على هامش الدورة الثانية والثلاثون من أيام الشارقة المسرحية
قدم المخرج يوسف المغني عرضه "فشل عرض مسرحي" الذي يستند لمجموعة من نصوص
الدرامية للكاتب الروسي دانيال خارمس الذي يعد أحد
رموز الحركة الطليعية في روسيا السوفيتية خلال النصف الأول من القرن العشرين،
والذي تأخر اكتشافه نتيجة تعرض أعماله للمصادرة والمنع أثناء حياته وبعد وفاته من
قبل السلطات السوفيتية، قبلما يعاد اكتشافه بشكل تدريجي في أوروبا الغربية التي
وصف بعض نقادها تجاربه المسرحية بأنها البشائر الأولي لمسرح العبث، وهو وصف يمكن
أن يتخذ كقاعدة انطلاق أولي في محاولة التواصل مع العرض الذي يناهض بشكل واضح أي
إمكانية لبناء حبكة درامية، أو حتى نمو لملامح شخصيات، أو تشكل ملامح حدث مركزي، حيث
يطفو المؤدين الأربعة فوق سطح من السيولة الدائمة التي تذيب أي أمكانية لتحديد
بنية علاقات أو ارتباطات بالفضاء أو حتى استغلال للتشكيل السينوغرافي الذي يشغل
خلفية المسرح والمكون من سلالم تكسوها قطع ملابس والذي قد يوحي في بداية العرض بأن
موقعه المركزي في فضاء الأداء يؤهله للقيم بدور في بناء العرض لكن المخرج لم ينشغل
كثيرا بتخليق حضور لذلك التكوين في بناء العرض بل أكتفى بأن يصبح مجرد خلفية يطغى
حضورها الثقيل دون قيمه فعلية في بناء العرض إذا ما قمنا باستثناء الدور الجمالي
المحدود .
أن
تلك السمات التكنيكية الخاصة بالمسارح الطليعية التي ينتمي إليها الكاتب بدت حاضره
في العرض بوضوح ، لكن من ناحية أخرى فإن المخرج ورغم توفر تلك السمات لم يقم
بتطويرها بل تخطاها نحو عملية إزاحة وإرجاء دائمة لأي أمكانية لتطويرها حيث جنح العرض
منذ بدايته نحو التأكيد على حضور المخرج / السارد / المعلق بوصفه صانع ذلك العالم
ومخلقه الذي يحاول التواصل مع المتفرجين رغم إدراكه لصعوبة ذلك التواصل، وهو ما
يؤطر حالة السيولة ويخلق مرجعية مهيمنة على العرض تحافظ على حضورها حتى مشهد النهاية
الذي يظهر فيه المخرج/ الصانع/العازف بذاته جالسا في الصالة – وظهره للجمهور - أسفل
خشبة المسرح ليؤكد من جديد عبر تعليقه على أن بناء المعني يرتبط بإدراك دوره
وموقعه بوصفه صانع لتلك الفوضى التي تحاول البحث عن انتظام وتواصل مع الاخر.
إن
ذلك الحضور المركزي لشخصية المخرج (بملامحه الرومانسية والتعبيرية) ربما كان هو نقطة
الارتكاز الأساسية بالنسبة للعرض الذي يحاول رؤية وتأمل ذاته بداية من عنوانه الذي
يحدد سعيه بالفشل بشكل مسبق، مرورا باللجوء لتقنيات المسرحة سواء عبر حضور المؤدين
فوق خشبة المسرح قبل بداية العرض ومشاركة المتفرج لمرحلة الاستعداد، ونهاية بحضور
العازفين وحضور المخرج والتعليق الغنائي.
أن
ذلك السعي لتأمل حالة فشل التواصل ربما يحيلنا من جديد للوصف النقدي لمسرح خارمس
بأنه من بشائر مسرح العبث لكنه أيضا يؤشر بذات القدر على المعضلة الأساسية التي
واجهت العرض وهي أنه أنجرف خلف رؤية عاطفية ترى عدم القدرة على التواصل مع المتلقي
بوصفها قدر محتم، وأستجاب لها، ومن ثم لم يدفع بذلك الطموح التأملي نحو رؤية فشل
التواصل بوصفه جزء من أزمة المجتمع الحديث، وعلى مستوى أخر لم تسهم تقنيات المسرحة
في خلخلة الفراغ بين فضاء الأداء وفضاء التلقي لتحقق مشاركة جماعية في الحالة
المسرحية بل انكفاء العرض على ذاته وغرق بشكل أكبر في غربته وإدراكه لفشله في
التواصل الذي لم يقطعه سوى التعليق الغنائي وبعض التكوينات البصرية التي قام
بتشكيلها المؤدين مثل تكوين الساعة التي تتحرك عقاربها في الاتجاه المعاكس .
لكن
لنعد من جديد لما يحاول العرض رؤيته عبر مجموعة المؤدين الذي يرتدون ملابس سوداء
محايدة وتحركون في مساحة أداء محدودة وفي تقاطعات دائمة وتشكيلات جماعية وثنائية
سريعا ما تتبدد أمام جمل مبتورة حول الإنسان، والحب، والكتابة، والفن بوصفهم
محاولات للتواصل غير المتحقق، إن العرض لا يرى حضور لذوات بقدر ما يقدم أصوات
داخلية تتقاطع وتفشل في التحرر، وهو ما يجعل من حضور الأداء الجسدي والصوتي عنصر
حاسم في العرض لكنه أصطدم بأزمة أخرى واجهت العرض هي افتقار المؤدين للإمكانات
الأدائية الكافية لمثل ذلك النوع من المسرح الذي يفترض أن المؤدي هو مجرد صوت مجرد
لا يقدم ما يتجاوز ذاته ولا يستهدف سوى التأكيد على تحطم محاولته في التواصل.
ان
العرض وعلى خلاف الخيارات المبدئية التي قام عليها تورط في الأزمة التي يحاول
معالجتها وتأملها، أو لنقل بشكل أكثر تحديدا أنه لم يطور تلك المساحة تشاركية مع
المتلقي بل تركه في حال مطاردة طوال الوقت لشظايا الحكايات والجمل المبتورة بحثا
عما يقيم مداخل للتواصل مع العرض المغلق على ذاته وعلى المعني الذي يفترض أنه
موجود داخل عقل المخرج/ السارد الساعي للتحرر عبر التواصل عبر الموسيقي والصورة
المسرحية، لكن حتى تلك المحاولة تعرضت للتعثر نتيجة مشكلات تقنية مثل طغيان
الموسيقى في بعض الأحيان على أصوات المؤدين أو الانجذاب لتقنيات الإضاءة بوصفها
البديل الجمالي لمحدودية التشكيل السينوغرافي. لكن في النهاية وبرغم تلك التعثرات
التقنية لكن يبقي للعرض والمخرج ذلك الطموح الكبير لبناء عالم مسرحي أكثر تعقيدا
وتفردا والجرأة على تجاوز الجماليات التقليدية والقفز نحو المجهول ومحاولة استكشاف
وتجريب مساحات مختلفة جماليا لتجاوز فشل التواصل عبر المسرح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق