الأربعاء، مايو 04، 2016

إن بوكس .. ثورة مهزومة ومجتمع عاجز

خلال خمس سنوات مضطربة ومشحونة بالأحداث العنيفة والملهمة غامت الطرق التقليدية التي أعتاد المسرح المصري أن يسلكها فصار يتحسس خطواته بقلق و توجس و حيرة .. فتارة ينجرف عرض صوب فرح رومانسي بقطيعة مع الماضي ورفض و أدانة لكل ما يمثله ذلك الماضي في أنقلاب على خطاب اليأس الناعم الذي ساد التسعينيات، وتارة أخرى ينسحب صوب الماضي ويحاسب الثورة (بأسم الدين أوبأسم الوطنية) كفعل تخريبي يستهدف كل ما نملك ويلقي بنا في أرض الفوضي أو المجهول ، وتارة ثالثة كان المسرح يلجاء إلي الهروب الواعي من مواجهة الواقع أو مسألته أو حتى أتخاذ موقف منه وذلك عبر أغماض الأعين عن ما يجري بالشارع على بعد خطوات من دور العرض المسرحي كما لو أن ذلك ممكنا .. في النهاية ظل المسرح المصري يتحسس خطواته وسط صخب الأحداث وعنفها محاولاً أستيعاب المتغيرات الكبري و الحادة و فهمها و أتخاذ موقف منها وهو ما لم يكن بالأمر الهين .
مع الوقت بدأ المسرح – كما هو حال المجتمع ككل – في تخطي الحدث ذاته صوب رصد نتائجه وأثاره على المجتمع وأفراده ولعل عرض " أن بوكس"  للمخرج جلال عثمان و المؤلف د. سامح مهران و الذي يقدم حالياً على خشبة مسرح الغد نموذج متقدم لذلك المسرح الذي يحاول الوقوف بعيداً عن الحدث (الثورة) كحدث حاضر ، حيث يتعامل العرض معها طوال الوقت كجزء من ماضي يثقل الذاكرة ولا يمكن التخلص منه أو أستعادته   .. (فالثورة / صلاح / نائل على) قد قتلت وصارت غير قادرة على الحضور إلا كجزء من ماض يتم أستدعائه ليلقي خطاب الهزيمة و الأحلام المغدورة ، بينما يظل الواقع (منايا و دوايا /عبد الرحيم حسن و إيمان أمام) هم واقع و مستقبل الوطن بكل ما يحملون من تشوهات و ما يعبرون عنه من عجز و فقدان للقدرة على التواصل إلا عبر واقع إفتراضي وبشخصيات مستعارة تفشل المرة تلو المرة في منحهم الخلاص وتكشف عن عجز كامل و يأس بلا حدود .
لعل ذلك التصور المتشائم يقدمه العرض يمثل رد فعل شديد العنف على التفائل الرومانسي الذي ساد القوى و الشرائح الاجتماعية التقدمية بالمجتمع المصري تلك القوى التي ظنت لبرهة أن من الممكن خلق قطيعة مع الماضي و تجاوزه مرة واحدة وللإبد، فالعرض يطرح تصور شديد التشاؤم حول أمكانية التغيير فالشباب يموتون و يبقي العجائز ، الحيوية تذوي و يبقي الخمول ، الأستقرار ينهار ويبقي التأرجح ، الحرية تختفي و يبقي الأحتجاز الدائم و النهائي .. أنها عمليه تكشف للإنهيار الكبير والشامل لكل ما كانت تعد به الثورة الطبقة الوسطي المصرية حيث يقدم العرض لعالم نقيض وفاشل وعقيم .. بل أن العرض يصل إلي حد التأكيد على الإرتداد و الإنقلاب على كل ما تمثله الثورة من خلال عودة الزمن للخلف (من خلال الساعة / وفاء السيد) التي تسخر و تكشف عن الخواء و القلق الذي يسود عالم مهزوم يمثل كل ما يناقض الثورة و خطابها.
 ولعل ذلك ما حاول المخرج ومصمم الديكور(رامة فاروق) التأكيد عليه عبر أغلاق الفضاء المسرحي و محاصرته  بكتل ضخمه وغير منسجمة في خلفية المسرح ، وكذلك عبر اللوحات الموزعة في فضاء المسرح والتي تصور أجساد متداخلة و مجردة  .. وأخيراً عبر تلك تلك التجريدات البشرية المفرغة التي تهبط من أعلى المسرح لتحاصر فضاء الأداء .. حيث يسهم كل ذلك – بالإضافة للسرير الأرجوحة بتأرجحهم وعدم ثباتهم – في خلق فضاء محاصر بشكل مضاعف ففي المستوي الأول تحاصر شخصية الزوج / عبد الرحيم حسن عالمها بفعل الخوف والعجز وفي المستوي الثاني يحاصر الماضي ما تبقي من الواقع بالإدانة الأخلاقية لإبتذاله وسقوطه .
أن تلك الإدانة و القوية للواقع يمكن أن نجد تمثلها في نص العرض في عملية أسطرة الثورة كحدث فارق و متفوق أخلاقياً وثقافياً على الواقع الذي يمتلك في المقابل خشونة و تدني و عنف حيث يتجسد ذلك بشكل أساسي في مستويان اللغة داخل العرض... ولعل ذلك ما يمكن رصده بشكل واضح من خلال الأداء المسرحي حيث نجد أن المخرج ومجموعة الممثلين قاموا بعملية تقسيم أدائي شديدة الوضوح بين مستوي الواقع الذي يسوده قدر من الصخب و الحركة و الأهتزاز و السخرية من الشخصيات و عالمها عبر تشويهها (الزوج /الزوجة / الساعة) وبين مستوي الماضي المستعاد الذي يتسم أدائياً بالثبات و الأنفعالات القوية و بل والخطابية في بعض الأحيان (صلاح /أمل).. أن ذلك ينكشف أيضاً من خلال ميل الأداء بالمستوي الواقعي إلي التداخل مع الجمهور في بعض الأحيان و التواصل معهم بل و أشراكهم ومشاركتهم الضحك والسخرية و الأدانة في مقابل الطبيعة الخطابية والحماسية التي سادت أداء (نائل على/صلاح) . ولكن تبقي التحولات الأدائية (لإيمان أمام) بين الإنفعال القوي و المغرق في العاطفية في مشاهد الماضي المستعاد و الأداء الجسدي والصوتي القوي و الصاخب و المؤكد على حالة الأفتعال في مستوي الواقع هي  ما يجسد التوجهات الأدائية بالعرض التي تميل إلي التأكيد على رسوخ وصلابة و أنسانية عالم الثورة المغدور في مقابل هشاشة و التقنع الدائم و أنعدام الملامح الإنسانية في مقابل سيطرة للجسد في عالم ما بعد الثورة.
إن عرض (إن بوكس) يرصد لتحول في رؤية الطبقة الوسطي المصرية لواقعها حيث لم يعد من الممكن العودة للتمحور حول الذات وأدانة العالم كما كان الحال في التسعينيات أو تعليق خطابات الإدانة القوية والعنيفة ضد السلطة و المجتمع .. في صورة ياس عميق وقاس ينتقم مع الواقع عبر تسفيهه و أدانته بشكل مستمر.

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...