* هذا المقال هو إعادة صياغة و تطوير للمداخلة التي شاركت بها بندوة المهرجان القومي للمسرح والمنشوره بهذه المدونة
ينحاز النقد المسرحي
بطبيعته نحو تبني مواقف أجتماعية و سياسية و ثقافية أياً كانت المناهج التي
يعتمدها الناقد في تحليله و تقيمه للإعمال الفنية وبالتالي فإن هذه المواقف تسهم
في تشكيل الخطاب النقدي المرتبط بتوجهات فنية بعينها ، وعلى مدار تاريخ الحركة النقدية المسرحية في
مصر يمكن أن نرصد ثلاثة مشاريع كبرى قام النقد المسرحي في مصر بتنيها .. الأول هو
مشروع التأسيس والذي يمتد منذ مرحلة التأسيس الأولي لفن المسرح بصيغته الأوربية
حيث نجد وكما يرصد د. سيد على أسماعيل في دراسته لمقدمة نص بلقيس نموذج لذلك النوع
من النقد الذي يتحمل إلي جوار دوره في التقيم الجمالي دور أخر أكثر بروزاً واهمية
.
ففي جريدة المقطم في 18 – 2- 1891 وضمن أعلان جمعية السرور الوطنية " إن فن التشخيص قد أزدهى في هذه الأيام وصار له المقام الأول بين الهيئة الاجتماعية ودليل ذلك إقبال العموم على المراسح و استماع الروايات الأدبية التي هي مرآة يري بها الحاضر أحوال السلف وما كانو عليه من العفة و الأمانة و كيف يكون جزاء الخائنين .."
ففي جريدة المقطم في 18 – 2- 1891 وضمن أعلان جمعية السرور الوطنية " إن فن التشخيص قد أزدهى في هذه الأيام وصار له المقام الأول بين الهيئة الاجتماعية ودليل ذلك إقبال العموم على المراسح و استماع الروايات الأدبية التي هي مرآة يري بها الحاضر أحوال السلف وما كانو عليه من العفة و الأمانة و كيف يكون جزاء الخائنين .."
أن ذلك الأقتباس يكشف عن طبيعة الخطاب المرتبط بالمسرح
خلال مرحلة النشأة .. وهو نموذج يمكن أن نجد له العديد من الإشارات في المقالات و
المتابعات النقدية والإعلانات و التغطيات الصحفية خلال الفترة الممتدة حتى منتصف
القرن العشرين - بدرجات متفاوتة بالطبع – حيث كان الخطاب الداعم للفن الوليد يقوم
بعمليات ربط بين المنظومة الأخلاقية للمجتمع و الفن المسرحي ، بحيث يتم التأكيد
على دور المسرح في الإرتباط بالنظام الأخلاقي المحافظ للمجتمع ، فالعفة و الأخلاق
الحميدة و الأمانة و التربية الأخلاقية للشبان والفتيات تأتي في مقدمة كل المزايا
التي يمتلكها عرض مسرحي ، وذلك لعدة أهداف لعل أولها هو التسويق الإجتماعي لفن
المسرح و ترسيخه داخل المنظومة الإجتماعية و الثقافية للمجتمع.
بالتأكيد فإن ذلك المقتبس السابق يتغول أكثر فأكثر صوب
التأكيد على أن ما يقدمه الفن المسرحي (أو العرض
هنا) مرتبط بشكل مباشر بالتراث الثقافي للمجتمع ولكن بشكل عام فإن ذلك التوجه
الأخلاقي كان يستهدف بشكل أساسي كما أشرنا
تحويل الصورة الذهنية للفنون الأدائية لدي المجتمع المصري في منعطف نهاية القرن
بالأساس وتدعيم الفن المسرحي بصيغه الغربية بدرع أخلاقي يفصله عن فنون الفرجة
الشعبية التقليدية التي بدأت في الخفوت مع نمو طبقة متوسطة ذات توجه محافظ .
وبالتأكيد فإن ذلك التوجه الأخلاقي قد أستطاع في ما بعد
أن ينفصل عن الدور الأساسي الذي تم تخليقه من أجله وأن تتحول التقيمات الأخلاقية
إلي أسلوب معتمد و مقبول في نقد الفن المسرحي كأن يوصف عرض بالبذئ أو الخارج عن
التقاليد والعادات .. وهو ما أمتد إلي السينما .
وعلى كل حال فإن بقايا ذلك التوجه الأخلاقي قد تم
توريثها للمتابعات الصحفية و الكتابات الإنطباعية التي ترتبط بالصحف السيارة حتى
اليوم ، وأن كان ذلك لا يعني أنه لا يتم اللجوء إلي ذلك التبرير الأخلاقي بين
الحين والآخر للدفاع عن الفن المسرحي .. كأن يشير بعد الكتاب إلي أن المسرح يمتلك
قدسية خاصة به أو التأكيد على الطبيعة التعليمية للفن المسرحي التي (كمدرسة الشعب)
أو حتى وضع بيت للشاعر الكبير أحمد شوقي أعلى خشبة المسرح القومي يتحدث عن الأخلاق
.
أما ثاني المشروعات النقدي الأكبر للحركة النقدية
المصرية والعربية منذ الستينيات و حتى بداية التسعينيات فهو الخطاب الذي يدعم
العروض المسرحية التي تندرج تحت مظلة أعادة أستلهام الموروث الشعبي و القومي و
التي يمكن أن نجد داخلها العديد من التنويعات الفنية و التقنية التي تمتد من أعمال
أستعادة التراث الحكائي للثقافة العربية (كما كان يفعل (ألفريد فرج) على سبيل
المثال في نصوص مثل الزير سالم) ولا تنتهي بإستعادة أشكال الفرجة الشعبية مثل
السامر أو المحبظتية أو الأرجوز .. أو حتى أستعادة أو محاولة تخمين أساليب الأداء
و طرقه وأعادة تخليقها ، لكن الهام في هذا الموضوع هو أن هذه التوجهات على
أختلافها وتنوعها قد أمتلكت القدرة على الإزدهار والنمو في ظل ذلك الخطاب النقدي الذي
يمكننا أن نقسمه إلي خطاب تنظيري شارك فيه العديد من النقاد الكبار (مثل د. على
الراعي) إلي جانب كتاب مسرحيين (توفيق
الحكيم – يوسف أدريس – سعد الله ونوس – عبد الكريم برشيد .. الخ).. وكل تلك
المشروعات تنطلق من أن هناك تقاليد أدائية ظلت حاضرة في المجتمعات العربية وأن دور
المسرحي الحقيقي والأكثر وعياً هو إعادة أحياء هذه التقاليد للقضاء على
المسرح بصيغه الأوربية أو في أفضل الأحوال
تخليق جسور تواصل ثقافي مع المتفرج عبر أستعادة
التقاليد الأدائية التي تنتمي لثقافته . ومن ناحية أخرى نجد الكتابات و
المتابعات النقدية المصاحبة للعروض والنصوص والتي جعلت من دراسات المسرح الشعبي
أحد أكثر أشكال الدراسات شيوعاً و أنتشاراً في الأوساط الأكاديمية.
بالتأكيد فإن كل ذلك
يعكس بشكل واضح الميل المتصاعد لدي التيار النقدي الأساسي خلال تلك المرحلة
نحو تبني خطاب ما بعد كولونيالي مناهض للمركزية الغربية و جماليتها في مقابل إعادة
الإعتبار للإشكال الأدائية التقليدية التي ربما لم يكن من الممكن رصد أساليب بعضها
و تقنياتها (مثل المحبظتية) إلا عبر الكتابات الوصفية للرحالة و علماء الحملة
الفرنسية .. الخ . وهو ما يكشف عن دور الحركة النقدية في تشكيل تيار فني و أعادة
الحياة لبعض الأشكال الأدائية على حساب توجهات فنية وأدائية أخرى ... وهو ما يعني
أن الخطاب النقدي كان يشكل جزء من مشروع التحرر الوطني و الوحدة القومية خلال تلك
المرحلة الممتدة .
بالتأكيد أن ذلك الخطاب لم ينتهي ويختفي بشكل نهائي حيث
لم يزل – كما سبقت الإشارة- أحد أكثر الموضوعات شعبية بداخل الأوساط الأكاديمية
إلي جانب كونه قد تحول نتيجة عمليات الدعم المتصل والمستمر إلي إيجاد تيار مسرحي
قوي و متماسك لم يزل شديد القوة والحضور حتى اليوم ، ولعل التوجهات النقدية لدي
محكمي مشروع الثقافة الجماهيرية نحو دعم وتفعيل هذا المشروع لم تزل شديدة القوة و
الحضور حتى اليوم.
أما ثالث تلك المشروعات النقدية الكبري والتي يمكن أن
نجد رابط قوي بينه وبين مشروع المسرح الشعبي فهو ذلك المشروع المتعلق بإستعادة الهوية
الأدائية للمسرح المصري وهو حركة نقاد الثقافة الجماهيرية التي أصبحت بالتدريج
وخلال التسعينيات و حتى منتصف العقد الأول من الألفية هي الحركة النقدية الأهم و
الأكثر حركية و حضوراً حيث تبنت تلك الحركة مشروع الثقافة الجماهيرية في مصر الذي
يمتاز بأنه مشروع يهدف بالأساس إلي تحقيق تنمية ثقافية و فنية بالمجتمعات المحلية
بالأقاليم ، حيث تبنت الحركة النقدية في مصر ذلك المشروع بالأساس في مواجهة تراجع
المسرح المحترف و خفوته التدريجي خلال التسعينيات و أنغلاق آفقه .
ولكن تلك الحركة توقفت بغته عن النمو الطبيعي نتيجة
لحريق مسرح بني سويف الذي راح ضحيته العشرات من الخبرات الفنية و الإدارية النقدية
التي كانت تحمل مشروع الثقافة الجماهيرية .
ربما يكون من المدهش هنا أن نجد أن توجهات أنتاجية مثل
" المسرح المستقل" لم تنجح في تخليق حركة نقدية شبيهة بحركة مسرح
الثقافة الجماهيرية برغم الدعم المعلن لذلك التوجه الإنتاجي من قبل أكثر من ناقد
لكن الأجابة ربما تكون في عدم وجود الكثيرمن المميزات التي أمتاز بها مسرح الثقافة
الجماهيرية لعل أولها أتساع الحركة و أعتمادها على نظام تسابقي وكذلك وجود مشروع
ثقافي مرتبط بحركة مسرح الأقاليم على العكس من المسرح المستقل الذي هو عبارة عن
مشروع أنتاجي لا يقدم سوي بديل أنتاجي فحسب بلا مشروع واضح أو توجهات محددة .
إن الحركة النقدية المرتبطة بمسرح الثقافة الجماهيرية تعرضت لضربة كبيرة وقاصمة بعد حريق بني سويف
خاصة في ظل توقف كافة المطبوعات النقدية التي كانت تصدرها الدولة في ذلك
الوقت وأخرها مجلة (آفاق المسرح).
ولكن مع ظهور جريدة مسرحنا أستعاد الحركة النقدية بعض من
عافيتها لكنها ولطبيعة توجهات الجريدة نحو تغطية الحركة المسرحية بشكل عام (برغم
تركيزها الواضح على مسرح الثقافة الجماهيرية) ساهمت في أنتاج جيل جديد من النقاد
ربما لا ينتمون كما كان حال الأجيال السابقة إلي مشاريع مسرحية بعينها بقدر
تعاملهم المهني الخاضع للميول الشخصية و للإنتماءات الأيديولوجية الخاصة بهم .
ربما يكون أستعادة تلك الروح المميزة للحركة النقدية
المصرية كحركة ذات توجهات محددة داعمة لأنماط فنية بعينها و لتوجهات ثقافية و
سياسية هو الرهان المستقبلي لتلك الحركة التي لم تنجح منذ سبتمر 2005 في تخطي
أزماتها .
بالتأكيد أن ذلك الرهان لن يكون سهلاً في ظل تلك المقاومة
المتصاعدة للسلطة النقدية التي تم تأميم أدوارها الأساسية التي سبق لنا عرضها و
أشاعتها للجمهور عبر وسائل التواصل الإجتماعي و المدونات .. حيث أصبح دور الناقد
في تراجع مستمر أما تعليقات المتلقين حول العروض على صفحات التواصل و كذلك الميل
المتصاعد لتحويل دوره كمفسر إلي مجرد أنطباع ضمن سيل الإنطباعات وما يطلق عليه
"وجهات النظر".
ربما هي حالة عامة و عالمية لكنها في مصر تكتسب الكثير
من قوتها على مستوي الحركة النقدية من تراجع المشاريع الكبري التي كانت تحملها تلك
الحركة و تدافع عنها والتي تعاني من التراجع الدائم و المستمر خاصة بعد نهاية
المشاريع الثلاث الكبري التي كانت الحركة المسرحية المصرية تقوم عليها وهي التعريف
و توطين الظاهرة المسرحية و بط الحركة المسرحية المصرية بحركة المسرح العالمي و
تاريخه و التي قام عليها جيل التأسيس في الخمسينات و السيتينيات ثم مشروع أستعادة
الهوية حتى التسعينيات و نهاية بحركة نقاد الثقافة الجماهيرية التي نتجت عنه ...
وهي المشاريع التي يمكن لنا أن نكتشف من تواليها و ترابطها أرتباطها بموضوع أساسي
وهو توطين الفن المسرحي وإعادة الإعتبار للثقافة المحلية من ناحية و بناء مجتمع
أكثر وعيا وأنفتاحاً وتحرراً من ناحية أخر .. بالتأكيد أن ذلك يبدو حاملاً
لتناقضات لكن تلك التناقضات هي ما خرج منه المسرح المصري و الحركة النقدية المصرية
بالتالي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق