الخميس، أكتوبر 22، 2015

القرد مازال يحلم - البحث عن الإنسان في عالم الغابة


يروي أن الإنسان ظل لما يقرب من المليون عام جزء من الغابة ، يحيا في ظل قوانينها ، و يشترك في سلاسلها الغذائية أحيانا كطريدة وأحياناً أخرى كمفترس ، ويحكي أن الإنسان خرج بعد ذلك الزمن الطويل من الغابة منذ ما يقرب من خمسون ألف عام بعدما أكتشف لأول مرة قدرته على تطويع الطبيعة و التحكم فيها و أستطاعته التحكم فيها وتحويل طرق عملها و نظام سريانها .. فصار قدر الإنسان أن يحيا منشطراً بين طبيعة شكلت الكثير من مهاراته  و رغباته و قدراته من ناحية ، وبين عقله الذي أكتشفه مؤخراً والذي يشقي وتباهي - طوال الوقت – بقدراته على السمو والتطور و الإبتكار لما هو أكثر عدالة و أنسانية و عقلانية .
من تلك الأزمة ينطلق عرض "مازال القرد يحلم" لفرقة نادي مسرح قصر ثقافة الأنفوشي و المخرج "إبراهيم حسن" و الذي أعتمد على نص للكاتب "محمد سالم".. حيث يقوم العرض على إعادة إنتاج نمط من الحكايات يمتلك جذور أسطورية لم تزل قادرة على الحضور بطابعها الرمزي الذي يتحرك بين التفسير الإسطوري لنشأة العالم من جهة و بين الدور الرمزي المتعلق بالطباع البشرية التي تجد أصولها في عالم الحيوان .
ولعل ذلك الحضور الطاغي لنمط حكايات الحيوانات بكل ما يرتبط بها قد وجد سبيله لعرض "مازال القرد يحلم" الذي قام عى تخليق مستويان أساسيان الأول متعلق بعالم الحيوانات بطابعه الأسطوري و الطقسي في مقابل الثاني المتعلق بعالم البشر و الذي سعى المخرج إلي التأكيد على طبائعهم الحيوانية من خلال التأكيد على أرتباطهم بعالم الغابة من خلال الحركة كأن يكون دخول و خروج الشخصيات البشرية مرتبط في معظم الوقت بتحول في الحركة لتصير حركتهم حركة حيوانية .
ومن خلال الصدام بين هذين المستويان يقوم العرض بالتأكيد على فشل تجربة الكائن البشري و على دمويته للدرجة التي تدفع القرد الحالم ذو العين الحمراء للتمرد على رغبته الجامحة في الإلتحاق بالمعسكر البشري ، فالقرد الذي أمتلك حسب منطق العرض السمة البشرية الأكثر أصالة " القدرة على أمتلاك الطموح في تغيير عالمه" يصير هو المستقبل الوحيد الممكن للإنسانية بعد كشف العرض عن فشل تجربة " أبن أدم".
إن تلك الفكرة التي يحاول العرض طرحها ربما تكون ذات صلة قوية بما سبق أن طرحناه في مقدمة ذلك المقال بذلك التصور المثالي للذات الإنسانية كمركز للعالم يتحكم في مكوناته و منفصل عنها في ذات الوقت ، الأمر الذي يجعل من أي تلوث بالعالم أو تورط فيه أمر يستحق  التوقف أمامه كخطيئة تستحق الأسى والرفض لها ، فالعرض ينطلق من تصور مثالي للكائن البشري ككائن متفوق ومفارق للطبيعة لا يقترف جرائم القتل أو يخضع لرغباته غرائزة وبالتالي تصبح نهاية العرض التي يصرح فيها القرد الحالم بأنه سيجد طريقه عبر النور و الشمس .. الخ هو إعادة الإتساق للعالم المفتقد لإتساقه بسبب ذوبان الفروق بين الطبيعة و الإنسان و أبتلاعها الغابة و قونينها لبني أدم .
بالتأكيد فإن العرض من خلال ذلك الجنوح لمناقشة تلك الأفكار المجردة و المثالية يسعي لتخليق روابط بين واقع عنيف و غير أنساني يحيا في ظلاله صناع العرض وبين التصورات المثالية التي لا تجد لنفسها منفذ سوى عبر الحكايات الخرافية التي تنتهي بإعادة الإتساق للعالم من خلال البطل المنفصل عن العالم والمغترب عنه .
ولكن في سعي عرض " القرد مازال يحلم " للمخرج " لتحقيق أفكاره فإنه تورط في تخليق عالم كامل قائم على شبكة علاقات واسعة وأرتباطات بتاريخ للشخصيات سابق على بداية الحدث الدرامي فظهر العمل في كثير من الأحيان غائم الملامح وغير مكتمل الخطوط الدرامية ، فنحن أمام ثلاث مجموعات أساسية في عالم الغابة أولها (جماعة القردة) التي منحها المخرج معظم مساحة الأداء على خشبة المسرح بشبكة علاقات تظل غير واضحة و شخصيات هشة كانت بحاجة لكثير من التدعيم الدرامي حتى تصبح فاعلة في بناء العمل الدرامي ، و ثاني تلك المجموعات (مجموعة الغربان) والتي بدورها تمتلك خط درامي متقاطع مع الخط الدرامي الأساسي المتعلق بالقرد الحالم لكنها بدورها ظلت هائمة في زاوية مغلقة تمددت مساحة أنغلاقها مع الأزمة الأساسية التي واجهت العرض وهي مشكلة  "الصوت" حيث غرق معظم حوار الغربان في التشوش الناتج عن مشاكل تقنية بالصوت من ناحية و المشاكل الناتجة عن أسلبة الأداء التي عمد المخرج للتأكيد عليها للحد الذي صار فيه تقديم الأداء الصوت و الجسدي للحيوان أكثر أهمية مما تحمله الشخصية من خطاب . أما ثالث المجموعات فهي مجموعة سادة الغابة (الثعابين و ذو النقط السوداء) والتي بدورها علقت في معظم أجزاء العرض في أعلى يمين المسرح بموقع مهيمن على العالم لكن نتيجة للإزمات المتعلقة بعمليات أسلبة الأداء و عدم قدرة النص على تشكيل موقع واضح لشخصية (ذو النقظ السوداء) فقد ظلت تلك المجموعة بدورها غارقة هي الأخرى في ظلال العرض .
وفي مقابل ذلك يقدم العرض مجموعة معسكر الأغراب (البشر) لكنه بدوره شغل ذاته في بناء تقنيات كالإسترجاع ، و المونتاج المتوازي من خلال الإضاءة .. الخ للحد الذي ظهرت به معظم الشخصيات غير فاعلة و غير منتجة للمعني إلا في لحظات خطابها المباشر الذي تعرض من خلاله لموقفها دون الإهتمام بحضور تلك الشخصيات من خلال الدراما.
ربما كانت أزمة عرض مازال القرد يحلم الأساسية – برغم طموح صناعه لتخليق صور مسرحية مدهشة – هي عدم قدرته على تحديد ما يريد طرحه والتأكيد عليه وما كان من الممكن تجاوزه أو التغافل عنه ، فتشتت مجهود المخرج بين الأهتمام بأسلبة الأداء و تحديده جسدياً وصوتياً من ناحية ، و أهتمامه بتخليق صورة مسرحية شاعرية وشغل الفضاء المسرحي بتصميم حركي مبهر .. إلي جانب الإهتمام بالإضاءة و الشريط الصوتي .. الخ شغله عن الإهتمام بعملية الإختيار لما هو أساسي بالنسبة له وما كان من الممكن التخلي عنه .
في النهاية ربما كان عرض " مازال القرد يحلم " بكل ما يحمل من قلق و طموح هو تعبير عن صوت جيل يبحث عن مخرج من عالم قفد قدرته على التحكم فيه و أصبح خارج حدود سيطرته.


   

هناك تعليقان (2):

Unknown يقول...

مش مجرد نقد ... انت تملك أدوات الناقد صاحب الفكر والرأى

محمد مسعد يقول...

ألف شكر يا أستاذ سمير ..

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...