الأربعاء، أكتوبر 26، 2016

الأم شجاعة... أزمة المعالجات المغلقة الأفق


بالنسبة للمتفرج المحترف ترتبط أستعادة أحد نصوص بريشت فوق خشبة المسرح - في العادة – بمجموعة التقاليد التي تميز مسرح برتولد بريشت ومنهجه وفي مقدمة تلك التقاليد التقنيات الأدائية التي تتمرد على تقاليد المسرح الواقعي  بجانب تقنيات تحطيم الإيهام المسرحي عبر الغناء و السرد و كشف مصادر الإضاءة ومخاطبة المتفرج..الخ .. وهي أمور يمكن أن نجد صدى حضورها (بدرجات متفاوتة بالتأكيد) في عرض الأم شجاعة الذي قدمته فرقة "المسرح الحديث" على خشبة مسرح ميامي بالتعاون مع المخرج محمد عمر .
وبالتأكيد فإن ذلك المتفرج المحترف يدرك أن كل تلك التقنيات لم تكن ذات هدف جمالي فحسب ؛ بل أنها تأتي أستجابة لتوجه المسرح الملحمي نحو تقديم رؤى الرديكالية للواقع عبر أساليب مخالفة لأساليب المسرح الإيهامي - الذي لا يستطيع التعبير عن تلك الأفكار أو حملها – وبالتالي دفع المتلقي تبني تلك الرؤى السياسية و الأقتصادية و الأجتماعية ذات الطبيعة اليسارية . فالمسرح البرجوازي بإلإندماج العاطفي و التوحد الإنفعالي مع الشخصيات كان هو العدو الذي يهدف بريشت إلي تحطيمه، فالمشاعر العنيفة  تلتهم الغضب و أحاسيس الظلم الإجتماعي لدي المتلقي عبر أسقاطها على الشخصيات .. الخ .
من هنا ربما يطرح تقديم عرض "الأم شجاعة" من بطولة رغدة و علاء قوقه تلك التصورات التقليدية المرتبطة بمسرح بريشت وما يمكن أن يطرحه على واقع ملتبس و معقد تتراجع فيه قوى اليسار أمام مد التيارات اليمينية بداية من التيارات الدينية الأكثر تشدداً ونهاية بالنظام السياسي الذي يتبني نظام أقتصادي يقوم بسحق الأكثر فقراً لصالح الشرائح الأكثر غنى داخل المجتمع.
فالنص الذي يتناول رحلة سقوط سيدة تتباهي طوال الوقت بأمكانية عبورها للحروب و القتال ببضائعها و أرباحها .. في حين تلتهم الحرب في طريقها أبنائها ..  يطرح الكثير الأفكار النقدية لأفكار الخلاص الفردي وأمكانية النجاة في أزمنة الكوارث والإنهيارات الكبرى (أو حتى في ظل نظام أقتصادي يقوم بتهميش الأغلبية لصالح أقلية) وهو ما يتلاقى مع واقعنا الأقتصادي والأجتماعي ، لكن المخرج والمعد (الذي فضل توصيف عمله بالكتابة وهو توصيف شديد الميوعة) أنحاز في معالجته إلي تبني خط  وحيد بالنص وهو الحرب المذهبية التي تدور في فلكها أحداث النص حيث توجهت  معالجته لنقد الصراع المذهبي والديني الذي أصبح أحد أسس الصراعات السياسية والحروب في المشرق العربي بداية من الحرب الطائفية الطابع بين السنة و الشيعة في العراق و سوريا واليمن أو الصراعات الطائفية المكتومة داخل دول الخليج العربي .. الخ .. وبالتالي فإن العرض قام بعدد من الخيارات التي تقوم بقمع و تحييد المركز الأساسي للنص الأصلي لصالح نص يهتم بمظاهر الصراع أكثر من البحث في الأسباب الحقيقية التي تجعل من الصراعات الطائفية هي البديل الممكن لتعبير عن حالة الإحتقان الإجتماعي و السياسي والتاريخي بتلك الدول التي سقطت في هوة الحروب الطائفية أو التي تتأرجح على حافة السقوط طوال الوقت .
ولتحقيق ذلك الهدف فإن العرض قام بعدد من الخيارات الأساسية لعل أهمها هو ما قام به نص العرض الذي أهتم بشكل بالتأكيد على حالة التحلل الأخلاقي التي تتخفى تحتها النزعات الطائفية بحيث يتحول ذلك النقد الأخلاقي إلي الأسلوب المعتمد لدي العرض في نقده لتلك النماذج التي يقدمها (المذهبجي / علاء قوقه ، شهوة/صفاء جلال  ، الطباخ /  أحمد أبو عميرة .. الخ ) والتي تقدم في إطار ساخر ومشوه لها .. وكذلك تسفيه الصراع الطائفي ليتحول إلي صراع بين عشرات أو مئات الطوائف التي تتصارع على تقديس البيض أو الدجاج أو الديوك .. الخ .
وبالطبع فإن عملية التسفيه لذلك الصراع ربما تعكس رؤية العرض للصراعات الطائفية كصراعات بين قوى همجية لا تمتلك مشاريع للواقع أو للمستقبل بقدر ما تمتلك الرغبة في التسيد و تثبيت دعائم سلطتها عبر التخلص من كل القوى المعارضة.
أن ذلك التوجه نحو التسفيه و السخرية من تلك الحروب الطائفية قد أنعكس في الأداء التمثيلي - كما أشرنا- حيث سادت أساليب المبالغة الأدائية ذات الطابع الكوميدي ما يرتبط بها من الكوميديا اللفظية و الجسدية كأسلوب معتمد لدي معظم المؤدين في العرض بما فيهم شخصية (شجاعة/ رغدة).. إذا ما تم أستثناء (زينب وهبي وبقية أبطال المشهد الختامي للعرض والذي سادت فيه نزعات خطابية و أنفعالية ترتبط بطبيعة المشهد الذي يتم فيه تجسيد صوت المواطنين المضارين من الحرب للمرة الأولي والأخيرة بالعرض والتي تم أستغلالها من قبل المعد والمخرج لتحميل الشخصيات بالخطاب الذي يرغب في طرحه).
على مستوي أخر فإن العرض قام بتأكيد توجه عبر تبني صورة مسرحية تعتمد بشكل أساسي على عنصرين أساسين .. الأول هو المتعلق بالخلفية التي شغلت طوال الوقت بمقاطع فيديو لمشاهد الحرب و عمليات الإعدام التي نفذتها عناصر داعش وضحايا الحرب في سوريا من الأطفال إلي جانب مشاهد وخلفيات للمشهد تصور المدينة المدمرة و مقاطع تدمج بين ما يحدث على خشبة المسرح وما يحدث خارجها  كمشاهد دخول وخروج الشخصيات للإيحاء بواقعية المشهد وإن كانت تلك المحاولات قد شابها سوء التنفيذ في بعض الأحيان .. وأن كانت الطبيعة المشوهة عمداً لتلك المقاطع في مجملها ساهمت في تفتيت واقعية المشاهد وأبعادها.
إما العنصر الثاني فهو الأستعراضات و اللوحات الراقصة التي تؤدي عبر راقصين يرتدون ملابس شبه عسكرية ..
بالمجمل فإن تلك العناصر المشكلة للصورة المسرحية ظلت محافظة على الهدف الأساسي الذي هدف إليه العرض وهو جذب العرض إلي مساحة حركته المحدودة و الضيقة التي تدور في فلك خطابه المناهض للطائفية وحروبها.. وهو ما تم دعمه عبر أستخدام صالة المتفرجين لدخول وخروج شخصية (المذهبجي) و كذلك كشف مصادر الإضاءة .. فالعرض يهدف عبر محاولته تحقيق عمليات الإبعاد تلك إلي تفتيت الحكاية الأساسية التي يقدمها العرض و تحيدها لصالح خطابه المباشر ...
ولكن ورغم بروز ووضوح التوجهات الخاصة بالعرض فإن العرض ظل محتفظاً بمساحة من المباعدة بينه وبين المتفرج فنجد الملابس التي قدمتها المصممة (مها عبد الرحمن) أهتمت بتحقيق عملية تشويش على زمن ومكان الشخصيات و عالمهم فهي ملابس تجمع بين تصميمات شرقية و تصميمات مستوحاه من السينما الأمريكية .. الخ ،وهو نفس الأمر الذي يمكن أن نرصده في الديكور للمصمم (محمد هاشم) ، كما يمكن أن نرى تحققه أيضاً عبر أستبعاد العرض لأهم عناصر بناء عملية التغريب البرشتي ... فالشخصيات غارقة في عالمها ولا يتم فتح ثغرات للمناقشة أو للتفكير في ذلك العالم الذي يقدم وهو ما كان يمكن أن يفتح أمام العرض مساحة من الأحتمالات التي يبدو أنها ليست على لائحة أهتماماته .. فالعرض ورغم ذلك التوجه الواضح نحو نقد الواقع العربي إلا أنه لم يرد صراحة التورط في مناقشة عميقة و حقيقية لذلك الواقع بل يكتفي بإزاحتها إلي الخلفية في الفيديو الذي يعتمد تشويه الصورة والتحليق في فضاء يوحي بما يرغب في مناقشته عبر جمل خطابية و سخرية سطحية دون التعمق الذي قد يورط العرض والمتفرج في مناقشة الواقع الأكثر تعقيداً بكثير من تلك المعالجة التي يقدمها .
ولعل كل ذلك أدي في النهاية إلي سيادة أزمة الإيقاع العميقة و الدائمة التي يعاني منها العرض .. فالعرض الذي يمتد عبر فصلين لم يكن يمتلك سوى فكرة وحيدة مجتزئة من عالم مسرحية الأم شجاعة و أبنائها لبريشت وبالتالي فإن العرض ومع تقدمه يظل يقوم بتكرار و أعادة تكرار و أجترار خطابه حول الطائفية المرة تلو المرة بلا نهاية ودون أدني رغبة في توسعة أو أفساح المجال لتحليل تلك الطائفية عبر نص العرض أو عبر الصورة المسرحية أو الأغاني .. الخ.

أن العرض بصياغته التي قدم بها على خشبة مسرح ميامي ربما يكون نموذج مثالي للعروض التي تحاول الإفلات من القضايا التي تناقشها عبر تسطيحها و تغليفها بخطاب يقدم نفسه كتحليل نهائي ، وبالتالي أصبح أسير رقابته الذاتية التي تحطم أي مساحة للتفكير وتعيق العرض عن التواصل مع متفرجه و تنزع عنه أحد أهم مميزات العرض المسرحي الحي.

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...