للممارسة المسرحية وجهان.. الأول هو الممارسة التي نطلق عليها الممارسة الفنية وهي ممارسة ذات أبعاد مختلفة ومعقدة ومتنوعة تعتمد في الأساس على مساحة الوعي بالعالم وامتلاك موقف منه والقدرة على التعبير وحيازة الأدوات التقنية والمهارة في استخدامها والخبرة الجمالية.. وهي الأشياء التي تقع على سلم قياس بسيط وغامض بسبب صعوبة الفصل بين عناصرها وعدم وجود قياسات حقيقية يمكن عبرها تحديد العلاقات التراتبية أو الكمية بين تلك العناصر الضرورية التي نطلق عليها بكل بساطة «الفن».
الوجه الثاني لتلك المماسة هو الوجه الخطابي الذي يجعلها جزءا من عالم أوسع والقدرة على رؤيته وتفهم قوانينه وضبط حركته أو – وهو من الأمور النادرة - تصبح الممارسة المسرحية لبنة في بناء العالم وجزءا من صناعته. وهو الدور الذي حاول النقد ومنذ بدايته الأولى في العصر الذهبي لأثينا وحتى اليوم إبرازه وتحديد آليات حضوره ووضع القواعد التنظيمية والجمالية التي تجعل منه قادرا على القيام بالأدوار المطلوبة من الفن المسرحي سواء بوصفه ممارسة جمالية أو بوصفه ممارسة اجتماعية وسياسية وثقافية.
قد تبدو الحدود بين وجهي الممارسة غائمة ومتداخلة وغير قابلة للفصل بالصورة التي تبدو عليها هنا، لكن ذلك الفصل قد يكون أساسيا – ومؤقتا – ونحن إزاء تجربة الإدارة العامة للمسرح التي تضلع بمجموعة من الأدوار في صناعة الكوادر الفنية واختيارها وتأهيلها إلى جانب الأدوار الإنتاجية التي تقوم بها، فخلال السنوات الممتدة منذ بداية التسعينات وحتى اليوم تبنت الإدارة العامة للمسرح – وبقدر عالٍ من الحماسة - مشروعا مسرحيا طليعيا يقوم على تدريب وتأهيل وتصعيد العناصر الشابة الأكثر بروزا وكذلك العناصر التي تمتلك المهارات التقنية وخبرات جمالية مفارقة للوضع الذي يسود التيار الأساسي لإنتاجها الذي انتهى بالحركة المسرحية في الأقاليم إلى أوضاع تقنية شديدة البؤس ووعي آيديولوجي جامد وخطابات أكثر بؤسا وذلك نتيجة السياسات التي انتهجت في بنائه والتي أدت في النهاية إلى تكلس تام وإعادة إنتاج التجربة لذاتها عاما بعد عام – وحتى اليوم - في محاولة لاستعادة لحظة زمنية منقضية وفي ظل ظروف شديد الاختلاف. لقد كان ذلك المشروع الطليعي الذي أطلق عليه «نوادي المسرح» يعتمد بالأساس على اجتذاب العناصر الأكثر بروزا التي تم نفيها خارج المنظومة التقليدية للثقافة الجماهيرية وفي الوقت نفسه الحفاظ على المشروع الأساسي والخطاب الذي تتبناه تلك المؤسسة التنموية (التي تعاني هي ذاتها من أزمات كبرى في علاقتها مع بقية مؤسسات الدولة وأجهزتها الخطابية) فهي تنمي المهارات التقنية وترعاها وتتيح الفرص لبروز ذلك الوجه من الممارسة المسرحية في مقابل تحميل تلك العناصر بخطابها (ومشروعها) وتحويلهم إلى جزء منها.
قد يكون ذلك المشروع الطموح (بناء طليعة مسرحية جديدة) قد تعرض في السنوات التالية - ومع زيادة ارتباطه بالماكينة الأساسية لمسرح الثقافة الجماهيرية - إلى الكثير من التشوهات التي أدت في النهاية - ومع حريق مسرح بني سويف والكثير من السياسات الخاطئة - إلى ربط ذلك المشروع التنموي الهادف لتخطي أزمات التيار الأساسي والقيام بدور في إعادة ضبطه وتطويره بالتيار الأساسي حيث تحول من القيام بأدوار (الطليعة) إلى هامش يزداد ضيقا مع الوقت ويزداد ارتباطا بالمركز الأساسي للحركة المسرحية في الأقاليم (الشرائح الإنتاجية)، وبالتالي أصبح من الضروري أن يتساقط ذلك المشروع ذاته ويتحول إلى جزء من الماكينة المعطلة التي نطلق عليها مسرح الثقافة الجماهيرية.
بالتأكيد، فإن مصطلحات مثل “طليعة” و”التيار السائد” قد تبدو للبعض هنا منتمية لزمن مضى في مقابل العلاقات المتداخلة والتبادلية بين ذلك التيار الأساسي والهامش اللذين يتشاركان صناعة وتدعيم مواقع بعضهما البعض، ولكن قد يجب خفض سقف الطموح بعض الشيء أمام الواقع الذي يشير لطبيعة المشروع والمؤسسة التي ينتمي إليها والتي تخلقت في ظل ظروف تشكيل دولة الحداثة، وبالتالي أصبحت متبنية لذاتها مواقع وجهاز اصطلاحي ومفاهيمي يتناسب مع موقعها وطبيعة الخطاب الذي أنتجها، فالطليعة وبناء الكوادر جزء من آلية حركتها ومعرفتها بالعالم كما أنه جزء من أزمتها في واقع اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي عدائي ومناهض لمشروعها والخطاب الذي تتبناه وقادر على إفساد كافة مشاريعها سواء عبر آليات تطور المنظومة التشريعية واللائحية الخاصة بها أو عبر إضعاف وتفتيت أدوارها كمؤسسة دعم وتنمية بالمقام الأول أو حتى بالصور الذهنية التي يتم تشكيلها حولها.. إلخ.
بالمجمل، لقد أصبح مشروع «نوادي المسرح» مجرد هامش يكتسب شرعيته على أرض الواقع من علاقته بالمركز الذي يمثله التيار الأساسي للحركة. وبالتالي، فإن تطوره أصبح أقل وتيرة وقدرته على التحرك بشكل دافع للحركة أصبح أكثر صعوبة عبر عملية وضعه ضمن شبكة من العلاقات تجعل منه مجرد قاعدة لمد الحركة الأساسية للمسرح الثقافة الجماهيرية بعناصر أكثر مهارة تقنية وأكثر قدرة على تبني الجماليات والتعامل مع قواعد وشروط العمل في ذلك التيار الأساسي (الذي بدوره تحول إلى فرع هامشي شديد البؤس في حركة المسرح المصري المريضة أصلا والهامشية بطبيعة وضعها إزاء حركة الثقافة الحديثة وتحولت إلى فن نخبوي في مقابل التيار الأساسي الذي يتشكل من فنون قادرة على الانتشار السريع والوصول عبر الوسائط البصرية أو التفاعلية أو حتى عبر النشر الورقي).
إن التحدث عن تطوير لمشروع «نوادي المسرح» عبر مزيد من التبني لمشاريع تدريبية أو عبر فصل المشروع عن التيار الأساسي للحركة المسرحية، قد يبدو من الأمور غير المجدية أيضا، فالحلول التقليدية التي تتعامل مع المشروع على أنه ممارسة يمكن فصلها أو تنحيتها أو عزلها أو استخدامها بوصفها حركة طليعية يتم اختيار عناصرها الأفضل لقيادة وتطوير الحراك المسرحي، ربما انتهت إلى ذلك الوضع الذي أشرنا إليه.
قد يبدو الأمر هنا أننا أصبحنا أمام معضلة غير قابلة للحل، فعزل المشروع عن الحراك الأساسي يعني القضاء على الأدوار التي يقوم بها في المقابل، فإن الاستمرار في ربط المشروع باعتماد المخرجين تطوير مسارات مهنية للأفراد الأكثر تميزا، قد يعني أيضا تحويل المشروع إلى مجرد قاعدة لضخ عناصر في التيار الأساسي. لكن العالم ليس مغلقا إلى ذلك الحد.
قد يكون المشروع الذي تبنته الإدارة العامة للمسرح في زمن تولي الدكتور صبحي السيد، كان يحمل قدرا من الطموح في فك الارتباط المباشر وتخليق مساحة من المباعدة بين مشروع حركة النوادي ومشروع التيار الأساسي عبر تخليق درجة إضافية وهي وضع التدريب بوصفه جزءا من آلية الانتقال بين المستوى الإنتاجي الهامشي والتيار الأساسي للحركة، ولعل ذلك الطموح اصطدم بالكثير من المعوقات وكشف عن الكثير من مصادر الخلل خلال الملتقي الذي انتهى قبل أيام، والذي فضح حالة التآكل التقني والجمالي الذي أصاب حركة النوادي وعناصرها، كما كشف عن عدم قدرة المسارات التدريبية وحدها على القيام بأدوار انتقالية. وهو ما يعيدنا إلى مشروع أكثر قدما وهو مشروع الناقد والصديق عبد الناصر حنفي الذي يعتمد لا على تخليق قاعدة ربط بين الهامش والتيار الأساسي، ولكن على تدعيم الهامش نفسه ودفعه للوعي بذاته عبر دفعه إلى تخليق كيانات قادرة على دفع ذاتها والانفصال عن التيار الأساسي لحركة مسرح الثقافة الجماهيرية.
إن بناء نوادي المسرح التي تراجعت وتآكلت لن يكون عبر الدفع بمزيد من عناصرها (أفراد) إلى ماكينة تدريب تقني فحسب (وإن كان ذلك ضروريا ومن المهم الحفاظ عليه) بل عبر دفع تلك الحركة إلى اكتساب بعض من الاحترام لذاتها بوصفها كيانات وليست مجرد أفراد يتحركون في مسارات إنتاجية هامشية بهدم تطوير وضعهم المهني. كيانات قادرة على تبني مشاريع دائمة ومتطورة تخلق لنفسها خبراتها الجمالية والتقنية عبر الممارسة وتصبح قادرة على تخليق وعيها الخاص بالعالم ليس عبر التدريب التقني بصورته الأمريكية (اكتساب مهارات فحسب) بل عبر تخليق مشاريع يمكن الالتفاف حولها.
نوادي المسرح التي تحاصر بالرقابة والقيود الإنتاجية والفساد المالي والإداري إلى جانب الدفع بعناصر غير مؤهلة أو صالحة للقيام بتقيمها في بعض الأحيان، لن تتحول بالتدريب لشيء إيجابي، تماما كما أنها لن تنجح بمزيد من العناصر الشابة التي تحاول تنمية مسارات مهنية بشكل فردي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق