قبل
زمن طويل وفي إطار عمليات التحديث وبناء الدولة المصرية الحديثة خلال القرن التاسع
عشر أصدر رفاعة الطهطاوي أحد أهم الكتابات الأساسية في بناء المجتمع والدولة وهو
كتاب “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” حيث تحدث فيه عن المسارح بوصفها أحد أهم
أشكال الترفيه التي تقوم بأدوار أجتماعية وتثقيفية وأخلاقية داخل المجتمع الفرنسي
وتناول في ذلك الإطار عدد من القضايا في مقدمتها أزمة ترجمة ألفاظ “التياتر ،
والسبكتاكل” التي لم يكن لها مقابل معروف في اللغة العربية لديه بما يكشف عن عدم
وجود خبرة جمالية أو معرفية موازية يمكن أستخدام علامتها اللغوية لتسكين “التياتر”
فيها داخل اللغة العربية ، ومن ناحية أخرى قام بعقد مقارنة بين الممثلين الفرنسين
والعوالم الذين بدوا له أقرب المهن قرباً من مهنة الممثل وأن كان بالطبع ينحاز
للممثلين الفرنسيين لما يتميزوا به من ثقافة في مقابل العوالم كما قدم تعريف محدد
للفن المسرحي حسب رؤيته يذهب فيه إلي أن “التياتر” مكان “يلعب فيها تقليد سائر ما
وقع ، وفي الحقيقة أن هذه الألعاب هي جد في صورة هزل”
أن
ذلك التعريف المبكر والذي يظهر في أحد المصادر الأساسية لبناء دولة الحداثة
الأوربية يقدم الفن المسرحي للقارئ المصري على أنه عمل جاد يتلبس صورة اللعب
والهزل وقبل ذلك فإنه يعرف الدراما التي يتم تقديمها بأنها تقليد سائر ما وقع أي
إعادة تجسيد لوقائع تاريخية وهو تعرف يقترب من التصورات العربية التقليدية حول
السرد والحكي وفصول ونمر خيال الظل والعروض التقليدية التي كانت تقدم ذاتها على
أنها رواية لوقائع حقيقية تنتمي للتاريخ.
أن
ذلك التعريف المبكر يكشف عن الطريقة التي عرف بها المسرح (بصورته الغربية) في مصر
وهي في زمن تشكيل الدولة الحديثة ، فالمسرح تم تقديمه بوصفه جزء من عمليات التنمية
التي تقوم بها الدولة للمجتمع وأحد أوجه الحداثة ودليل على حضور الدولة القومية
الحديثة ، أنه عمل جاد يستخدم الترفيه لتحقيق غايات أخلاقية و سياسية واجتماعية ،
كما أنه وقبل كل ذلك إعادة تجسيد للواقع وتقديم له .
من
هنا صارت الدراما التاريخية الصريحة (أو التي تتلبس ثوب التاريخ) جزء أساسي من
حركة المسرح المصري – والعربي بشكل عام – حيث تمت عمليات أستدعاء للتاريخ طوال
الوقت، لكنه بالتأكيد ليس أي تاريخ، بل المراحل الأقل قلقاً والأكثر تعبيراً عن
تصورات الهوية الذاتية للدولة وللقوى المهيمنة اجتماعيا.
أن
محاولة الاقتراب من العقل الذي أنتج عمليات الاختيار ودفع بتلك اللحظات التاريخية
إلى البروز والعودة من جديد إلى الحياة ربما يكون من الأمور يمكن أن يكون التوقف
أمامها كاشفاً عن الكثير من الآليات والأساليب التي تمت عبرها بناء صورة الدولة
المصرية عبر الكثير من العروض والنصوص المسرحية التي تناولت فترات تاريخية سابقة
على نشأة الدولة سواء أكانت تلك العروض تستهدف تقديم مضمون أخلاقي أو أيديولوجي
ففي النهاية تظل عمليات القمع والحجب والبتر لكل ما هو قلق وغير ملائم من الأمور
التي تتم بوتيرة ثابتة.
لعل
أول ما يمكن أن نتوقف عنده هنا هي عمليات استدعاء التاريخ الإسلامي التي تبدو
شديدة الحضور منذ ميلاد الدراما المصرية والعربية، حيث اتجهت الدراما إلي استدعاء
التاريخ الإسلامي (والعربي تحديداً) لبناء صورة لهوية الدولة سواء لتقديم تلك
الحقبة بوصفها المرجعية الأساسية في بناء الهوية الوطنية والقومية والدينية
للأغلبية التي تهيمن وتسيطر، وبالتالي فإن استدعاء صار من الأمور التقليدية حيث
صارت تلك الفترة بكل ما يتعلق بها مصدر أساسي للدراما ، بالطبع فإن الحكايات
الخيالية والتراثية مثل ألف ليلة وليلة كانت من المصادر الأساسية في تشكيل صورة
تلك المرحلة ومصدر أساسي لبناء الخطاب الخاص بها فصارت شخصية هارون الرشيد
الواقعية والحكائية نموذج مفضل لدي الكثيرين من كتاب الدراما فنجد أبو خليل
القباني يستدعي تلك الشخصية وغيرها وذلك في إطار ذات المشروع الأساسي الذي قام
عليه المسرح العربي ككل (والمسرح المصري هنا بشكل خاص) حيث أصبحت عملية استلهام
التاريخ الإسلامي جزء من عملية تقديم الأدوار الثقافية والتحديثية والنقدية
والأخلاقية للمسرح العربي الذي يعيد أنتاج الوقائع التاريخية .
بالتأكيد
فإن عمليات استدعاء التاريخ الإسلامي لم تكن تسير طوال الوقت بوتيرة واحدة حيث
مالت في فترات تاريخية نحو إعادة مسائلة ذلك التاريخ ذاته مثل تجربة باب الفتوح
التي أنتجت في أجواء نكسة يونيو والتي حاولت مسائلة التاريخ بوصفه وجه الواقع
الأكثر وضوحاً وقوة أو التجارب المسرحية التي أعتمدت على نصوص سعد الله ونوس .
أن
التاريخ هنا صار بديل الواقع وظله الذي يتم العودة إليه لمسائلة الواقع أو الهروب
من مواجهة الرقابة لكن طبيعة الخيارات وتوجهاتها تكشف عن توجهات الخطاب الذي
انتجها والذي هو بطبيعته أكثر عمقاً وأكثر تشعباً من أن يكون المؤلف المسرحي أو
المخرج ، وبالتأكيد فإن طبيعة الخيارات التاريخية التي تم التوقف أمامها تكشف عن
ما هو مسموح ومقبول بتناوله من قبل الدراما وما هو ممنوع ومحرم ، فكافة تلك
الخيارات لجاءت إلي تقديم المجتمع ككتلة متجانسة أو تقسيمه إلي سلطة وشعب أو بحيث
يصير مشروع البطل الدرامي هو إعادة الدولة وتدعيمها في مقابل التراخي أو الفساد
والخيانة الداخلية أو الاستبداد والتهديد الخارجي الذي يهدم أركانها ويهددها نجد
الفتى مهران أو الحسين (في ثأر الله) يمتلكان مشروع خاص بدعم الدولة وإعادتها إلي
مسارها الأصلي.
على
مستوى أخر فإن عمليات استدعاء التاريخ لم تتوقف أمام التاريخ الإسلامي فحسب بل
امتدت لتتناول الصراع بين القوى الوطنية والقوى الاستعمارية والفاسدة فنجد سليمان
الحلبي لألفريد فرج وعرابي زعيم الفلاحين يمثلان نموذج مثالي لعمليات بناء الهوية
الوطنية التي تدعم حضور الدولة القومية الحديثة وتؤكد عليها في مقابل غياب تام
للتاريخ المصري في مراحل مثل انتشار الديانة المسيحية في مصر أو فترات القلق
التاريخي في مصر القديمة أو المملوكية أو الفاطمية، فالمسرح لا يتذكر من مصر
الفرعونية إلا ما يدعم الهوية الوطنية لا ما يناقشها أو يتوقف أمامها بالتحليل أو
التفكير في مصادرها أو مراحل تطورها ، كما أنه لا يقدم الأقلية الدينية في مصر إلا
بوصفها جزء من نسيج وطني وتدعيم للتجانس والوحدة.
أن ما نرغب في التوقف أمامه هنا ليس الدراما التاريخية في تنوعات أطروحاتها ولكن
فيما يتم حجبه وقمعه وبتره، حيث تكشف الدراما التاريخية عما يتم نفيه وإبعاده من
المركز إلي الهامش، أنها تكشف عما يتم حجبه بشكل عمدي من قبل السلطة والتي هي هنا
ليست السلطة السياسية أو الرقابية فحسب ولكنها مجموع السلطات الاجتماعية والثقافية
والاقتصادية المهيمنة التي يستهدف تأكيد التجانس والتوافق واخفاء كل ما يثير القلق
أو يكشف عن الاختلاف .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق