الخميس، يونيو 04، 2015

محمود دياب شاعر المسرح .. قتيل المرحلة الغرباء لا يشربون القهوة .. حين يقاوم المسرح السلطة


نشر هذا المقال ضمن عدد ابريل 2015 من مجلة الثقافة الجديدة القاهرية كمقدمة قصيرة لإعادة نشر المجلة لمسرحية (الغرباء لا يشربون القهوة) للكاتب الراحل محمود دياب 

ربما لم يكن من قبيل المصادفة أن تعصف الهزائم العامة و الأزمات الشخصية بحياة الكاتب الكبير محمود دياب (1932-1983) ... فلقد شكل بمواقفه ، ومسرحه ، و حياته العاصفة ، صورة لكاتب غير متوافق مع السلطات الأجتماعية و السياسية المهيمنة .. فصارت حياته كمسرحه نموذجاً لمناهضة ومعارضة كل سلطة تسحق الضعفاء وتنتصر للأقوياء ، حيث ترك عمله كمستشار بهيئة قضايا الدولة متخلياً عن الوجاهة الإجتماعية وما يرتبط بالقضاء من سلطات ومواقع داخل النظام الحكم-  بالدولة المصرية- لينتمي لمشروع الثقافة الجماهيرية الذي أمن به و أنتمي إليه منذ تأسيسه .. فترك العاصمة وأضوائها ووعودها بالنجاح و الشهرة والمال وأكتفي بدوره كمدير قصر ثقافة الحرية بالأسكندرية ، وعلى ذات المنوال نسج أعماله الإبداعية ..  فسخر مسرحه لكشف زيف وهشاشة السلطة وفاضح عوراتها وأساليبها في السيطرة والقمع فكتب للفقراء والفلاحين (الزوبعة وليالي الحصاد و الهلافيت) محاولاً تقديم مسرح مصري  يستمد تقنياته الجمالية و الإدائية من فنون الفقراء وطرقهم في التعبير والأداء ، وتخلي بالمقابل عن مسرح الطبقة الوسطي القاهرية الذي كان –و لازال - مهيمناً ومنفصلاً بقيمه الجماليه المستنسخة من المسرح الأوربي ... لقد عاش (دياب) حياته مقاتلاً لقيم المهيمنين وسلطاتهم السياسية و الاجتماعية و الجمالية  ... لينتهي به الحال في النهاية  لمصير لا يختلف كثيراً عن مصائر نجيب سرور وميخائيل رومان  ... أنتهي وحيداً ... منبوذا ... منسياً .. محاصراً .. موصوماً بالجنون
تلك سيرة حياة وموت عابرة لكاتب صار يصنف مع (سرور ورومان) كأحد شعراء المسرح .. وأحد قتلي المرحلة كما وصفه الكاتب السوري الكبير سعد الله ونوس في مقدمة دراسته (بيانات لمسرح عربي جديد) .
وربما كان نص (الغرباء لا يشربون القهوة) الذي يشكل أحد أجزاء ثلاثية (الرجل الطيب في ثلاث حكايات) نموذجاً لذلك المسرح الذي أنتمي إليه محمود دياب و قاتل من أجله ... فمنذ البداية تتشكل في آفق النص ملامح العالم الذي تصارع معه محمود دياب فنحن أمام منزل عربي التصميم و الطراز .. منزل تظهر عليه أثار مرور الزمن في صورة شقوق تم ترميمها .. عالم هادئ لا يقطع سكونيته سوي مشاعر الأسي التي تنتاب الرجل تجاه أيام تجمع الجيران  لشرب القهوة معه ومشاعر الفقد التي يعاني منها منذ هاجر أبنه الوحيد خارج البلاد ... عالم ساكن لا يلبث أن يفجر مع أقتحام الغرباء المتصاعد لعالمه وأنتهاكهم لخصوصيته ومنزله وتاريخه ...  ليصل النص- في النهاية - إلي تحريض صريح على المقاومة لكل الغرباء الذين لا يشربون القهوة  والذين يمتلكون أوراق صفراء تهبهم حق أنتزاع حياة  وتاريخ وممتلكات الرجل الطيب والمسالم الذي يحاول المرة بعد المرة تخطي حضورهم بالتجاهل والنسيان أو عبر الرجاء والإستعطاف .
ومن هنا يتضح موضوع الصراع الذي يخوضه (دياب) وبطله في النص .. فالمنزل والتاريخ والهوية والفردية صاروا في مرمي السلطة القمعية التي تنتهك المنزل وتمزق التاريخ و تمحو التمايز والفردية .
ومن هنا  فإن أي تحليل سطحي للنص يمكن أن يكشف عن حضور تلك السلطة المطلقة الصلاحيات والمفتقدة لأي ملامح إنسانية والتي تتجلي فى الطبيعة الآلية لحركة ولضحكات الغرباء وعدم وجود تمايز بين أفراد مجموعة الغرباء فالقارئ والمتفرج يمكنه أن يكتشف بسهولة أنه أمام نسخ مكررة لوجه السلطة القمعي البارد والجاف ... كل ذلك في مقابل الرجل الذي يمتلك علاقة إنسانية بكل ما يحيط به بداية من القهوة مروراً بالمنزل وزوجته وشجرته ونهاية بأوراقة التي يمزقها الغرباء.
ربما تكون تلك الثنائية المتعارضة التي يقيمها النص (الإنساني/ الألي ) هي أبرز الثنائيات التي حافظ النص على حضورها فكل ما هو آلي ينامي للسلطة في حين ينتمي الرجل المقموع لما إنساني .. وهو ما يجعل من التفسير الذي قدمناه للنص كأنتصار للفردية والإنسانية في مقابل السلطة أمراً مقبولاً حتى ولو بشكل مؤقت حتى تبرز مستوي أعمق في تفسبر النص.
من هذا التفسير الأساسي الذي يقوم عليه النص أنطلقت الكثير من الرؤى الأخراجية التي مالت في معظمها إلي التأكيد على السمات المفارقة المميزة لغرباء مثل تحويلهم إلي شياطين ... أو التأكيد على كونهم ممثلي الذراع القمعي للنظام الحاكم ... أو حتى عبر تأويل النص تأويلاً سياسياً مرتبط بالقضية الفلسطينية حيث يصير البيت هو الوطن المغتصب الرجل هو الشعب الفلسطيني بينما يتحول الغرباء إلي صهاينة مغتصبي أراضي وتواريخ .. الخ . ولكن يظل أبرز ما أجمعت عليه معظم الرؤى هو شيظنة مجموعة الغرباء والتأكيد على أليتهم وتدنيهم عن المتوسط الإنساني .
ورغم ما يمكن أن يتجلي من سطحية بعض تلك التأويلات للنص إلا أنها في النهاية تؤشر على مدي عمق وتعدد مستويات التأويل الممكنة للنص والتي تمتد من مستوي تحليل علاقات السلطة المتجذرة داخل المجتمع وثقافته ووعيه ، ولا تنتهي عند تلك التأويلات التي تحتجز النص داخل عمليات تعيين محددة ونهائية مثل التأويل مشروع النص كمعادل للقضية الفلسطينية
ولكن ورغم شيوع ومباشرة  التفسيرات السابقة .. فإنه من الممكن أكتشاف العديد من المستويات داخل النص مثل الإنطلاق من مستوي كشف سلاسل السلطة الهابطة التي تحتل (سنية/ الزوجة) حيث يمكن أكتشاف الكثير من تحليل كيفيات حضور الزوجة بالنص (أو غيابها) .. فالمرأة في نص (الغرباء لا يشربون القهوة) قابعة في الغياب ، محتجزة بالمنزل ، مستبعدة من الفضاء المسرحي والدرامي  .. لا نري منها سوي تلك اليد التي تمتد لتقدم القهوة (للرجل) ... بل أن حتى  صوتها محتجز ومحاصر لا يصلنا إلا عبر صوت الزوج/ الرجل .. وبالتالي فإن حضورها مرتهن بحضوره وبالتالي يمكن أكتشاف كيف يفضح النص عن نزوع لإعادة بناء علاقات السلطة داخل المنزل فكما يتآكل حضور (الرجل) أمام حضور الغرباء .. فإن حضور الزوجة يذوب في حضور الرجل ..
كذلك يمكن أن نكتشف عبر تحليل شخصية السكير الذي يظهر بشكل عابر في نهاية النص ... شيوع ذوق الغرباء الرافضين لتناول القهوة ... وهو ما يشير من طرف خفي إلي تصدع عالم الرجل وتآكله .. ولكن بالمقابل يشير النص عبر المونولوج الختامي للبطل إلي أستمرار حلم المقاومة .. سواء عبر فكرة أستدعاء الإبن ، أو عبر المقاومة السلبية بجمع بقايا قصاصات الأوراق التي مزقها الغرباء.
بالمجمل فإن النص يمكن أن يكون أحد النصوص القليلة في تاريخ المسرح العربي التي تمتلك عدة مستويات للمعني .. والتي يمكن أن تطرح نقاش حقيقي حول علاقات السلطة وسلاسلها والعلاقات المعقدة بين الذات والأخر أو بين الرجل والمرأة .. الخ .. وكلها مستويات يمكن التوقف عندها وإعادة تشكيلها لتخليق عرض جديد لنص لم يزل يحظي بحيوية وأمكانيات تجسيد بصرية غير متناهية ... ولعل ذلك هو سبب حضور النص حتى اليوم على خشبات المسارح المصرية - وفي كافة المستويات الإنتاجية-  بكل موسم مسرحي جديد ويعاد أستكشاف قدرات النص وقراءته بما يتلائم مع واقع كان أكثر قسوة (وأقل براعة) من مؤلف مسرحي كبير أسمه محمود دياب.

ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...