تري ماذا بقي من ذلك الأرسطي المتصوف (السهرواردي) ؟!!!
ماذا بقي من ذلك النموذج المثالي لمثقف العصور الوسطي بكل ما فيه من أمتزاج لعقلانية مدرسة المشائين الأثينية
بالسحر والسمياء وأنجاز الخوارق والتفسيرات الأسطورية للعالم, ماذا يصلح اليوم من
ذلك النموذج الهارب من عنف الواقع ومن قمع المؤسسات الحاكمة التي كانت تطارد للفلاسفة و
السحرة - وغيرهم من المشككين بسلطتها الزمنية والروحية – بالتجرد من العالم عبر
الزهد و الصوفية أو عبر الإلتصاق بأمراء وحكام ليتم أبتلاعه في منظومة السلطة ومن
ثم لفظه و قتله في النهاية ضمن تفاوضات أجنحة السلطة... ماذا يبقي لنا من السهروردي
حتى يبعث حياً اليوم بمسرح الغد ؟!
لعل تلك الإسئلة
الإفتتاحية حول عرض سيد الوقت - للمعد والمخرج (ناصر عبد المنعم) والذي يقدم على
خشبة مسرح الغد عن نص المسرحي للشاعر (فريد أبو سعدة) - تجد أجابتها في المشهد
الإفتتاحي للعرض الذي يقوم فيه الراوي (نوران) بتأكيد العلاقة بين عالم السهرورادي
وواقع المشاهد من خلال مماهة صورته بصور المثقف المصري المعاصر بحيث يصبح ذبح السهروادي
مجرد حلقة من سلسلة المحاكمات وأغتيالات التي لا تبدأ بالجعد بن درهم (الذي يرد
ذكر مقتله في نص العرض) ولا تنتهي عند محاكمة نصر حامد أبو زيد أو أغتيال فرج فوده
(اللذين يماهي العرض بين نهايتهم ونهاية السهروردي).
ويستمر عرض (سيد
الوقت) بعد ذلك المشهد الإفتتاحي في تنمية و تفعيل المجاز الذي يصير فيه
السهرواردي كناية لكل مثقف وصاحب رأي .. لكن بناء العرض لذلك المجاز جذب معه – دون
قصدية- العديد من التناقضات التي تشكل شخصية المثقف والمفكر في العصور الوسطي كما
حمله الكثير من الأزمات التي تحيط بنموذج المثقف المصري في القرن العشرين وهو ما
أنعكس على العرض نفسه بالسلب في بعض الأحيان .
ولعل تجاور و تمازج
تلك التناقضات و الأزمات أنعكست بشكل واضح في تخلخل الخطاب التقدمي الذي يتبناه
العرض للحد الذي يجعل من خطاب الفقهاء - الذي يهدف العرض لنقض خطابهم الرجعي - أكثر تماسكاً ووضوحاً وتحديداً لأهداف الممارسة
القمعية وعمليات المنع كوسيلة لحماية المجتمع والثقافة في ظل المخاطر التاريخية في
مقابل مثالية محلقة غير قادرة على ملامسة تقديم بدائل للواقع (سواء واقع
السهرواردي أو واقع المتلقي).
بالتأكيد ربما يكون
جزء من قوة ذلك الخطاب قابعة في الهيمنة الكبيرة للخطاب الديني على المجتمع المصري لكن ذلك لا يمنع كون العرض نفسه قد تهرب من مواجهة سلاسل
الأسئلة التأسيسية التي يطرحها أستدعائه للسهروردي .. مثل تحديد هوية ذلك الصوفي
الذبيح الذي يحتل بالنسبة "للملك الظاهر"(بالعرض) موقع الأب الواهب
للسلطة في مقابل قمعية الأب الواقعي (صلاح الدين/ النسر) فيصير السهرواردي المثقف
المتقرب من السلطة المتحصن بمعرفته (ووعوده للحاكم بسلطة مطلقة وألوهية)... قبلما
يهبه العرض أدور أخرى مثل المسيح المبشر بمملكة سماوية وقطيعة مع العالم تارة،
والعقائدي الذي يبحث عن تطبيق أفكاره عبر السيطرة على السلطة تارة أخرى ، و
العلماني المناهض لسلطة رجال الدين تارة ثالثة ، والفقيه (الحقيقي) تارة رابعة ...
الخ. وبالتالي يصبح أمام المتلقي الإختيار بين تلك الخيارات التي تتداخل في حركة
مستمرة بين النفي المتبادل بين تلك الصور للسهرواردي .وبالتالي أنعكس ذلك على بطل العرض
(السهروادري/ وائل أبراهيم) الذي صار ملزماً بأداءه شخصية غير متسقه درامياً وما يرتبط بذلك من صعوبات تشكيل
للشخصية وأختيار طبقة الصوت وتشكيلها داخلياً وجسمانياً فيصبح مطالباً في لحظة
بالقيام بدور الصوفي المحتقر لمادية العالم
ويصبح في أحيان أخرى العقائدي الذي يسعي لإكتساب (الملك الظاهر) لتحقيق
مشروعه الإصلاحي .. الخ وبالمقابل فإن
شخصيات الفقهاء (معتز السويفي – محمود الزيات
صلاح السيسي) أنماط وحيدة الوجه سواء على مستوي النص أو على مستوي التصور
البصري للعرض الذي قام بتوحيد زيهم وألوان ملابسهم (الأصفر).. وهو ما أدي إلي
نتيجتان متعارضتان الأولي هي السخرية و التحقير للخطاب (وهو ما أهتم الممثلين
بتأكيده)الذي يمثلوه والثانية تأكيد خطابهم عبر نزع كل تناقض يمكن أن يتأتي الشخصيات (وهو ما تحقق برغم جهود الممثلين و
المخرج في التأكيد قلق الخطاب الذي يمثلونه وعدم تماسكه) ..
ويدعم كل ذلك
ضبابية شخصيات يفترض أنها مساندة (للسهرواردي) مثل الظاهر ووردة ... فالظاهر/ تامر
نبيل يكتسب حضوره بعالم العرض من خلال تناقضاته كحاكم يريد أمتلاك العالم والتمرد
على الدولة (النسر/ أبيه) عبر المثقف الذي يعده بأن يمتلك العالم تحريره من كل ما
يصقله .. لكن العرض لا يهتم بتأكيد ذلك بقدر ما أهتمامه بالتعمية عليه عبر الملابس
التي تخفي وجهه طوال الوقت كمقابل لعدم القدرة على مواجهة الواقع .
وكذلك الحال بالنسبة لشخصية (ورد/سامية عاطف) حيث يبدو حضور
الشخصية شديد الهشاشة وعديم المعني بعد أنتهاء دورها الدرامي في توصيل السهرودي
للظاهر برغم الأداء الجيد للممثلة في مشاهدها المختلفة .. بينما تبقي شخصية التلميذ / الطفل الذي ينتقل من شيخ لشيخ دون أن يؤثر
بفارق حقيقي بالدراما إلا بتمزيق رسالة ورد للسهرواردي إذا ما تعاملنا مع تحول
مصير شخصة ورد من عاهرة لمتصوفة جزء أصيل من تشكيل العالم وأن العرض يدعم دور
السهروادي كداعية .
وفي النهاية يحيل العرض كافة تلك الخيوط الدرامية و الشخصيات و الأنماط لواقع المتفرج وخبراته وأنتمائته الدينية
والأيديولوجية وذلك في رهان على قيام ذلك المتفرج المثالي
بإعادة ضبط وتشكيل خطاب العرض عبر عمليات أزاحه و تجاهل و تأكيد ودعم .. الخ.
بالتأكيد فإن ذلك
الحضور المتزامن لكافة تلك العلاقات يلقي بظلاله على العرض في صورة
التخلي عن دور نوران نفسه (وليس الشخصية) كسارد حيث ينزوي ويتلاشي ببطء ليتحول
من نموذج معاصر للمثقف الذي يبحث عبر سرد ومسألة التاريخ والواقع (من خلال إستدعاء السهروادري من التاريخ ) إلي
ظلال خافته سرعان تتلاشي لدرجة أنتهاء العرض دون أهتمام بمصير تلك الشخصية التي
يقدمها في أفتتاحيته كمركز للعالم وصانعه (اللهم إلا عبر أختياره لنهاية من
النهايات المتواترة للسهروردي دون تحديد أو تبرير لسبب ذلك الخيار) وكأن في عالم
السهرواردي والملك الظاهر إجابة لكل سؤال يطرحه العرض على الواقع .
ويتمدد ذلك ليشمل
أيضاً التصور البصري .. بداية من عمليات تشكيل فضاء العرض (المهندسة /نادية
المليجي) التي أعتمدت على التجريد والأستعمال المحدود للخط العربي (والزخارف
النباتية (بالقناديل)) كوحدة تشكيلية تأسيسية تكتسب قيمتها مع شفافية الخامة
المستخدمة في تشكيل الفضاء المسرحي والطبيعة اللونية التي تحيل للون صوف المتصوفة
.. وهو ما يشير لهيمنة السهرواردي ورؤيته للعالم كمتصوف وأن العرض ينحاز لتلك
الرؤية .. ولكن ورغم جمالية ذلك التصور والإمكانيات التي تطرحها السواتر الشفافة
الإ في الحدود الأدني ..
وعلى مسستوي أخر أجتمع
راقص صوفي براقصة معاصرة وتجاورا وتبادلا المواقع .. بل وطرح العرض للراقصة موقع
مركزي فوق خشبة المسرح (دون تحديد للعلاقة أو لدور أو لموقع أو هوية) وذلك
أعتماداً على عمليات التلقي التي يحتل فيه راقص البالية (أوالتعبيري) موقع مناهض
للخطاب الديني التقليدي والمتشدد.
برغم أن التقابل بين ما يحمله جسدها الراقص من مرجعيات يناهض ما يطرحه جسد الراقص (راقص المولوية) يمكن أن يقدم للمتلقي ثنائي متنافس و متصارع على الفضاء لكن العرض تجاهل كل ذلك وأكتفي بتجاورهم كممثلين لذات الخطاب الذي يصير فيه من الممكن أن يتجاور أرسطو والصوفية الإسلامية .. وهو ما أدي في النهاية لأن يفتقد ظهورهم المتكرر– بالتدريج – للدور الجمالي الذي يقومون به .
برغم أن التقابل بين ما يحمله جسدها الراقص من مرجعيات يناهض ما يطرحه جسد الراقص (راقص المولوية) يمكن أن يقدم للمتلقي ثنائي متنافس و متصارع على الفضاء لكن العرض تجاهل كل ذلك وأكتفي بتجاورهم كممثلين لذات الخطاب الذي يصير فيه من الممكن أن يتجاور أرسطو والصوفية الإسلامية .. وهو ما أدي في النهاية لأن يفتقد ظهورهم المتكرر– بالتدريج – للدور الجمالي الذي يقومون به .
ولكن أليس في ذلك
الحضور المتوازي للراقص والراقصة ترديد لذلك التناقض الذي سبق أن قمنا بمحاولة
رصده في شخصية السهروردي و دور نوران .. فإلي من ينتمي عالم العرض .. هل ينتمي
لعالم صوفي متجرد يسعي للتخلص من التعلق بالإرض ويسعي مجذوباً للنور الإلهي كما يشير
التشكيل البصري للفضاء ورقصة المولوية.. أم ينتمي لعالم الراقصة الذي لا يكتسب معناه
إلا عبر عمليات الإحالة والإسقاط على واقع المتفرج؟!
ربما تكون الإجابة على
ذلك السؤال حاضرة في أختفاء الحالة الطقسية من العرض برغم توافر كافة الأسس تحققها
(الأجواء الصوفية .. دفع نوران للمتفرج للتحول لمشارك ... الخ) ولجوء العرض لنموذج
العلبة الإيطالية (خشبة المسرح التقليدية) بكل ما تعني من تقيد وفصل للعلاقة بين
العرض و المتفرج
إن العرض يقوم
بعمليات أحالة طول الوقت لواقع مختلف يكتسب فيه تناقضه وأختلاله معني .. أنه عالم
متلقيه المثالي الذي يحيا تناقضاته وتمزقه بين الخطاب التنويري الذي يتبناه و ومناهضة
السلطات الخطابية والفعلية بالمجتمع لذلك الخطاب ، الأمر الذي يجعل مع محاولة
الموائمة و إعادة صياغة الخطاب مهمة يومية لذلك المتلقي حتى يتحول من مناهض للخطابات
الرجعية لجزء منها أكثر تحرراً (قليلاً) فحسب. وبالتالي فإن أي محاولة لتخليق حالة
طقسية ستبدو عملية عبثية .. فالطقس منتج لتحول وتبدل وعالم العرض لا يملك إلا إعادة محاكاة الهزائم و
الإنكسارات الواقعية ولا يملك خيار أخر.. فلن ينتقل المتفرج بعد العرض لحالة الفعل
أو لنقد ونقض نموذج المثقف المصري البرجوازي المنسحق أمام سلطة الدولة المدنية
التي توفر له الحماية و الغطاء من السلطة الدينية . سلطة الدولة التي يحتل المثقف
مركزها أحياناً كمرشد للمستقبل أو دور المنظر لسلطتها في مقابل سلطة رجال الدين
الذين ينازعونها سلطاتها . وهي ذات السلطة التي يتحول لضحية لها وقتيلها إذا ما
تقاطعت مصالح أستمرارها مع حياته ذاتها.
وبالتالي فإن
الإجابة عمن ينتمي إليه عالم العرض ستكون أنه ينتمي لذلك لعقل ذلك المثقف المعاصر
الممزق .
ربما يكون ذلك سبب
لحالة الشجن التي يحاول العرض تخليقها طوال الوقت عبر الإضاءة الضعيفة والإنشاد
الصوفي والموسيقي ... فنحن أمام تخليق لوضعية تراجيدية لبطل برجوازي ممزق بين
هروبه الدائم بحريته من ناحية ، وأرتباطه الدائم بسلطة الدولة كجزء من مشروعه
ليوتوبيا الحرية والديمقراطية و العدالة في مقابل رجعية المؤسسات الدينية و
مشروعات الرديكالية الإسلامية التي لا تعد سوي بالذبح من ناحية أخرى ... بطل
تراجيدي ممزق بين تمرده وعداءه لكل سلطة وبين حتمية حضور سلطة ضامنة لحريته ...
لينتهي في النهاية إما قتيلاً أو زاهداً منكفئ على ذاته أو منسحقاً في ماكينة
السلطة.
من الصعب أن ندعي
أن ربما يكون العرض يحمل واعياً كل تلك الأفكار ... ولكن على الرغم من كل ذلك فإنه
بتناقضته و مشاكله يحيل إليها تماماً كما يحيل إليها بمرتكزات الفنية و الجمالية
كالموسيقي والغناء التي مثلت أحد أفضل عناصر العرض والتي جمعت بين الإنشاد الصوفي
وأستخدام ألات موسيقية غربية مثل البيانو... تماماً مثلما أستطاع العرض أن يجمع
بين طموحه لتبديل الواقع ومحاولة للتماس الجمالي و الروحي الذي ينتزع المتلقي من
عنف الواقع .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق