في خضم سنوات الثورة القصيرة شُغل المجتمع بمعركة كبيرة
أنتزعت الكثير من الإهتمام الإعلامي كما شكلت جزء من الصراع الكبير حول المستقبل
والثورة بين أطراف المجتمع والتيارات والقوى السياسية التى كانت تتقاتل و تتسابق
على حيازة أكبر قدر من تأييد القوى الأجتماعية .. أنها معركة الأجيال أو الصراع
بين جيل الأباء والشباب الثائر .
ربما شغلت تلك المعركة الكثير من الوقت وجذبت من
الإهتمام بما يفوق حجمها الحقيقي ذلك أنها ساهمت في تخفيض سقف التوتر الطبقي داخل
المجتمع ودفعته في أتجاه أكثر أمناً وأقل خطورة .. فالصراع بين الشباب و الشيوخ
حالة أكثر أستقراراً لا تهدد بتغيرات حقيقية كما يمكن أن نجد أثارها في كل زمن بوصفها التعبير عن
الصراع بين الماضي الأكثر حكمة ومحافظة وبين المستقبل المغامر والحيوي .. معركة لا
يمكن فيها لطرف أن ينتصر على طرف ولذلك يعاد أنتجها ببساطة وتتكرر بشكل دوري في
أزمنة التغييرات الكبري كما في أزمنة السكون والإستقرار ... معركة تفرغ الصراع الاجتماعي في صراع بين "جيل
مستهتر وجيل متحجر دون حتى أن نجد أدني أهتمام بتحديد أسباب الصراع الأكثر عمقاً..
هذا أن كان هناك صراع من الأساس.
ولحيوية وشعبية ذلك الصراع الاجتماعي التقليدي فلقد شاركت
الدراما وعبر التاريخ في عرض ذلك الصراع الممتع والحماسي بين الشباب و
العجائز ويمكن أن نصنف كاتب بحجم شكسبير
على سبيل المثال كنموذج حيث يحضر ذلك الصراع بشكل متواتر وفي أكثر من عمل له ، كما
تعرض المسرح المصرية خلال السنوات القليلة الماضية لتلك القضية بأشكال مختلفة
تنوعت بين التأكيد على الخلاف وتحديده بوصفه فاعل أساسي أو محاولة تخفيض سقفه
وتهميشه .. لكن الجميع أتفقوا على أن الثورة خاصة بالجيل الشاب ، كما سلموا بأن
الثورة ترتكز بشكل أساسي على عامل المرحلة العمرية .
ولكن بعيداً عن مدى صدق أو كذب ذلك الطرح فأنه نجح إلي
حد كبير في تجذير حضوره داخل الوعي الاجتماعي والفني وبالتالي أصبح يمتلك صفة
الحقيقة وأصبح الكتاب والمخرجين يستندون إليه بشكل كبير عند تعاملهم مع الثورة
بوصفها ثنائية لا يمكن فهم تلك الثورة دونها ، وربما يكون من الظلم أن نتعامل مع
الواقع المسرحي إلا بوصفه تعبيراً عن الخطاب أكثر عمقاً يعبر عن ذاته عبر
المسرح ، خاصة ونحن نتعامل مع عرض أستثنائي
في ذلك المجال وهو عرض " أضحك لما تموت" للكاتب لينين الرملي و المخرج
عصام السيد والذي يقدم حالياً على خشبة المسرح القومي ، فالعرض من ناحية يحمل تلك
الثنائية ويتبناها ويتعامل معها بوصفها المدخل الأكثر أهمية لفهم الثورة والتغيرات
الاجتماعية التي يمر بها المجتمع ، لكنه ومن ناحية أخر ونتيجة لزاوية الرؤية التي
أختارها فإنه يعبر عن قلق وحيرة يمكن أن يتوقف أمامها المتفرج .
الأجيال بين الصمت والثرثرة
لا يمكن للمتفرج إلا أن يتلمس طوال الوقت حضور الماضي
وثقله في عرض (أضحك لما تموت) بداية من
المنظر المسرحي للمصمم "محمود الغريب" والذي يعكس تأثير الزمن على المنزل سواء على
مستوي الألوان المستخدمة في التصميم أو على مستوي الطرز الذي لجاء إليها وصولاً للجثة الحية التي تتجول بالمنزل أو لقطات الفيديو
للذكريات التي تم تجسيدها على حوائط المنزل.. وربما
لم يبتعد هنا العرض كثيراً عن التصور الذي قدمه النص الأصلي للكاتب لينين الرملي
.. لكن في مقابل ذلك الحضور القوي للماضي الذي يرفض المغادرة أو الموت سواء على
مستوي الصورة أو على مستوي خطاب العرض فإن تصميم الفضاء المسرحي لم يخلو من رؤية خاصة
به حيث حضر ميدان التحرير/ الثورة داخل الفضاء المسرحي عبر الصورة الضوئية التي
كانت تشغل خلفية المسرح وأكد العرض على حضورها وموقعها ودورها في تحديد زمن الجدث
ومكانه، أو عبر تجسيد العالم خارج حدود المنزل المغلق وتقديم الجيل الثائر عبر
التشكيلات الراقصة لشيرين حجازي والتي
دعمها الديكور كما دعمها التصور الإخراجي الذي أبرزها للحد الذي جعلها تتصدر نهاية
العرض على العكس من النهاية الخاصة بالنص الأصلي
أن العرض
هنا يحاول أن يدعم وينمي محاولة نص لينين الرملي في النظر من زاوية مختلفة الثورة ،
رؤية ربما تكون شديدة الندرة في تاريخ علاقة المسرح المصري خلال السنوات السابقة
بالثورة ، فخلال السنوات السابقة كان المسرح المصري يندفع بشكل غريزي نحو أستعراض
رؤية جيل الشباب والتأكيد عليها ، فنحن نري الثورة عبر تجسد خطابي وبصري متمثل في
صورة شاب/شابة سواء أكان الهدف الإحتفاء بالثورة أو حتى مهاجمتها والسخرية منها،
ولكن عرض ونص " أضحك لما تموت" يحاول رؤية الثورة بعيون جيل الأباء
الذين أربكتهم الثورة وأجبرتهم على إعادة التفكير في علاقتهم بالعالم وأستعادة
التاريخ ومحاولة التفكير في المكاسب و الخسائر حيث تبني العرض تلك الرؤية التى
يقدمها النص بالأساس لكنه حاول أن يراها بوصفها جزء من المشهد المرتبك والمربك
الذي شكل تلك السنوات الساخنة والذي لم يزل يلقي بظلاله على الواقع حتى اليوم..
بمعني أخر لقد أستدعي العرض إلي الفضاء المسرحي الميدان وشباب الثورة وهم يقاتلون
برغم أن النص يحاول تجنب ذلك طوال الوقت ، وعبر كل ذلك فإن العرض يقدم لخطاب مهمش
داخل الواقع ويحاول أن يعيد التفكير في ذلك الواقع شديد السيولة عبر تلك الرؤية
المرتبكة و التي تتأرجح بين الإنتماء لما يحدث والشعور بعبثية المشهد وعدم نضوجه
وفشله في تقديم حلول جديدة للمشاكل القديمة .
ربما
يكون ذلك الصوت الذي يحاول العرض التعبير عنه لا يمتلك بدوره أجابات نهائية فهو
يتورط بعد صمت طويل في حالة الجدل الذي يحاول أن يرى في ضوئها ذاته والعالم وهو
يتقدم خطوة بخطوة . ولعل ذلك ما يمكن أن نجده في النص الأصلي في صورة الخطوط
الدائرية التي يسير فيها "يحيي " كما يتجلى في العرض بدوره الذي يتبني
ذات الحالة من الدوران حول الذات ومحاولة تلمس حدود الواقع المربك للطبقة التي
أنتجت الثورة والتي تشعر بعدم الثقة في حركتها أو الغاية التي تستهدفها وبالتالي
يتحول حضور الثورة والشباب المتظاهرين وميدان التحرير وشخصيات "أحمد الشاب
الثوري " ، أو الأبن المتمرد على أبيه " أشرف" إلي قوى تزيد من
الإرتباك والقلق في الرؤية النهائية التي يقدمها العرض للعالم.
الموتى الأحياء
أن الجثة
الحية التي تعيش في الثلاجة (بكل ما تحمله دلالة الثلاجة من أشارة إلي التجمد
والثبات الذي يحمي من الموت والتحلل من ناحية وأنعدام الحياة من ناحية أخرى) والتي
قدمها العرض في صورة مومياء ترتدي طربوش ربما تعيد إلي الذاكرة صورة الجثة المتمدة
التي تحتل الفضاء في نص يونسكو الشهير "أمديه" فهنا الجثة تتمدد في عالم
العرض وتحطم من الحالة الواقعية التي يقدمها وتضفي عليه حالة فانتازية من خلال
مطالبتها بالدفن والموت بسلام لكنها على العكس من جثة يونسكو الشهيرة لا تتمدد
لتبتلع عالم الأحياء بل تظل عالقة كشاهد على جيل من أبناء الطبقة الوسطي تلقوا من
الهزائم ما يفوق أحتمالهم وأصبحوا ينظرون لأنفسهم بوصفهم موتى أحياء يتجولون غير
قادرين على الإختفاء والموت ببساطة تاركين العالم لجيل جديد يرفضهم ويتهمهم بأنهم
جزء من الهزيمة وغير قادرين كذلك على مواصلة الحياة والتواصل مع العالم الجديد
الذي يتشكل في الأفق .. أنهم العالقون بمنتهي البساطة الذين لا يستطيعون سوى
الأستمرار في محاولة الحفاظ على الإستقرار خوفاً من هزائم جديدة أو تفسخ للعالم ولعل
ذلك ما يتجسد بشكل محدد في تصريح شخصية "يحيي/ نبيل الحلفاوي" بأنه كان
يظن أنه هو تلك الجثة.
لكن ذلك
التحليل الذي نقدمه ربما يتأكد في العرض بالعلاقة التي تربط بين "طاهر/محمود
الجندي" وبين الجثة التي يرتبط ظهورها بجرحه أو ذوبانه وأختفائه فالجثة الحية
هي الصورة التي تستوعب وتبتلع طاهر الذي لا يملك الوعي بذات القدر الذي تتحد
بشخصية يحيي الذي يمتلك الوعي .
ربما
نتمادي قليلاً لكن تلك الصورة البصرية التي يقدمها العرض للجثة "الطربوش/ لفائف الكتان" (بالإحالات
الزمنية والثقافية والايديولوجية التي يشير ويحيل إليها) تطرح رؤية متشائمة حول
مستقبل تلك الطبقة التي يفترض أنها تقود الحراك الإجتماعي والتي لم تعد ترى ذاتها
إلا بوصفها جزء من ماضي يرفض الموت والتحلل لصالح القادم ولعل ذلك ما يبرر رؤية
"شربات/ ايمان إمام" للجثة ، بالطبع العرض يحاول أن يتبني جزء من الخطاب
الناصري حول البرجوازية والارستقراطية التي كانت تقدم في صور مشابهة لنقدها
وأتهامها بالرجعية .. لكن نص العرض في تقاطعه مع الصورة يمدد من تلك الصورة
ليحولها من نقد لمرحلة تاريخية لنقد للطبقة ذاتها بكل الأجيال التي تنتمي إليها ..
وهو ما يمكن أن يكون مبرراً ومفسراً لتلك الحالة العدمية التي تظهر بها الشخصية الأساسية
.
أن
الطبقة التي أنتجت العرض والتي تتلقاه هم الموتى الأحياء الذين فشلوا المرة تلو
المرة في أستكمال مشروعهم وأصبحوا أسرى لذلك المشروع الأبدي .
جيل في
مواجهة جيل
لن يفلت
من المتفرج عبر الخطاب السائد لعبة الأجيال التي يمارسها العرض والنص الذي يعتمد عليه
، فمن ناحية فإن جيل الأباء يقدم في العرض بوصفه في حالة يأس عميق لدرجة الإندفاع
للانتحار (طاهر/ يحيي) جيل تم خداعه والتلاعب به على كافة المستويات كما تم نبذه
والتخلي عنه من أبناءه الذين يرفضونه والذي لا يجد سوي تخدير عقله بديل
(الخمر/الحشيش بالعرض وهو ما يشير لكافة أشكال التخدير الممكنة التي تمارس). من
ناحية أخري نجد جيل الإبناء (شربات ، أشرف ، أمل ، أحمد) جيل ربما لم ينجو أي من
ممثليه من مسلبة بداية من التبول اللاإردي لدي شربات وصولاً للتحلل من كل أرتباط
بالمجتمع والثقافة والوطن في صورة أمل إبنة طاهر ..
أن ذلك
التقابل بين الأجيال ربما يكون اقرب للمرثية لجيل الأباء الذي لا يملك أي شيء حتى
الأمل في المستقبل الذي يمكن أن يصنعه جيل الأبناء الذي يتوزع بين الجهل وفقدان
الإنتماء وقسوة الأحكام المجانية والإنتهازية .. لا يبدو هناك أمل في المستقبل ،
لا وجود ليوتوبيا الثورة المنتظرة ولكن على النقيض من الدرامات التي تهاجم الثورة
فإنه لا يوجد أمل في أي خلاص .. فقط دوائرعبثية يدور فيها الجميع .
أن تلك
الصورة ربما تكون مختلفة بعض الشئ في تاريخ المسرح المصري لكن من الصعب التعامل
معها بوصفها الصورة الكاملة دون أن نكون قد أغفلنا الوجه المقابل الذي يتجلى في
عروض جيل جديد من المسرحيين المصريين يخطو حاملاً يأسه وغضبه ومرارة هزيمة مبكرة .. هزيمة تتكشف عبر مسرح محاصراً ومغيب خلف
ألعاب الدعاية والرقص والبكائيات ومهاجمة المجتمع وجيل الأباء ونعتهم بالقسوة
والجهل والجبن.
أن اليأس
الذي يتمدد لا يجد لنفسه في عروض الشباب من مواساة سوى صورة المخلص المغدور
والمهزوم الذي يهزم وينتقم من المجتمع بنظرة الإزدراء والتعالي يحضر هنا أيضا في
عرض لمخرج كبير في صورة تلك النهاية المضافة على النص الأصلي التي يقوم فيها شباب
الثورة بإختراق الفضاء وأحتلال مركز العرض وهم يقاتلون بحماسة بعد موت
"يحيي" ، أنهم المواساة التي يغلق بها العرض عالمه الغارق في اليأس ..
الحلم بأن هناك من يقاتل ويحاول الإنتصار .
بالطبع
إذا وضعنا تلك التصورات في مواجهة بعضها البعض فإننا سنخرج بصورة شديدة السلبية و
السوداوية تقدمها تلك الطبقة الوسطى لنفسها ، تلك الطبقة التي ينتمي إليها كل
شخصيات عرض "أضحك لما تموت" عدا شخصية شربات الفقيرة والبائسة والجاهلة
التي تنتمي للمهمشين اجتماعياً والتي تتبول لاإرادياً وتستغل وتنتهك جنسياً وترفض
حتى من قبل الشاب الثوري الذي تحبه "أحمد/ تامر الكاشف" لكنها لا تملك
سوى أن تتبعه .. ربما لأنه لا يوجد من خيار سواه حتى بالنسبة ليحيي الذي يوصف من
قبل الشاب الثوري بأنه "فلول".
أن
الطبقة الوسطي في عرض "أضحك لما تموت" تقدم لنفسها مرثية حقيقية مصحوب
بإعتذار عن فشلها في تحقيق مشروعها الإجتماعي والسياسي الذي كانت تعد به المجتمع
ككل .
الضحك
والبكاء
في وسط
كل تلك الرؤية السوداوية و المرتبكة من هول ما تكتشف في رحلة تلمس العالم التي
يخوضها عرض "أضحك لما تموت" ربما كانت الضحكات القليلة التي يمنحها لمتفرجيه
عبر مفارقات العجز الجنسي لطاهر و يحيي أو عبر صراعهم الكوميدي .. الخ هي أحد
الوسائل القليلة التي يقدمها العرض لمتفرجه لتخفيف وقع تلك الرؤية التي تتشكل خلف
الإرتباك والقلق ومحاولة تقديم العرض لنفسه بوصفه دعوة لقراءة مغايرة للتاريخ ..
ربما يكون أبطال العرض (نبيل الحلفاوي، محمود الجندي، سلوى عثمان، إيمان إمام،
تامر الكاشف وأحمد زكريا) وعبر أدائهم الذي يحمل قدر من المراوحة بين بناء
الشخصيات الدرامية وتقديمها بشكل واقعي من جهة والأداء الكوميدي القائم على تقديم
نمط متصلب (وبالتحديد محمود الجندي ، سلوى عثمان، إيمان إمام وأحمد زكريا) من جهة أخرى قد نجحوا في تخيلق
تلك الروح المرحة التي تميز مسرح لينين الرملي والتي ربما تكون في حدها الإدني في
ذلك النص الذي تبدو فيه السخرية مريرة لا تستهدف الإضحاك بقدر ما تستهدف تأكيد
الحالة العدمية التي تعاني منها الشخصية الأساسية التي تبدو تعليقاتها الساخرة
موجه للذات أكثر مما هي موجه للخارج .
في
النهاية ربما يكون عرض أضحك لما تموت نموذج متقدم لفشل الثورة ورؤية تحمل قدر من
الغضب ضد الدولة /الوطن التي تحولت من (حورية وحرية وصارت حربية) .. أنه غضب معمم
ويأس ممتد من العالم ربما لم يكن من الممكن تفاديه ونحن في تلك اللحظة الزمنية
الفاصلة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق