ربما كانت الأغنية
الختامية لعرض جميلة - الذي قدمته فرقة
مسرح الغد للمخرجة والمؤلفة مروة رضوان – هي أكثر ما يثير الإنتباه بالعرض ، حيث تأتي
ذلك الأغنية كبيان تبريري و دفاعي ضد كل الملاحظات النقدية المحتملة وحول خفة
موضوع العرض و ميله للبحث عن أثارة ضحك المتفرجين من خلال كوميديا الصفعات و
المفارقات اللغوية .. الخ .
أن تلك الأغنية الختامية
التي تتحدث عن أعادة المسرح للجمهور و المواضيع البسيطة كالكوميديا العاطفية ..
الخ ربما يمكن دراستها في حد ذاتها بمعزل عن العرض و ما يثيره من قضايا . فهنا نجد
تصور لمسرح يتباهي بخفته و سطحية أفكاره و أطروحاته وأنعدام جديته في التعامل مع
ما يعالج من قضايا عبر القفز على كل ذلك و محاولة المجادلة (من جديد !!) بقضية
أنتهت تاريخياً وهي هل الفن للمتعة وأزاحة هموم الحياة أم أن الفن يقوم بطرح الأفكار و التصورات حول العالم و مناقشتها
. وبالتالي الخروج من تلك المجادلة السريعة و المعتمدة على مقولات جهازة (بحكم
طبيعة الأغنية بالتأكيد)إلي أن المتفرج هدف صعب لا يمكن أجتذابه إلا عبر المرح
والنهايات السعيدة كما لو أن النهاية السعيدة ليست موقفاً من العالم وليست تعبيراً
عن رؤية طبقة أو جماعة أو فئة للعالم ..
إن تلك المجادلة السريعة
حول النهايات السعيد و دور المسرح و دور الفنان .. الخ تكشف أولاً عن قلق حقيقي
لدي مبدعي العرض (وفي مقدمتهم المخرجة والمؤلفة بالتأكيد) من حضور لذلك المتفرج
المزعج الذي يمتلك حس نقدي لاذع ورافض لما يمثله العرض وما يقدم له من أفكار..
ولذلك فإن العرض يندفع إلي تقديم مجموع دفاعاته و محاولة استمالة المتفرج العادي إلي
جانبه في نهاية العرض في مواجهة ذلك المتفرج الناقد الذي لا يحب النهايات السعيدة
كما يقدمها العرض .. على أمل النجاح في تحيد ذلك الناقد إن لم يكن أكتسابه عبر ذلك
الخطاب المفتوح حول دور الفن و هدف العرض .
ولكن هل يمكن فعلاً قطع
كل الروابط الواصلة بين تلك الأغنية (الخطاب الختامي للعرض) و موضوع العرض الذي
يقدم لعملية ترويض و إعادة إستيعاب لأنثي مجروحة عاطفياً لداخل النظام الأجتماعي الذكوري في مستوي أول ،
ولداخل النظام الاجتماعي للطبقة الوسطي المصرية في المستوي الثاني ؟
بالتأكيد لا يمكن أن نجد
روابط مباشرة بين موضوع العرض والأغنية على المستوى المباشر .. ولكن وفي المستوي الأكثر عمقاً ربما تبدو تلك
الخاتمة المحتفيه بالنهاية السعيدة لعملية إعادة "تدجين" شخصية جميلة و
إعادتها للنظام الاجتماعي هي جزء من عملية أخفاء و تجميل تلك الأزمات التي أنتجها
(أو أكتشفها) العرض وهو في طور تقدمه ..
فمنذ البداية نحن أمام عالم يفتقد للمعقولية أو المنطق والأخلاق (للحد الذي تظهر
فيه عملية التجسس على خصوصيات الأخرين و تركيب كاميرات مراقبة في غرف نوم جميلة كشيء
يمكن التغاضي عنه أخلاقياً ) ، عالم يفتقد للإتساق للحد الذي تتم فيه السخرية من
مؤسسة الزواج و التأكيد على أهميتها في ذات الوقت من خلال أستعراض ، عالم متناقض
يحتفي بالقمع و بهيمنة الذكور و بالموسيقي الصاخبة و العنف لكنه ومن ناحية أخرى
يمارس رقابة داخلية على ذاته عبر حذف السباب الذي توجهه شخصية جميلة و أستبداله
مؤثر صوتي .
أن كل تلك التناقضات
الداخلية التي ذكرناها ربما لم يكن من الممكن أن تستقر بهدوء في تلك النهاية
التصالحية مع العالم لو لم يستكمل العرض ذاته بذلك الخطاب الدفاعي الذي يحول كل
تلك التناقضات إلي جزء من خطة كبرى تنطلق من رحلة مشروعة لدى مجموعة من الفنانين
للبحث عن البهجة وسط عالم شديد القتامة ولتخليص الفن المسرحي من أرتباطاته التي
أدت لتخلي الجمهور عنه.
ربما ينقلنا ذلك كله إلي
عالم أكثر أتساعاً و بعداً عن عالم عرض جميلة بكل ما يميزه من براءة مفتعلة في
مواجهة العالم ، فعرض جميلة يمكن أن نصفه في مستوي أعمق بأنه صوت لطبقة مأزومة
تعاني من تحطم عالمها و تفسخه و لا تجد من حلول سوى الهرب على مستوى الدراما إلي عالم
الكمبوند (أو المنتجع السكني) بكل ما
يميزه من أمن و هدوء و أنفصال عن الواقع ، وبدخل ذلك الهروب الأول يهرب العرض (مع
متفرجه المثالي) من جديد عبر أفتعال قضية
لا تهتم بها حقاً فالعرض لا يهتم بشخصية (جميلة/ وفاء قمر) أو ازمتها أو ما تعبر
عنه من فقدان للأمان والثقة بالعالم.. الخ ، بل أن العرض على العكس يقدم حالة
القلق التي تعاني منها تلك الشخصية كشذوذ عن العالم المتسق بينما يتحمل إعادتها
إلي الواقع (عابد/مصطفى عبد السلام) .
ولكن هل يكتفي العرض
(والطبقة التي تتحدث عبره) بذلك الهروب داخل الدارما إلي عالم مستقر ؟ بالتأكيد لا
فالنهاية السعيدة و أختفاء كل منغصات الواقع و تهديداته و مخاطره شرط أساسي
لإستكمال الخدعة الكبري التي تمارسها تلك الطبقة عبر ذلك النوع من العروض التي
تمثل في أفضل أحوالها تجسيد لحنين مرضي لماضي (نوستالجيا) ذلك الشكل الفني
(المسرح) حينما كانت تلك الطبقة لم تزل تمتلك الطموح و القوة على التصالح مع
أخطائها في سبيل النمو و الأنتصار.
في النهاية فإن هناك من
لا يحب النهاية السعيدة لعرض جميلة .. ليس لكأبة أصيلة في تكوينه .. أو لميل لشكل
فني أو أتجاه مسرحي بعينه ، لكن كراهية لكل ما تمثله تلك النهاية السعيدة من
مخادعة و هروب بالضحك من مواجهة الواقع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق