الأحد، يوليو 24، 2016

الفنار العزلة كهروب من مواجهة الواقع


لعل العزلة هي أكثر ما أهتم عرض الفنار – للمخرج ماهر محمود وفرقة مسرح الشباب – بالتأكيد عليه ، عزلة قاسية و أنفصال عن العالم يتجليان في بناء الفضاء المسرحي و في ما يطرحه النص الذي قام بإعادة صياغته "محمد محروس" عن نص الظلمة لجلاوي ، ومن تلك العزلة ينطلق العرض صوب بناء دراما نفسية لعامل الفنار الذي يعاني - كما يطرح نص العرض -  أصابته بإنفصام في الشخصية  ، دراما تقوم بالأساس على عملية أستعادة ماضي أسري معقد و قاس وعلاقة بالعالم مشوهة وغير سوية وذلك من خلال حوار طويل بين العامل و تلك الشخصية التي يقوم باستحضارها و التي تبدو برغم  تماثلها معه على مستوي الملابس شديدة التناقض معه .
ربما يبدو العالم الذي يطرحه العرض شديد الإنفصال عن الواقع المعقد و المتشابك والمتفجر بالأحداث  الذي يدور حولنا لكنه حتى في عزلته وأنفصاله عن الواقع الذي يلقي بثقله على معظم عروض المهرجان القومي (التي قدمت حتى الآن) يقدم ملمح جديد لعملية الإشتباك مع الواقع المعاش ، أنه خيار الإنفصال و العزلة عن العالم بكل ما فيه من تعقيدات وأسئلة صعبة يجد في حضرتها المسرح ذاته في أزمة حقيقية ، أزمة الإختيار بين خيارات صعبة و غير مقبولة أو غير قابلة للدعم بشكل نهائي وحاسم  ، فالحرية التي يطرحها النص هنا ليست حرية الأختيار بين البدائل التي يقدمها المجتمع و العالم للفرد ولكنها حرية الرفض للمجتمع ككل بكل ما يطرحه من خيارات ، حتى لو كانت عزلة مقضي عليها بالفشل .
أن عرض "الفنار" ربما يمارس بحضوره في المهرجان القومي للمسرح بشك لخاص و في واقع المسرح المصري بشكل عام نموذج للمسرح و هو يحاول الإرتداد لتلك المساحات الأمنة التي يصبح فيها محصناً من الدخول في معترك الواقع بكل مافيه من حتمية الإختيار .
ولعل ذلك الطرح يمكن أن نلمحه على أكثر من مستوي بالعرض كما أسلفنا ، فعلى مستوي نص العرض الذي يطرح منذ البداية العديد من الإشارات المتناثرة بجسد العرض حول طبيعة العلاقة بين الشخصيتين الأساسيتين بالنص بالعالم  ، فالشخصيات تحيا في فنار يرتفع فوق البحر بمسافة شاهقة ، معزول عن المدينة و الجزر المحيطة به بمسافة كبيرة ، بينما تحضر المدينة إلي العرض مرتبطة بصورة المرأة سواء الحبيبة أو الأم ، فلا وجود للمدينة سوي بالعزلة الشخصية و الفشل التاريخي للشخصيات في تحديد هويتهم و علاقاتهم بالمرأة و الرجل .
إن ذلك المستوي تبدو فيه العلاقة مع العالم شديدة التشوه ، حيث يقوم النص بتدمير التحديدات الأولية للهوية للفرد داخل المجتمع ، فمؤسسة الأسرة مشوهة ومفككة ، صورة أب عنيف و أم تقوم بالعبث بالهوية الجنسية لإبن و علاقة بالمرأة مشحونة  بالأكاذيب و التردد و الخوف .
أن الإرتداد لذلك المستوي في عمليات تحديد الهوية يمكن أن يفتح الباب أمام تحليل يقوم على الأغتراب عن العالم والواقع ومحدداته ، ربما لم يسعي العرض للتأكيد على تلك الأزمة من خلال التصور البصري للشخصيات التي أهتم المخرج و الممثلين (أحمد عثمان – محمد درويش) بالتأكيد عليها ، حيث ظل العرض حريصاً على تأكيد الهوية الذكورية للشخصية (المنقسمة على نفسها) سواء على مستوي المظهر الخارجي (الذقن والتي ربما تكون مبررة بحكم العزلة المكانية) أوعلى مستوي الأداء ، ففي النهاية العرض ينحاز لتسكين تلك الهوية الجنسية للشخصيات برغم كافة الشواهد التي يقدمها النص لوجود خلل في تكوين تلك الهوية .
أننا نتحدث هنا عن أنفصال جذري و حاد مع المجتمع ، وأغتراب غير قابل للترميم بين المجتمع و الفرد في كافة المستويات ، ربما لم يسعي العرض لتأكيده خوفاً من الإنزلاق في مناقشة قضايا لها أرتباط بالثقافة المجتمعية وبالتالي التورط في العودة للواقع وخياراته القاسية الا أنها تظل حاضرة و ملقية بظلالها على العرض .
ولعل ذلك ما يمكن أن نجد تداعيته على مستويات أخري بنص العرض مثل الموقف من الظلمة التي تحضر طوال الوقت كموضوع نقاش و صراع .. حيث تطرح أحياناً كخلاص و أنفصال عن العالم ، وتطرح أحياناً أخرى كخطر و مصدر للخوف ، وهو ما يقود بالتالي إلي الحديث عن العزلة كخيار يحمل في داخله مخاطره الخاصة التي تهدد الفرد و تحميه في ذات الوقت .. تماماُ كالغناء و العزف الذي يقدم كلحظة أنسجام مفتقدة مع العالم و كنموذج لقسوة العالم و دفعه للفرد نحو العزلة .
في ذلك المستوي يمكن لنا أن تلمح حضور حقيقي لأزمة العزلة عن العالم بكل ما تحمله من مزايا و عيوب ، فهي خلاص من العالم و التورط فيه ، لكنها خطر حقيقي يصل إلي غايته في ذلك الصوت الذي يأتي في نهاية العرض (والذي يبدو أنه لطبيب نفسي) و الذي يحكم على الشخصية المنقسمة على نفسها بأنها مصابة بمرض نفسي يستدعي العزل الإجباري لها ، في حكم نهائي للعرض بأن العزلة ليست خيار شخصي وأنما هي عملية يدخل فيها المجتمع و يمارس دور أساسي .
أما على مستوي بناء الفضاء فيمكن ومنذ اللحظة الأولي أن نرى أسهام صناع الصورة البصرية  ( مصمم الديكور و الملابس يحيي صبيح ، مصمم الإضاءة نائل عبد المنعم ) لحالة العزلة ..
فعلى مستوي الإضاءة يمكننا أن نلمح أهتمام واضح من المصمم بتحديد مصادر الإضاءة الأفتراضية بالفنار ، وهي مصادر خافته وهو ما يتناقض ظاهرياً على الأقل مع درجة الإضاءة وحدتها التي تميل إلي الأنارة في معظم أجزاء العرض  ، لكنها على مستوي أعمق تحدد حالة العزلة  وما يرتبط بها من خفوت و سيادة لعالم الظلال .
ولعل صورة العالم خارج الفنار ساهمت فيها الإضاءة بدور كبير حيث تظل صورة العالم خارج الفنار مجرده لا تتجاوز بقع ضوئية على خلفية محايدة تظهر للمتفرج من خلال الشباك الذي تتناوب الشخصيتان في فتحه و غلقه حسب موقفهم من العالم .
أما على مستوي الديكور فإن المصمم قد حاول تأكيد حالة المقطع العرضي المنفصل عن عالم المتفرج من خلال تأكيده على التفاصيل الواقعية الخاصة بالمكان المسرحي ، بداية من الحوائط  الباهتة ذات اللون القاتم وسقف غرفة الفنار وحتى أصغر تفاصيل بناء ذلك العالم. وهو تصور لعالم فقير و جاف ومغلق على ذاته ، ويتم دع ذلك من خلال عملية تقسيم الفضاء الخاص بقاعة العرض حيث أختار صناع العرض نموذج فتحة البروسينيوم (أو منصة في مواجهة الجمهور) برغم ما يمكن أن تقدمه القاعة من خيارات أكثر رحابة ، لكن يظل ذلك الخيار هو الأفضل و الأكثر أتساقاً مع طرح العرض ، فلا مجال للتواصل أو الإمتزاج بين عالم الشخصيات و عالم المتلقي الواقعي.
ولعل ذلك الأهتمام ببناء التفاصيل الواقعية قد وصل بالمصمم (يحيي صبيح) إلي حدوده القصوى في تصميم الملابس التي كانت تماثل في تصميمها ملابس العمال ذات اللون الموحد وهو ما يعكس خيارات المصمم و المخرج في تحديد الهوية الطبقية (حتى وأن لم يتم التأكيد على تلك الأزمة الطبقية سوى في مشهد الحديث عن الطموح بشكل خافت والذي طرح العزلة كعقاب للفشل الاجتماعي في الإلتحاق بالطبقة الوسطي) ، كما يبرز توحيد اللون على مستوي أكثر سطحية رغبة في التأكيد على الطبيعة المهنية للشخصيات و طرح لإشارات حول كونهم شخص واحد ..
وعلى النقيض من الصورة البصرية حضرت الموسيقي بالعرض(أحمد شعتوت)كوسيلة للتواصل مع العالم فمن ناحية نجد أن الأغنية الأساسية التي تقدم في بداية العرض تؤكد على الإنسجام مع العالم و الطبيعة بينما كان الراب الذي قدم بإيقاعه القوي في العرض وسيلة أخري للتأكيد على ذلك النزوع للإرتباط بالعالم
على مستوي الأداء ربما كان كل من  (أحمد عثمان و محمد درويش) قد أجتهدا بشكل واضح في بناء الشخصيات الدرامية التي قاما بأدائها سواء على مستوي المظهر الخارجي أو طريقة النطق أو حتى على مستوي البناء النفسي للشخصيات ، وهو ما يعكس أهتمام مشترك بين المخرج و الممثلين في التأكيد على الطبيعة النفسية للدراما التي قاموا بتصنيعها ، وهو أمر يستحق التقدير بالتأكيد ، خاصة أنهم تحملا عبء الأكبر في العرض وكانوا مركزه الحقيقي.
في النهاية ربما تكون بعض الخيارات الأخراجية متصادمة مع ذلك الطرح الذي قدمه العرض مثل دخول الشخصية الأساسية من الصالة في بداية العرض و الذي يناقض بشكل خيارات العرض وتوجهاته الفنية ، أو النهاية التي يحضر فيها صوت خارجي ظهر كدخيل يهدف لتفسير ما هو واضح و جلى دون مبرر وكأنه صوت لمؤلف العرض (المخرج) الخائف من أن لا يكون قد نجح في توصيل رؤيته و عالمه للمتفرج .



     

ليست هناك تعليقات:

المحاكاة الساخرة (الباروديا) .... ماكينة الهدم والتحطيم

يبدأ المشهد بفريقين لكرة القدم يقفان في مواجهة بعضهما البعض ... الأحمر إلي يسار المتفرج والأبيض إلي يمينه، ربما يبدو المشهد مألوفاً ودلال...