في عام 1995 قدم العرض الأول لنص " في
أنتظارجودة" على خشبة المعهد العالي للفنون المسرحية للمخرج كمال عطية ومن
بطولة مجموعة كبيرة من طلبة المعهد العالي للفنون المسرحية في ذلك الوقت ، وبين أصوات
الضحك الصاخب التي كانت تهز قاعة مسرح المعهد العالي للفنون المسرحية أستطاع العرض
تقديم تصور ساخر ومتشائم تمكن من التماس مع أبناء ذلك الجيل (طلبة المعهد) من أبناء
التسعينيات الذين كانوا يعيشون في واقع يشبه إلى حد كبير واقع حال أهل المدينة في
نص " في أنتظار جودة" ، فالخلاص الفردي يمتلك تقدير وأحترام ، واليأس
المبدئي واقع حال ، و التشائم المعمم بعدم أمكانية التغيير - أو التبديل للواقع - بدا وكانه أزلي وأن اللحظة الزمنية المسماه
بالتسعينيات قد تم تثبيتها بشكل نهائي وغير قابل للمراجعة أو المفاوضة ..
كانت هي سمات ذلك الزمن ومنها - وعنها - خرج التصور المسرحي
الأول لنص " في أنتظار جودة " للكاتب "علاء عبد العزيز" ، ذلك
النص الذي لم ينجرف كمعظم نصوص التسعينيات في خطاب اليأس بل حاول التوقف و مطالعة
ملامح ذلك اليأس ومصادره و تقديم تصور ساخر و مدين للمجتمع وللخطاب الذي أنتج ذلك
اليأس المقيم ، حيث أستطاع النص في ذلك الوقت الإمساك بتلك السمات العامة للتسعينيات
في مصر عبر محاكاة ساخرة و عنيفة و قاسية لذلك الواقع الذي يعاني من العجز و الفشل
و اليأس من أمكانية التغيير ، ذلك الواقع الذي يبدو فيه المثقف/الحارس محض نسخة
مشوهة من ذلك العالم لا تملك سوى الدوران في حلقة مفرغة يصبح فيها حتى حديث حب محض استعادة شاحبة وفاشلة ومثيرة للشفقة و الإدانة الأخلاقية.
ولكن وبعد ما يقرب من العشرون عام يتم نشر نص " في
أنتظار جودة" من جديد ليشتبك مع واقع
شديد الإختلاف ، واقع غاضب وثائر منذ بداية الألفية ، واقع لم يعد للخمول اليائس -
المميز للتسعينيات- مكان ، ولعل تلك فرصة
مثالية للنص كي ما يعيد أختبار ذاته وقدراته على الإشتباك مع الواقع ، فمجتمع نص
" في أنتظار جودة" المصمت و المغلق والباحث عن الإستمرار و الإستقرار
بأي شكل و تحت أية شروط ، هو المجتمع الذي يقوم بتدجين القوى الأكثر حيوية و
أمتصاصها و إعادة تشكيلها لتتحول لحماية و تدعيم النظام الأجتماعي الذي لم يزل
قادراً على أيجاد تمثله في واقع الطبقة البرجوازية المصرية التي قادت الحراك
السياسي و المجتمعي الذي وصل لقمته في يناير 2011 من أجل إعادة صياغة النظام
وأستبعاد العناصر الأكثر ضغطاً و أفساداً لقدرة تلك الطبقة على التحرك بحرية و
بالتالي على أستقرارها ، تلك الطبقة التي أمتصت طاقة مجموعات ضخمة من الفئات
الإجتماعية الساخطة و الغاضبة قبلما تنقلب عليهم في رحلة بحثها المستمر عن
الأستقرار و تدعيم قواعد نظام يحمي مكتسباتها و يدفعها لمزيد من الهيمنة و النمو .
ربما يمكننا أن نجد في نص " في أنتظار جودة"
تمثل لواقع تلك الطبقة التي أصبحت تعاني من العجز على النمو ولذلك فهي تحافظ على
الإستمرار والأستقرار .
بالتأكيد فإن النص يمتلك بداخله الكثير من الإشارات التي
يمكن أن تقود نحو ذلك التفسير ، فالنص ينطلق من فرضية وجود مدينة معزولة تمتلك
لعنتها الخاصة الناتجة عن الإستبداد الذي يقود الملك لإغتصاب فتيات المدينة حتى
يحل دور أبنة وزيره (جودة) التي تلقى مصرعها وهي تغتصب بعدما تلقي بلعنتها على
المدينة ، لعنة فقدان الذكور لقدراتهم الجنسية ، وعلى مدار النص يتم أستعراض
مجموعة الإجراءات التي أتخذها أهل المدينة للحفاظ على المدينة من الفناء عبر
أستغلال الغرباء من عابري السبيل كفحول تلقيح لنساء المدينة قبلما يتم تخيرهم بين
الموت أو الشرب من ماء البئر و التحول إلى عاجزين جنسياً ، وفي المقابل فإن النص
يستعرض عمليات القمع التاريخي التي قضت على أي أمكانية للتمرد أو الإفلات من مصير
العجز .
إن النص (كما يبدو هنا) يعرض لمجتمع تحول الإستبداد السياسي فيه
من عملية فرض هيمنة على المجتمع لصالح الدولة و الطبقة المهيمنة إلى عملية تدمير
لنمو المجتمع و تتطوره وبالتالي الحفاظ عليه في حده الأدنى عبر أستغلال عناصر
تمتلك تحرر نسبي ومن ثم أخضاعها لمكينة القمع والقضاء عليها وهو ما يعكس في مستوى
ما واقع الطبقة المهيمنة في مصر و نظامها الأجتماعي و السياسي و الأقتصادي الذي يعبر عن مصالحها ويخضع المجتمع و الفئات و
الشرائح التقدمية فيه لخدمة مصالحها عبر أشاعة اليأس لتحقيق الإستقرار .
أن النص يحقق ذلك من خلال دراما تتحرك بين ثلاث مستويات
من الخطاب الأول منها، وهو خطاب الفردية الذي يمثله الغريب الهارب من القمع في
مدينته و الذي يظن أن بإمكانه تحقيق النجاح و الصعود الطبقي بشكل فردي وهو الخطاب
الذي يتم تنميته وأستغلاله حتى يتم أستنزاف ذلك الفرد و القضاء عليه و أنتزاع
أنسانيته ، أما المستوى الثاني فهو خطاب اليأس الذي يمثله الحارس/ الشاعر الذي يتم
قمعه وتحويله لحارس لنظام المدينة و أسوارها ، و أخيراً خطاب السلطة المهيمنة الذي
يقوم على دعم أستقرار النظام القمعي المحافظ على العجز الجنسي للرجال لحماية ذاته
.
إن ذلك الخطاب السلطوي الذي يقدمه النص هنا يتم مناهضته
على مدار النص من خلال الكوميديا و التنميط و الإدانة الأخلاقية لصالح خطاب بديل
لا يوجد بالنص ما يدعمه على مستوى الشخصيات سوى الجوقة المقموعة التي تظهر بين
الحين و الآخر لتقدم تعليق حول الحدث وأن كانت الجوقة ذاتها لا تنجو من عمليات
القمع لدرجة تعرض قائد الجوقة للصفع من قبل الوزير .
إن ذلك الخطاب المدين للقمع ينمو على مدار النص عبر
الكوميديا و الأشعار التي يلقيها الحارس كما ينمو عبر الأستعراض الوحيد الموجود
بالنص ، لكن النص لا يكتفي بعمليات التأكيد لذلك الخطاب فحسب بل أنه يحاول أن
يدمج بين الفضاء الخاص بالمدينة الخيالية و صالة المتفرجين (المفترضة ) من خلال الجوقة
التي تخترق صالة المتفرجين في بداية النص لتقدم المدينة ثم تنسحب عبر الصالة في
نهاية النص ، وهو ما يكشف عن محاولة لدفع المتلقي للربط بين عالم المدينة و عالمه
.
أن كل ذلك ربما يكشف عن طموح النص للتواصل مع واقع
المتلقي و دفعه لإدراك واقعه كإمتداد لذلك الواقع المشوه و المحكوم بالعجز و
الفناء لكن النص من ناحية أخرى لا يستثمر كافة تلك التقنيات التي يقوم بإستغلالها
لطرح البديل عبر خطاب مباشر أو حتى غير مباشر بل يتوقف عند تفنيد الخطاب المهيمن و
تمزيقه ولعل ذلك هو ما يربط بين "في أنتظار جودة" التي تقدم للقارئ
اليوم في عام 2016 و " في أنتظار جودة " التي قدمت على خشبة المعهد
العالي للفنون المسرحية قبل عشرون عاماً إنه اليأس من ايجاد البديل وعدم التيقن من
أمكانية التغيير ، فعلى العكس من نصوص المسرح المصري في الستينيات التي كانت تلجأ
لإنتظار الخلاص و الإصلاح من المخلص أو السلطان أو البطل .. الخ فإن المخلص هنا
غير موجود حتى لو أنتظره الجميع في شخص جودة .
عند ذلك الحد ربما يمكننا أن نعود من جديد لعنوان النص
الذي يستدعي إلى الذهن نص شهير ومؤسس للمسرح الغربي في القرن العشرين وهو نص
" في أنتظار جودو" لبيكت والذي أعتمد النص عليه في تخليق خطابه فالمخلص
المنتظر لن يأتي والإنتظار للخلاص الأبدي و العبثي يتحول من جزء في عملية الإنتقال بين أوضاع إلى وضع ثابت
ونهائي ، ولكن مع التقدم خطوة أخرى فإذا كان جودو بيكيت يحمل سمات ميتافيزيقية –
حسب بعض التفسيرات – تجعل من وجوده وموعد ومكان حضوره محل جدل بين فلاديمير و
أسترجون في نص بيكت ، ولكن جودة في نص علاء عبد العزيز لن يأتي بفعل الزمن و الأحداث
(حيث يصل الأمر إلى تصريح بأنه قد قتل من قبل سكان المدينة) وبالتالي فإن أنتظاره
هنا يعكس توجه النص إلى فقدان تلك المدينة لأي أمكانية مستقبلية في الخلاص حتى ولو
عبر الإعتراف بموته .
في النهاية فإن نص " في أنتظار جودة " يظل أحد
النصوص التي تعكس رؤية جيل كامل من المسرحيين المصريين لواقعهم ، جيل ربما لم يكتب
له الإفلات من قبضة اليأس و العدمية حتى اليوم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق