ينتمي عرض " مرثية الوتر الخامس" لأحد أكثر
الخطابات التي سادت المنطقة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر والتي لم تزل
تمتلك من القوة وأسباب الوجود ما يؤهلها للأستمرار و النمو أنه الخطاب النقدي
للتراث و للسلطات التقليدية في المجتمعات العربية ..وهو خطاب يستمد قوته و حيوته من
سيادة المركز الغربي وقيمه التقديمية ،
فالسلطة الدينية و المجتمع العربي التقليدي وفق ذلك الخطاب هم العدو الذي يمنع
اللحاق بالتطور و الحداثة الغربية ، ولعل ذلك يتضح بشكل أساسي في خيارات النص
العرض لتقديم شخصية الفنان المنتمي للعصر العباسي "زرياب" فهو موسيقي
موهوب و صاحب أضافات للموسيقي العربية عبر أضافته للوتر الخامس ولكن إلي جوار كل ذلك
فهو معلم لفن "الإتيكيت" و طرق الإستمتاع بالحياة كما يقدمه النص
وبالتالي فرفضه وقمعه يمثل رفضاً وقمعاً لكلما يمثله يمثله من أنفتاح و طرق الحياة
الحضارية التي تتناقض مع العالم المنغلق والرجعي الذي يمثله رجل الدين الذي يقدمه
"زرياب/ عبد الله مسعود" وأسحاق الموصلي الحاقد و الرافض لمنازعة تلميذه
له في مكانته و شهرته و حظوته عند الخليفة .. وأخيراً حاكم القيروان الذي يصفعه
لأنه يغني أشعار عنترة صاحب اللون الأسود
كلونه !!
ومن خلال ذلك يمكننا أن نكتشف طبيعة العالم الذي يقدمه
العرض ، فالعرض يقدم عالم تتنازعه قوي تاريخية لم تفقد عبر التاريخ الطويل الممتد
حتى الزمن الحاضر شراسة نزاعها وحدية مواقفها .. ففي الطرف الأول يقف "زرياب"
رجل الموسيقي و الحضارة المدنية الذي يعاني طوال الوقت من القمع بسبب أنفتاح
أفكاره و موهبته وقدراته الإبتكارية التي تصطدم دائما بالعالم المغلق و الرجعي
الذي يرفض كل ما يمثله زرياب و الذي يقدس الثبات و يقلقه كل ما يناقض المستقر و
السائد . ولكن نص العرض لم يتوقف عند عصر الشخصية التاريخية التي يقدمها بل
ينتزعها من زمنها و يضعها في العالم المعاصر ليعيد تقيم ما مر به من أزمات في زمن
حياته الأول ليكشف أن تلك "العقول المتحجرة" كما يصفها النص لم تزل حية
هي الأخرى .
بالطبع فإن العرض حاول التأكيد على ذلك الخطاب عبر حالة
التجريد التي أعتمدها المخرج " فراس المصري" و مصمم الديكور و الملابس
" أحمد عبد الله راشد" حاولا من خلال عملية التجريد تذويب أي أشارة
تاريخية يمكن أن تقوم بتثبيت الصراع الذي يطرحه العرض داخل مرحلة تاريخية بعينها
بهدف التأكيد على طرح النص و أفكاره . وأن كان العرض يميل أكثر لتأكيد العناصر
المؤكدة على الزمن المعاصر من خلال السلالم المعدنية و كشف مصادر الإضاءة و أختزال
الديكور لصالح فضاء محايد يغلف ويحيط بتلك العناصر التشكيلية القليلة .
ولكن هل يمكن أن يكون الصراع الذي يطرحه العرض على هذا
القدر من البساطة و الوضوح والحدة ؟!
بالطبع إن ذلك الخطاب الذي يتفجر به نص العرض طوال الوقت
عبر شخصيته الأساسية "زرياب" هو أكثر تعقيداً مما يبدو في ظاهره ، فخلف
ذلك الصراع العنيف و الواضح بين قيم التقدم و الرجعية تظهر بالعرض نتؤات شديد ة
البروز فزرياب يحمل إلي جانب خطابه التقدمي الكثير خطاب القوي التقليدية في
المجتمع العربي فهو يتنبي خطاب الأحياء وأبكائيات الفردوس المفقود "
الأندلس" التي يعرض التيار الديني و القومي التقليدي لضياعها كنموذج لأزمنة
الأنحدار و الإنحطاط .. أن زرياب يبحث عن أستعادة ذلك العالم السحري الذي يقدمه
الخطاب العربي و الأسلامي التقليدي زمن
الخلافة القوية و الممتدة عبر المكان و الثقافات الثانوية و التي
تبتلع كل تلك الخطابات .
أن تلك التناقضات الداخلية التي تشغل خطاب
"زرياب" يمكن أن تؤشر لنا على التحولات و التبدلات التي أصابت ذلك
الخطاب التقدمي عبر الزمن فهو من ناحية يتوجه نحو تحديث المجتمعات العربية
وأستعادة العناصر الثورية و التحررية التاريخية كنماذج مناهضة لكل ما تمثل تلك
الثقافة ، ومن ناحية أخرى يتبني مع عمليات الأستعادة لتلك النماذج التاريخية خطاب
أحيائي مناهض للمركزية الغربية و يطرح الذات في مقابل الأخر المختلف الذي ينتزع
الأندلس وقيادة التاريخ الأمر الذي يمثل الأزمة الأكثر عمقاً في ذلك الخطاب و يخلق
تناقضاته و ثغراته .
أن العرض ونصه يندفعان داخل تلك النتؤات فلا نجد سوى
حضور لتلك الذات العربية المسلمة و هي تتأمل ذاتها و تحاسبها في ظل عملية أزاحة
للإخر و نفيه خارجها .. ولعل ذلك ما يمكن دعمه من خلال العرض الذي ينطلق من فضاء
مضبب لا توجد به سوي شخصية وحيدة تهيمن على
ذلك الفضاء المنقطع عن العالم و المعزول الذي لا يزوره أحد .. شخصية وحيدة في حال
انتظار لزبائن و أصدقاء و ندماء لا يأتون أبداً ... وبالتالي فلا يحضر سوى صوتها
بل أن كافة الأصوات التي يتم أستحضارها لا تأتي إلا لتدعيم طرحها وتأكيده (بما في
ذلك شخصية الموصلي التي لا نرى منها سوى وجه الأستاذ الحاقد على تلميذه) ، أن
الشخصية الأساسية هنا لا تطرح لتناقضات أو لصراعات بين أصوات وخطابات مختلفة بقدر
ما تطرح صوتها الوحيد الذي لا يوجد غيره .على مستوي أخر فإننا نجد حضور لتلك
الهوية التي يتبناها العرض على مستوي الموسيقي و الغناء التي تعود للتراث الشعري
العربي و لألة العود التي تحتل موقعاً مركزياً في العرض والنص .
ونتيجة لكل ذلك فإن أرتفاع النبرة الخطابية في العرض
يبدو طبيعياً .. فصوت واحد يحاول تخطي أزماته و تناقضاته و عبورها هو أمر لا يمكن
أن يتحقق إلا عبر نفي الأخر و أرتفاع النبرة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق