بالليلة
السادسة من ليالي مهرجان أيام الشارقة المسرحية بدورته الثانية والثلاثون وعلى
خشبة مسرح قصر الثقافة بالشارقة قدمت فرقة مسرح ياس بالتعاون مع المخرج والمؤلف
محمد صالح السيدى عرض ترنيمة، الذي ينطلق من أفق مناهض ومحذر من هيمنة الأخر ثقافيًا
وسياسيًا للمجتمع وتهديده الوجودي للهوية القومية والدينية، وهي قضية محورية
وتقليدية تناولها المسرح العربي بتنويعات مختلفة في كافة مراحله التاريخية، وهو ما
يعود بالتأكيد لكونها قضية ظلت وبشكل استثنائي ملحه وحاضرة نتيجة المسارات التي سلكتها
المنطقة العربية، قضية تجلت بصيغ مختلفة بداية خلال مرحلة الصراع ومن ثم التحرر من
الاستعمار مرورا ببناء الدولة الوطنية والصدامات الكبرى بين التيارات الاجتماعية
المحافظة والمنفتحة بل وحتى عند تناول قضية الصراع العربي الإسرائيلي، ظلت دائمًا
العلاقة مع الأخر شاغل المسرحيين العرب بمختلف توجهاتهم واختلافاتهم الأيديولوجية،
حيث دائمًا ما شكل ذلك التهديد المستمر والمتواصل لتوغل المستعمر وممارسته داخل
المجتمعات العربية هاجس مؤرق وتهديد للهوية والحرية والثقافة والمعتقد.
من
تلك الأرضية ينطلق عرض ترنيمة الذي تتوافق طبيعته بشكل كبير مع عنوانه من لحظة
الصفاء والاستقرار التي تدفع المتفرج لمراقبتها منذ دخوله إلى قاعة العرض قبل تبديد
ذلك مع اقتحام الغزاة للفضاء المسرحي وسيطرتهم على ذلك العالم ليتابع العرض وحتى
نهايته عمليات التدمير المتصاعدة لذلك المجتمع من قبل الغزاة عبر عدد من اللوحات
التي تتنوع بين العذابات التي يلاقيها المقاومين وحالات الانسحاق أمام الغزاة
ليتحول العرض لمرثية بكائية على انهيار العالم وفقدانه لهويته في ظل سيطرة خطاب
وحيد ومستمر ومتكرر يؤكد ويحذر ويحرض ضد تلك الهيمنة لصالح استعادة الهوية ومقاومة
الأخر/الغازي الذي يشارك خطابه التأمري في دعم الخطاب العام للعرض. إن ذلك المسار
الذي سلكه العرض بطبيعته الغنائية ربما يبرر عنوانه (ترنيمة) حتى وإن كان أقرب للمرثية
منه للترنم الديني الذي يرتبط التكرار فيه بمسار العلاقة بين الإنسان والرب،
فالعرض وعلى خلاف ذلك المسار المميز للترنيم أعتمد التكرار والتفريعات لتأكيد
الحالة الرثائية للذات المهزومة أمام قوة غاشمة لا سبيل لمواجهتها سوى بالنشيج
والصراخ.
بالطبع
فإن ذلك المسار الذي سلكه العرض نفى أي حالة تفاوضية أو تطوير لصراع محدد المعالم
بين قوى المقاومة وقوى الهيمنة، فالغزاة ومنذ دخولهم إلى ذلك العالم يحققون انتصار
سريع ويقومون بعملية امتصاص متسارعة للمجتمع ولا يبقى طوال العرض سوى توابع الهزيمة
والانسحاق، الأمر الذي حصر ذلك العالم في مونولوجات طويلة ولغة شاعرية تدور في فلك
الهزيمة ولا يقطعها سوى الوعد الأخير من الجوقة بأن هناك وقت سوف تنجح فيه تلك
المقاومة ويتم إنقاذ الأخت في إشارة للرواية التاريخية للمرأة التي استنجدت
بالخليفة المعتصم في زمن الخلافة العباسية.
في
مقابل ذلك الصوت الوحيد والملتف حول ذاته حاول المخرج خلخلة تلك المرثية عبر
الصورة المسرحية التي بدت أكثر ثراء في مقابل أحادية الخطاب وذلك على مستوى عمليات
التشكيل السينوغرافي التي بدت أكثر حيوية وفاعلية سواء عبر المنصة المتحركة (ذات
المستويان) التي قام باستغلالها في إعادة تشكيل الفضاء بشكل دائم خلال اللوحات
المتتالية عبر موقعها داخل الفضاء، وكذلك عبر العلاقة التي تتشكل بين المستوى
العلوي منها والفضاء المسرحي واستغلالهما كمواقع أدائية تعكس سيطرة الغزاة على
العالم وهيمنتهم عليه، وعلى مستوى أخر حاول المخرج إضفاء طابع لوني أكثر ثراء لذلك
الفضاء المحايد والمتقشف عبر الإضاءة التي تنوعت مصادرها من الكشافات اليدوية
والشرائط المضيئة وحتى وحدات الإضاءة والطبيعة اللونية الغنية للإضاءة .
لكن
ذلك الطموح الذي بدا واضحًا على مستوى عمليات التشكيل السينوغرافي ظل محاصرًا ضمن حدود
ضيقة ومحاصرة نتيجة تضافر مجموعة من العوامل في مقدمتها الضغط المستمر للطبيعة
الرثائية للعرض والتي تجلت في الأداء التمثيلي للممثلين بالعرض حيث أنجذب المؤدين
بشكل عام لغواية صوتيات اللغة الشاعرية مما أضفى طابع خطابي على الأداء، وبالمقابل
فإن نص العرض وفر قاعدة لتنامي البكائيات الصارخة والرثاء وعمليات التنميط
المحدودة الأفق والمحاصرة بين أشرار وأخيار يتبادلون المونولوجات ضمن خطاب مقاوم
محافظ يرى في أي تفاعل مع الآخر هو انسحاق وهزيمة وزعزعة للنظام الاجتماعي
والسياسي والديني والثقافي
بل والجندري .
وأخيرًا ظلت عمليات تشكيل الحركة المسرحية أو الميزانسين
-ورغم المحاولات الدائمة لإضفاء طابع حيوي ومتنوع ودال عبرها- مقيدة بالحدود
الضيقة للعلاقة بين كتلتين الأولى هو المجتمع المهزوم والأخرى للغزاة، ربما لم ينج
من ذلك القيد سوى خطوط الحركة التي صممها المخرج خارج حدود مساحة الأداء المحددة
بالحبال الساقطة رأسيا والتي أضفت طابع من العمق وخلقت مستوى مختلف للفضاء لكن ذلك
المستوى ظل محاصرًا بالإبهام وعدم الوضوح والاكتمال.
في النهاية ربما ما يخلفه عرض ترنيمة من أسئلة متعلقة
بالوعي الذي أنتج ذلك العرض (وما شابه من عروض مسرحية) هو أهم ما يخلفه، فذلك
الشعور المأساوي بالعالم ربما يعكس أزمة المجتمعات العربية (بشكل عام) في ظل عالم
يزداد تقلصًا للحد الذي تصبح فيه أي محاولة للعزلة أو المحافظة على عوالم ثقافية
مغلقة أمرًا شديد الصعوبة. عالم يبدو لعرض (ترنيمة) هو الجحيم بذاته لكنه لا يملك
في مواجهته سوى المقاومة السلبية والحلم بمعجزة تعيد العالم للحظة كان فيها أكثر
أتساقًا وتناغمًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق