سرعان ما طالت عواصف القرن باليأس الرومانسي للتسعينيات
حيث عصفت الأحداث والتحولات الكبري
(الإجتماعية و السياسية و الأيديولوجية و التكنولوجية) بالنظام العالمي الوليد
ووضعت أفكار التسعينيات الكبري مثل نهاية التاريخ محل أختبار عنيف و قاسي .. الأمر
الذي دفع الطبقة الوسطي المصرية لصراع وجود لم تكن مؤهلة له ... فعاد من جديد خطاب
المقاومة ليحتل مكانه في المسرح المصري بعد أن كان قد غاب خلال التسعينيات ..
وعادت الطبقة الوسطي لتحتل خطابات المسارح بأطروحاتها و أفكارها و شكوكها و قلقها
ومخاوفها ورغباتها .. لكن تلك العودة للهم الاجتماعي لم تكن بذات النسق الذي كانت
عليه في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين
.. فلقد فقدت الطبقة الوسطي المصرية ذلك التفاؤل التاريخي بقدرتها و أمكانياتها ..
وأصبحت قناعاتها وخطاباتها محل تسأول و شك .. لقد أصبحت في موقف دفاع عن وجودها وأصبح
التمسك بالمشاريع الكبري (القومية .. الأسلامية .. الوطنية) محل تنازع و تشكيك بين
الأطراف المشكلة لتلك الطبقة التي وجدت نفسها في النهاية أمام لحظة سقوط حقيقي
فأصبحت تتشبث بكل فكرة وتشكك في كل فكرة ..
وربما يكون عرض (3D) للمخرج محمد علام و الكاتبة صفاء البيلي الذي يقدم بقاعة صلاح
عبد الصبور بمسرح الطليعة ضمن الموسم الشتوي لهذا العام نموذجاً لذلك المسرح الذي
أنتجته لحظات الأزمة التي تمر بها طبقة (بكافة شرائحها) بداية من النص الذي يقوم
على ثلاثة نصوص تراثية مختلفة المصادر (كيلوباترا وأنطونيو كمروية تاريخية .. عطيل
كجزء من تراث الوسيط المسرحي ... شفيقة ومتولي كنص شعبي ) .لكن تلك النصوص
التراثية لا يتعامل معها النص بذات التوقير التقليدي الذي أعتاد المسرح المصري أن
يعامل به مثل تلك النصوص .. فلم تعد تلك النصوص تمثل مرجعية لهوية أو مستقر لأصل
أو منطلق لتعريف الذات والأخر بل على العكس أصبحت تلك النصوص ذاتها محل تشكيك و
نقد و تحطيم لمركزيتها التاريخية و المسرحية و الأخلاقية .. فلم يهتم النص بصناعة
نقاط ربط بين الثلاثة نصوص المرجعية بل أكتفت الكاتبة (والمخرج بالتالي) بتجاور
تلك النصوص دون أن تجعل من أحدها مرجع للنص التالي فلا توجد روابط درامية أو
منطقية أو تاريخية بين الثلاث نصوص إلا ما يمكن للمتفرج أن يصنعه عبر تأويلاته
الخاصة التي يمكنه أن يصنعها عبر ذلك التجاور البارد للنصوص وتتابعها المحايد (أو
الذي يرغب في أن يبدو محايداً)..
لم يتوقف الأمر عند حدود ذلك التجاور لتلك النصوص
التراثية بل أنه أمتد ليشمل تحطيمها .. فلقد قدم نص العرض ثلاث معالجات لكل نص
(تقليدية .. ساخرة .. معارضه) لتتحطم النصوص في النهاية بين مرايا تأويلتها و
تمثلاتها المختلفة سواء تلك الرؤى التقليدية التي حرص المخرج فيها على تخليق أوضاع
بصرية وأدائية كلاسيكية .. أو تلك الساخرة التي أعتمدت البارودي (المحاكاة
الساخرة) للنصوص ( أو معارضتها عبر إعادة بناء النصوص) التي أعتمد تقاليد الكوميديا الخشنة و النكات الجنسية
والمبالغات الأدائية ... الخ. لنجد أنفسنا في النهاية أمام بقايا لعوالم محطمة و
نصوص متشظية و منتهكة لحد الإبتذال المتعمد .
وعلى المستوي البصري قام مصمم السينوغرافيا (وائل عبد
الله) بتخليق عالم بصري لا يقل صخباً عن
عالم العرض حيث تخلي عن الطبيعة الثابتة والساكنة المميزة للمبني المسرحي عبر
تشكيل (ما يمكن أن نطلق عليه هنا للتوضيح) دوار ومحايد .. فلا يوجد سوي اللون
الأبيض المحايد لغرفة دوارة ذات طابع تجريدي .. حياد بارد غير مهتم بالإشارة أو
تحديد تاريخ أو مكان أو زمان .. بل يكتفي بوضعه كتشكيل متحرك غارق في فراغ أسود لا
يقطعه سوي تلك الكلمات و الجمل المبتورة المكتوبة على حوائط قاعة صلاح عبد الصبور
بألوان فسفورية .. الأمر الذي يسر للمخرج تشكيل المشهد بشكل رأسي عبر أستخدام سطح
تلك الغرفة الدوارة .. أو تبديل زاوية الرؤية الثابتة للجمهور عبر تحريك التشكيل
بشكل دائري .. الأمر الذي ساهم من جديد في تأكيد حالة عدم الثبات ونسبية العالم و
التشكيك في الثوابت التي يطرحها العرض بل وتشكيلها وبنائها في بعض الأحيان فالنص
المنتهك أصبح يتحرك على أرضية دوارة وغير ثابتة في فضاء مجرد ومحايد ينتزعه حتى من
أي إشارة مرجعية تلصقه في أصل ما يمكنه من إعادة بناء ذاته ..
ولعل مجموعة الممثلين (ياسر فرج ، رحمة، هاني سراج،هاجر
عفيفي، ميدو عبد القادر، بسمة شوقي، إبراهيم سعيد) كان لهم دور كبير في تحقيق تلك
الرؤية التي يطرحها العرض .. فمن خلال تسعة مواقف درامية مختلفة وثلاثة فواصل
(حكاية إطارية لكل نص) قام الممثلين بمجهود كبير في تحقيق قدر عالي من التنوع و
التبديل بين شخصيات و أنماط وأنتقال بين أساليب أدائية متنوعة وانتقال بين اصوات
وأوضاع جسدية متنوعة .. لكن ما قلل من ذلك المجهود في بعض الأحيان كان حالة
الإنجذاب لضحكات صالة المتفرجين وأستمتاع
بعض الممثلين بقدرتهم على تخليق الكوميديا حتى لو كانت خارج السياق.
ولكن وبعد كل ذلك هل يمكن أن نعتبر عرض (3D)
نموذجاً لرؤية نقدية لواقع مجتمع وعرض للصراع بي مؤسسات الدولة وتفسخ للطبقة
الوسطي ؟! أعتقد أن الإجابة ربما تكون بالسلب فالمخرج لجاء في النهاية لمذكرة
تفسيرية للعرض من خل أغنية شارحة وعرض فيديو لواقع الإعلام المصري ... محطماً كل ما سبق أن قام ببنائه و
متماساً مع ذلك القلق الطبقي الذي يخترق العرض و الذي يحاول أن يجد نقطة إرتكاز أو
متهم أو أصل لحالة الإنهيار التي يعاني منها .. كما يتبدي ذلك في الحكايات
الإطارية لكل نص .. فالقلق التقليدي من تفسخ الحكايات المؤسسة لرؤية المجتمع لنفسه
دفع الكاتبة و المخرج لتخليق حكايات غير ذات قيمة حقيقية أو دور في بناء عالم
العرض لمجرد إيجاد ارض ثابتة يمكنهم منها الشعور بالإستقرار ... وهو ما يمكن أن
نجده على مستوي السينوغرافيا في تحديد
المخرج و مصمم السينوغرافيا لموقع المتفرجين مقابلين للعرض في تقسيم تقليدي لمساحة
الأداء و الفرجة ...
في النهاية ربما يمكن أن يلتقط المتفرج من العرض تأويلات
حول الواقع السياسي أو نقد لبعض مؤسسات الدولة أو ظلال لرؤية نسوية للنصوص
التراثية لكنه لن يستطيع أن يفلت من صوت تلك الطبقة التي تحاول الصراخ من فوق خشبة
مسرح الطليعة وهي تمزق كل ما تملك وتبحث عن بدائل في حالة فزع ورعب حقيقي ربما لم
يستطع صانعي العرض السيطرة علية أو تأمله بما يستحقه برغم ملامستهم أياه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق