون من المستحيل أن لا يمر بذهن أي
مسرحي بعض أو كل الصور نمطية للناقد .. ذلك الرجل الكلاسيكي المظهر، الصامت ،
الممتعض دائماً ، الذي يوزع نظرات الإحتقار و عبارات التقريع و الإتهامات بالسطحية
و الرجعية و الفشل و الجهل يميناً ويساراً
، ذلك الرجل الذي يحمل في جيبه الأيمن أرسطو وهيجل و ماركس.. وفي جيبه الأيسر فرويد
و دريدا و فوكو .. ويتعامل مع الفنان دائماً كمجرم أنتهازي يتحدي القوانين
الجمالية والنظام الكوني و يستغل جهل الجمهور كي يبهرهم كساحر مبتدئ بالمناديل
الملونة و القبعة العالية التي يخرج منها الأرنب تلو الأرنب كما يخرج منهم التصفيق
و المال.
أن تلك التصورات النمطية للناقد يعود مصدرها إلي
الصدام العنيف والمستمر بين الفنان و الناقد ، ولكن من ناحية أخري فمن غير الممكن فصل
تلك الصور النمطية عن توجه عام للحركة النقدية كسلطة تمتلك بحكم تكوينها طموح
يتخطي التحليل أو التقييم الجمالي في مقابل محاولة أمساك العالم و دفعه أو تقيده
أو تحديد مجال حركته ، فالفنانين في ذلك التصور
محض تجليات لذلك النظام و القوي المتصارعة حوله وداخله ، وهنا يصبح دور
الناقد تحديد مجال وحرية تلك الأصوات حتى تصبح أكثر قدرة على التعبير عن ذلك
النظام وبالتالي ممارسة القمع كما نعرف من
الحكايات الشهيرة مثل محاكمة كورني النقدية لتمرده على قواعد الكلاسيكية الجديدة ،
أو القمع للفنانين في روسيا السوفيتية و ألمانيا النازية.
وبالتوازي مع ذلك الدور الجديد
المتعلق بحديد مجال الحرية تفتح أراض جديدة يكون فيها الناقد طليعة العمل
ضد النظام المستقر يدعم فيها تيارات فنية جديدة ويبشر بها ويقوم بتبنيها و تقديمها
للمتلقي ، بل أنه قد يخلق تلك التوجهات إذا لم تكن موجودة في أطار دوره المفترض .
ولعل سيادة أياً من التوجهين مرتبط بطبعية
العصر و صراع القوى المتحكمة فيه مع القوى المعارضة داخله و الكيفيات التي يتم بها
حصر و أنهاء الصراعات المجتمعية .
إن النقد المسرحي ينحاز بطبيعته نحو تبني مواقف أجتماعية و
سياسية و ثقافية أياً كانت المناهج التي يعتمدها الناقد في تحليله و تقيمه للإعمال
الفنية وبالتالي فإن هذه المواقف تسهم الخطاب النقدي المرتبط بتوجهات فنية بعينها كما
نجد على سبيل المثال تبني الحركة النقدية المصرية و العربية منذ الستينيات و حتى
بداية التسعينيات لخطاب نقدي يقوم بدعم العروض المسرحية التي تندرج تحت مظلة عامة
يمكن لنا أن نطلق عليها عروض أستلهام الموروث الشعبي و القومي و التي يمكن أن نجد
داخلها العديد من التنويعات الفنية و التقنية لكنها في النهاية أزدهرت و نمت في ظل
ذلك الخطاب النقدي سواء المصاحب للعروض أو التنظري . وهو ما يعكس بشكل واضح الميل الواضح لدي
التيار النقدي الأساسي نحو تبني خطاب ما بعد كولونيالي مناهض للمركزية الغربية و
جماليتها في مقابل إعادة الإعتبار للإشكال الأدائية التقليدية التي ربما لم يكن من
الممكن رصد أساليب بعضها و تقنياتها (مثل المحبظتية) إلا عبر الكتابات الوصفية
للرحالة و علماء الحملة الفرنسية .. الخ . وهو ما يكشف عن دور الحركة النقدية في
تشكيل تيار فني و أعادة الحياة لبعض الأشكال الأدائية على حساب توجهات فنية
وأدائية أخرى .
وربما يمكن أن نجد في المسرح المصري نموذج
أخر أكثر قوة نمى في ظلال ذلك المشروع المتعلق بإستعادة الهوية الأدائية للمسرح
المصري قبلما يتحول إلي مركز الحركة النقدية في مصر وهو حركة نقاد الثقافة
الجماهيرية التي أصبحت بالتدريج وخلال التسعينيات و حتى منتصف العقد الأول من
الألفية هي الحركة النقدية الأهم و الأكثر حركية و حضوراً حيث تبنت تلك الحركة
مشروع الثقافة الجماهيرية في مصر الذي يمتاز بأنه مشروع يهدف بالأساس إلي تحقيق
تنمية ثقافية و فنية بالمجتمعات المحلية بالأقاليم ، حيث تبنت الحركة النقدية في
مصر ذلك المشروع بالأساس في مواجهة تراجع المسرح المحترف و خفوته التدريجي خلال
التسعينيات و أنغلاق آفقه .
ولكن تلك الحركة توقفت بغته عن النمو الطبيعي
نتيجة لحريق مسرح بني سويف الذي راح ضحيته العشرات من الخبرات الفنية و الإدارية
النقدية التي كانت تحمل مشروع الثقافة الجماهيرية .
ربما يكون من المدهش هنا أن نجد أن توجهات
أنتاجية مثل " المسرح المستقل" لم تنجح في تخليق حركة نقدية شبيهة بحركة
مسرح الثقافة الجماهيرية برغم الدعم المعلن لذلك التوجه الإنتاجي من قبل أكثر من
ناقد لكن الأجابة ربما تكون في عدم وجود الكثيرمن المميزات التي أمتاز بها مسرح
الثقافة الجماهيرية لعل أولها أتساع الحركة و أعتمادها على نظام تسابقي وكذلك وجود
مشروع ثقافي مرتبط بحركة مسرح الأقاليم على العكس من المسرح المستقل الذي هو عبارة
عن مشروع أنتاجي لا يقدم سوي بديل أنتاجي فحسب بلا مشروع واضح أو توجهات محددة .
بالمجمل فإن الحركة النقدية المصرية تعرضت
لضربة كبيرة وقاصمة بعد حريق بني سويف خاصة في ظل توقف كافة المطبوعات النقدية
التي كانت تصدرها الدولة في ذلك الوقت وأخرها
مجلة (آفاق المسرح).
ولكن مع ظهور جريدة مسرحنا أستعاد الحركة
النقدية بعض من عافيتها لكنها ولطبيعة توجهات الجريدة نحو تغطية الحركة المسرحية
بشكل عام (برغم تركيزها الواضح على مسرح الثقافة الجماهيرية) ساهمت في أنتاج جيل
جديد من النقاد ربما لا ينتمون كما كان حال الأجيال السابقة إلي مشاريع مسرحية
بعينها بقدر تعاملهم المهني الخاضع للميول الشخصية و للإنتماءات الأيديولوجية
الخاصة بهم .
ربما يكون أستعادة تلك الروح المميزة للحركة
النقدية المصرية كحركة ذات توجهات محددة داعمة لأنماط فنية بعينها و لتوجهات
ثقافية و سياسية هو الرهان المستقبلي لتلك الحركة التي لم تنجح منذ سبتمر 2005 في
تخطي أزماتها .
بالتأكيد أن ذلك الرهان لن يكون سهلاً في ظل
تلك المقاومة المتصاعدة للسلطة النقدية التي تم تأميم أدوارها الأساسية التي سبق
لنا عرضها و أشاعتها للجمهور عبر وسائل التواصل الإجتماعي و المدونات .. حيث أصبح
دور الناقد في تراجع مستمر أما تعليقات المتلقين حول العروض على صفحات التواصل و
كذلك الميل المتصاعد لتحويل دوره كمفسر إلي مجرد أنطباع ضمن سيل الإنطباعات وما
يطلق عليه "وجهات النظر".
ربما هي حالة عامة و عالمية لكنها في مصر
تكتسب الكثير من قوتها على مستوي الحركة النقدية من تراجع المشاريع الكبري التي
كانت تحملها تلك الحركة و تدافع عنها والتي تعاني من التراجع الدائم و المستمر
خاصة بعد نهاية المشاريع الثلاث الكبري التي كانت الحركة المسرحية المصرية تقوم
عليها وهي التعريف و توطين الظاهرة المسرحية و ربط الحركة المسرحية المصرية بحركة
المسرح العالمي و تاريخه و التي قام عليها جيل التأسيس في الخمسينات و السيتينيات
ثم مشروع أستعادة الهوية حتى التسعينيات و نهاية بحركة نقاد الثقافة الجماهيرية
التي نتجت عنه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق