الثلاثاء، أكتوبر 27، 2015

زي عصافير الشجر .. حين تبدي العصافير سعادتها بالقفص

خلال القرن الماضي نجحت الحركة النسوية في العالم في دفع المجتمعات البشرية لتجاوز الكثير من المفاهيم و الأفكار التي ظلت لقرون طويلة في مرتبة المسلمات نتيجة هيمنة الرؤية الذكورية للعالم ، تلك الرؤية التي حصرت المرأة في دور التابع  وتعاملت معها إما كسلعة يتم تبادلها أو كقناة لعملية نقل الثروة عبر الرحم ، لكن التيار النسوي – كمعظم تيارات المقاومة  الحاملة لأصوات المضطهدين و المهمشين في العالم – أستطاعت تجاوز عملية التنميط الإجتماعي للمرأة التي حولتها من كائن بشري إلي شيء ممتلك تنتقل تبعيته في ظل شروط وقواعد شديدة الدقة و القسوة .
ولعل أول ما نجحت التيارات النسوية في العالم – وفي مصر بالتبعية – في تبديله هو موقع المرأة داخل الهرم الإجتماعي وتحويلها من تابع إلي شريك ممتلك لحقوق و يمتلك خطابه الخاص .
لكل ذلك ربما يكون من المدهش أن يخرج لنا عرض " زي عصافير الشجر " لنادي مسرح قصر ثقافة الشاطبي والمؤلف و المخرج محمد مصطفي  بتلك الرؤية التي تحمل الكثير من التزمت و الرجعية في التعامل مع المرأة ..والتي وصلت في المونولوج الختامي إلي الدعوة للتعامل مع  المرأة كعصفور مأسور في راحة اليد يجب حمايته و الحفاظ عليه  - مع بعض الحذر حتى لا يتحطم – لحمايته من السقوط الأخلاقي و الإنفلات بلا عودة ..
بالتأكيد فإن أي تحليل ينطلق من المداخل النسوية لعرض  "زي عصافير الشجر" سوف يقودنا مباشرة إلي إدانة كاملة وشاملة للعرض ، إدانة قد تصل إلي حد التعامل مع العرض كتعبير مثالي عن الخطاب الذكوري وهو في قمة حضوره و أستلابه للمرأة من خلال جعل  (للبطلة / الراوية / الأنثي) هي من تطالب بمزيد من الهيمنة الحازمة و الصارمة مع قليل من الرحمة .. في حين أن الدور الذكوري الوحيد (الذي يتم تأديته من خلال صوت البطلة) يكون هو الأكثر أنفتاحاً و قبولاً لحرية المرأة ولو إلي حين .
لذلك سوف نحاول هنا تجاوز ذلك المدخل – بشكل مؤقت – حتى لا ننجرف إلي نقض  الكثير من مناطق التميز بعرض " زي عصافير الشجر " كالأداء التمثيلي و الغنائي للبطلة (رحاب حسن)، و الطموح الموسيقي المهيمن على العرض للمخرج و المؤلف (محمد مصطفي).
لنتوقف أما الخطاب المجتمعي الخاص بالطبقة الوسطي المصرية الذي أنتج العرض و شكله بشكل كامل وأعاد تطويع كافة عناصره لتقوم بدورها في بناء العالم وفقاً لذلك الخطاب.
ولعل أول ما يمكن التوقف أمامع بالعرض هو بنية النص التي تتحرك بين خطابين متصارعين .. الأول خطاب متزمت و منغلق (تمثله الأم) وهو الخطاب الذي يطرحه العرض في بدايته بشكل مرح و ساخر سواء عبر الموسيقي أو عبر الأداء التمثيلي .
أما الخطاب الثاني فهو خطاب معتدل ومنفتح وعقلاني (يمثله الأب) وهو ما دعمه العرض من خلال الإكسسوارات (النظارة- الجريدة) .
وفي النهاية ينجاز العرض برغم تلك المقدمات التي تطرح مواقف من الخطابين إلي الخطاب المتزمت ، بل ويقوم بتدمير خطاب الأب بشكل كامل عبر ضرب الأب للإبنة وأنهيار الفتاة أخلاقياً قبل ذلك .
إن ذلك الصراع المبدئي و البسيط و الأولي يطرح مجموعة من التصورات التي يحملها العرض لعل أهمها - و أكثرها بروزاً – هو موقع الخطاب المنفتح و الداعي لتحرر المرأة في العرض .. فالمخرج أختار له موقع مركزي فوق خشبة المسرح بينما يتم تدميره من خلال الخطاب المتزمت و الأخلاقي للإم من جهة اليمين و التحلل الأخلاقي للفتاة من جهة اليسار .
إن العرض يحمل الكثير من التداعيات التي لحقت بالطبقة الوسطي التي تقدمها المونودراما الغنائية التي قدمها المخرج محمد مصطفي . حيث أصبحت الأفكار المنفتحة و الداعية للتحرر محط هجوم و مسائلة بقدر كل ما يبدو ظاهرياً من قبول بوجودها و مركزية لحضورها .. لقد تحولت الأفكار التحررية  لمصدر خطر يجب مهاجمته و التخلص من شروره حتى لا ينهار المجتمع.
إن  العرض يمتلك خياراته الواضحة التي يتم دعمها من خلال الموسيقي – التي أراد المخرج أبرازها عبر تفريغ الفضاء المسرحي من أي عنصر بصري – ولعل ذلك يبدو شديد الوضوح من خلال تخلي المؤلف الموسيقي عن الحالة المرحة  التي تهيمن على العرض في النهاية لصالح حالة تحمل الكثير من الشجن و الدوموع و الرغبة في دفع المتلقي للتعاطف مع الطرح الذي يقدمه النص .
فنجد (رحاب حسن ) تتوجه بشكل مباشر إلي المتفرجين -الذكور- بعيون دامعة وموسيقي تحمل الكثير من الشجن لدفعهم لتبني خطاب العرض المغلق و المتزمت و المعادي لكل دعاوى التحرر ، فالعصفور الأسير لا يطلب الحرية و أنما يطلب القليل من الرحمة و التعاطف حتى لا يتحطم .

في النهاية ربما يكون عرض "زي عصافير الشجر " حمل دون قصد ما يتجاوز ذلك الرهان الموسيقي و الأدائي ، فلقد حضر خطاب طبقة بأكمله و وعيها بالعالم سواء بالنسبة لموقع المرأة و دورها داخل النظام أو الخطابات التحررية التي لم تزل تصارع حتى تبقي في ظل أجواء عدائية 

ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...