الثلاثاء، أكتوبر 20، 2015

عطر التذوق الإغتراب عن المجتمع كخلاص أخير


يثير العطر لنادي مسرح التذوق بالأسكندرية والمعتمد على رواية العطر " لباتريك سوزكيد " ومن أعداد وأخراج "محمد ـسامة عطا" – الكثير القضايا التي ليس أولها كيفية تعامل المسرح مع النص الروائي وليس أخرها الإشتباك الذي يمكن أن ينشأ بين موضوع العرض وطريقة معالجته و الواقع المصري في اللحظة الراهنة .
وربما يكون مصدر كل تلك القضايا التي يثيرها العرض تدور في مجملها حول رواية العطر فمنذ البداية يبدو هناك أختراق لصوت راوي يقتحم فضاء العرض بشكل خشن وهو صوت غير منتظم الظهور وغير فاعل على مستوي بناء العرض إلا في أستكمال الثغرات التي حاول المعد و المخرج أستكمالها ولم يستطع تضمينها ضمن عالمه الدرامي ولعل مصادر خشونته و عدم تحوله لعنصر فاعل ترتكز في الأساس على المواقع التي تم أعتماد صوت الراوي بالعرض و الشخصيات التي تم تحميلها القيام بذلك الدور ففي بداية العرض يقوم بدور الراوي "ميرت فريد- بائعة البرقوق" قبلما يبرز فجاءة صوت الراوي من خلال "مصطفي عسكر -  بالديني" ليقوم بأحتلال موقع الراوي بشكل مؤقت قبلما يخفت صوت الراوي وتعود سلطاته من جديد لشخصية "بائعة البرقوق" .. وبالتأكيد فإن عدم أنتظام صوت الراوي و أنحصار دوره في أستكمال تقديم "الحكاية" قد خلق قدر من القلق على مستوي الصورة حيث لم يلجاء العرض لتفعيل تلك التقنية لتتحول للقيام بالدور الأكثر أهمية لدور الراوي في المسرح وهي تمزيق التجانس الدرامي وهيمنة الصوت الدرامي الواحد لصالح تخليق تعددية في الأصوات.
ولعل ذلك الإقحام "الخشن" – إذا جازت التسمية – لإستخدام تقنية الراواي قد أبرزت بشكل كبير حالة التعلق بالنص الروائي و هيمنته و سيطرته على العرض المسرحي .
ولكن وفي مقابل ذلك الحضور القوي للنص الروائي فإن المخرج حاول تجاوز الكثير من المعضلات المتعلقة بعمليات السرد عبر أستخدامه للعديد من التقنيات البصرية لعل أهمها أستخدامه لأجساد المؤدين كعناصر تشكيلية في بناء فضاء العرض في مقابل تراجع الوحدات التشكيلية للحد الأدني الذي جعل من حضور " مهند شاهين – مصمم الديكور" خافتاً وغير فاعل إلا في  الجزء الأخير من العرض عند بروز دور للكتلة الثابتة الوحيدة  الموجودة موقع مركزي على خشبة المسرح و التي ظلت تمثل عبء ثقيل على الصورة المسرحية في معظم أجزاء العرض.
وربما يكون ذلك الجهد للمخرج في تخليق صورة مسرحية من خلال أجساد الممثلبن كعنصر تشكيل أساسي و كذلك أستخدامه لنثر مادة مسحوقة قد ساهم بشكل كبير في نقل ذلك الحضور الطاغي للطابع الحسي بالرواية وتجسيده بصورة مسرحية بعيداً عن ذلك الضغط السردي القادم والمستمر والذي يظهر من خلال الصوت الروائي الذي ومن خلال محاولة العرض تقديم الحكاية ذات الطابع البوليسي .
وربما يكون ذلك الصراع الدائر بالعرض بين ما هو مسرحي  كأستخدام تقنيات الحركة البطيئة للتعبير عن حضور مستويات زمنية مختلفة بين وعي الشخصية الأساسية "عمر زيدان - غرينوي" ، وذلك في مقابل الحضور القوي للحدث الروائي بتقنيته المركزية و هي حضور صوت الراوي قد حسم في النهاية لصالح الرواية التي تجاوزت كافة تلك التقنيات والأساليب المسرحية مثل أستخدام أضاءات تعبيرية من خلال أصرار نص العرض على نقل مشاهد روائية إلي خشبة المسرح برغم عدم قدرة المسرح "كوسيط فني" القيام بنقل المستويات الأكثر عمقاً و ثقلاً بالعمل السردي والتي تهب رواية "العطر" قيمتها الفنية والتي كانت محصورة في أستخدام الوصف للمشاعر و سرد الأفكار و الأصوات الروائية في تنافرها و تصادمها .
ولعل ما يمكن أن يؤكد ذلك الطرح هو العلاقة التي تتكون نتيجة ذلك الصدام بين خطاب العرض الذي تهيمن عليه الرواية و الذي يعلي من دور الحواس والجسد في مقابل واقع المجتمع المصري الذي يسوده خطاب معادي للجسد وكل ما يرتبط به من حسية الأمر الذي تجلي في العرض في تخليه عن كثير من مصادر القلق التي ترتبط بحضور الجسد للحد الذي وصل في تقديم شخصية غرينوي على مستوي الأداء كشخصية غير مستقرة وقلقة غير مندمجة أجتماعياً سواء على مستوي النطق أو على مستوي أستخدام تعبيرات الوجه  في مقابل الرسوخ و الإستقرار لبقية الشخصيات . بالتأكيد فإن الجنوح التعبيري للعرض يمكن أن يبرر الكثير من تلك التقنيات الأدائية التي ربما تثير في ذاكرة المتفرج المحترف مجموعة من الروابط بين نص عرض العطر و نص تعبيري مبكر مثل فويتسك .. فغرينوي يتحول في عرض العطر لشخص مغترب عن النظام الإجتماعي وملفوظ منه تماماً مثل فويتسك وتتحول ممارسة القتل للمرأة إلي تعبير عن الصدام بين الفرد المغترب و النظام الإجتماعي .. وبالتالي تتراجع الطبيعة الحسية التي تميز شخصية غرينوي كشخص يحاول إيجاد مدخله للسيطرة على عالمه عبر الهيمنة على الروائح لصالح أغتراب رومانسي لفرد مختلف في مقابل مجتمع متجانس .
لعل ذلك التحليل يمكن أن يواجه بالكثير من العناصر التي حاول العرض المحافظة عليها عبر تتبعه للخيط الروائي الرئيسي ولكن في المقابل تظل عودة العرض عبر الأداء و عبر إعتماده على أبراز وعي الشخصية بالعالم كفضاء محايد لا تشغله وسوى ما يمكن أدراكه حسياً كالملامسة و الرائحة و التذوق من الأمور التي تؤكد عودة العرض لصيغة في العلاقة بين المجتمع و الفرد قائمة على الإغتراب و عدم التجانس وهي صيغة كانت تمتلك الكثير من الحضور بالمسرح المصري قبل يناير 2011 ولكنها تراجعت لبعض الوقت مع الحالة الثورية التي سيطرت على المجتمع المصري لفترة قصيرة .
ربما يكون ذلك ما يمكن أن يخرج به متفرج بعد كل ذلك القلق و الصراع بين الرواية و التقنيات المسرحية .. لقد وجد العرض غايته في تأكيد حالة التنافر بين الشخص المختلف و المجتمع المتجانس وأختفت الحالة الجمعية لنعود لنقطة يصبح فيها الفرد فاقداً لإنتمائه للمجتمع .. هذا هوما بقي من رواية العطر لسوزكيد وصالح للعرض بنوادي المسرح في 2015 كتعبير عن الوعي الجمالي و الاجتماعي للشباب المصري.


ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...