الأربعاء، فبراير 04، 2015

المسرح القومي مرحلة التأسيس بين الموضع و الموقع

* كان من المفترض أن يكون هذا المقال ضمن كتاب يتناول تاريخ المسرح القومي (وهو كتاب طور الإعداد من الباحث سمير حنفي بالمركز القومي للمسرح .. ولكن لم يتحقق ذلك للإسف)
* أعتمد هذا المقال على كتاب د. السيد على أسماعيل – تاريخ المسرح المصرى فى القرن التاسع عشر .. كما أعتمد على كتاب سمير عوض (المسرح القومي) وكذلك الخطط التوفيقية لعلى باشا مبارك و الخطط المقريزية للمقريزي .

في كثير من الأحيان يبدو وكأن هناك رابط سحري بين بين الموقع و الموضع  كما تحدث الدكتور جمال حمدان  ، فلا يمكن على سبيل المثال أن نفصل بين موقع مدينة القاهرة على الخريطة وبين ذلك الموضع المميز الذي جعل من ذلك المكان محط أهتمام كل من فكر في إنشاء عاصمة موحدة و قوية ومركزية تضم الشمال و الجنوب ، ولذلك فمهما أختلفت أسمائها (القاهرة ، الفسطاط ، القطائع ، منف .. الخ) سيظل هناك ذلك الموضع الجغرافي الذي يوفر وضعية مثالية لقيام عاصمة مركزية لدولة كبيرة متمحورة حول النهر .
كذلك الحال بالنسبة للمسرح القومي ، فهناك رابطة تاريخية بين ذلك الموضع الجغرافي القائم على تخوم المدينة القديمة (القاهرة الفاطمية) وبين ساحل بولاق  .. ذلك الموقع المميز الذي نمت وإزدهرت فيه الفنون الأدائية ووجدت لنفسها فيه مستقر يمتاز بإنفلاته من سيطرة المدينة وقوانينها الاخلاقية والاجتماعية رغم إندماجه الطبيعي في تكوينها كجزء منها في ذات الواقت.
وبالتالي فإننا لن سنجادل بأن للمسرح القومي موضع و موقع في قلب مدينة القاهرة التي هي بدورها تتموضع جغرافياً وتاريخياً و سياسياً و أجتماعياً  وأقتصادياً فوق خريطة الوطن.
فالأزبكية كما يشير - أكثر من باحث- كانت ممتلكة لوضعية فريدة على خريطة القاهرة (منذ العصر الفاطمي وحتى الحملة الفرنسية) فهي كانت تقع على حافة المدينة القديمة من ناحية ، وتمثل المعبر الطبيعي لبلوغ بولاق في غرب القاهرة وشبرا في شمالها ، كما تميزت (منذ التطويرات التي  قام بها الخديوي أسماعيل) بأنها قلب المدينة الجديدة والحدود الفاصلة بين القاهرة المعزية و القاهرة الإسماعيلية - أو القاهرة الإفرنجية –  وكذلك فإن إمتدادها الطبيعي و أنبساط ذلك الموقع الممتد من بولاق و حتى تخوم القاهرة الفاطمية جعل منها موقع مرشح لنمو مجال ملائم للظواهر الأدائية لعدد من الأسباب .. لعل أهمها عدم إستغلالها في الزراعة كما تشير معظم المصادر التاريخية بداية بالخطط المقريزية و نهاية بالخطط التوفيقية لعلى باشا مبارك حيث أكدت تلك المصادر على كون تلك المنطقة ظهير للنيل تغمر بالمياة في مواسم الفيضان وبالتالي فلم تكن تلك البقعة من الأرض ذات قيمة أقتصادية (زراعياً أو تجارياً) مما حولها لمجرد أرض فضاء تستغل من قبل فناني الأداء(أرباب الملاعب والحرف والمشعوذين والمخايلين و الحواة .. إلخ) الذين كانوا يقدمون فيها  فنونهم بعيداً المدينة القديمة وقواعدها الاجتماعية التي تنبذهم .
على مستوي أخر فإن موقع الازبكية القريب من قلب المدينة القديمة و أنتباذها منه - في ذات الوقت- جعلها موقع مثالي لقيام مجال صالح لفنون الأداء و للممارسات غير الأخلاقية ذلك أن موقع الأزبكية – بإمتدادته الطبيعية  - كان مؤهلاً لإنتعاش فنون الأداء تاريخياً لإرتباطه لأزمنة طويلة بالمرح و التحرر من القواعد الأخلاقية والتراتبيات الإجتماعية .. فنجد أن منطقة باب اللوق التي كانت موقع ثابت لفناني الأداء (راجع : تقي الدين أحمد بن على المقريزي – المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار)، هذا بالإضافة للشهرة التاريخية لحديقة - وبركة - الأزبكية التي أرتبطت لقرون طويلة في المخيلة العامة بالإحتفالات و الفرح .
 من ناحية أخري أكتشف نابليون وقادته أهمية موقع الأزبكية الاستراتجي حيث وفر للقوات الفرنسية الغازية الهيمنة على المدينة والتواجد بمحيطها وعلى مقربة من مركزها السياسي و الثقافي و الديني  (الأزهر) - الذي كان طلبته يقودون حركة مقاومة لإستعمار- وذلك دون التوغل في المدينة القديمة بشوارعها الضيقة و حاراتها الإفعوانية وأبوابها وسكانها العدائيين ... من هنا أقام الفرنسيون موقع قيادتهم في الأزبكية المنبسطة و الممتدة ، وبالتالي أقام الفرنسيون مسرح الجمهورية والفنون بحديقة الأزبكية على مقربة من البركة للإستفادة من المميزات الطبيعية التي تميز المكان و تجعله مؤهلاً لقيام أنشطة ترفهية للجنود والقادة.
وحتى منتصف القرن العشرين أستفاد عدد من حكام مصر من ذلك الإكتشاف الإستراتيجي حيث أقامت الأسرة العلوية قصورها ومسارحها بمحيط الإزبكية وعابدين..
ورغم أختلاف رؤية  نابليون العسكرية ورؤية الخديوي اسماعيل التعميرية لمنطقة الازبكية (وأمتداتها) إلا أنهما أتفقا في النظر إليها كمنطقة منفصلة عن الكتلة السكانية و ممتلكة لطبيعة متميزة تجعلها مؤهلة لقيام أنشطة فنية و ترفهية وحضور لمؤسسات الدولة الثقافية .. وبالتالي صار من الطبيعي أن تقام بالمنطقة مجموعة من المباني المرتبطة بفنون الأداء (دار الأوبرا ، الأبيودروم ، السيرك ، مسرح الكوميدي الفرنسي ، مسرح حديقة الازبكية).
ومنذ ذلك الوقت لم يعد موقع فحسب مجرد أرض خربة متصلة بمدينة القاهرة الفاطمية فحسب بل تحولت إلي موقع شديد الأهمية والقلق على خرائط مدينة القاهرة الحديثة ، فلقد أصبحت هي الجسر الواصل بين القاهرة القديمة بحواريها و أبوابها التاريخية و تصميم شوارعها وحواريها المملوكي ومأذنها التاريخية من ناحية ، والمدينة الحديثة بتصميماتها الأوربية و شوارعها الممتدة و المستقيمة و الواسعة، لقد أصبحت منطقة الأزبكية هي الجسر الواصل بين ثقافتين أجبرا على التعايش سوياً داخل حدود مدينة واحدة ، وبالتالي فلقد صار من الطبيعي أن تمتاز تلك المنطقة في التصميم الجديد بأنها حاملة لسمات مميزة لكلا الثقافتين من ناحية و منفصلة عنهما من ناحية أخرى ، وكذلك أن تكون موقع هامشي بالنسبة للمدينتين لوقعها في التخوم الفاصلة بينهما ، فأصبح من الطبيعي أن تتحول لموقع تنمو فيه الدعارة (وش البركة) الخمور و المقاهي و أن تصير ملجاء للباحثين عن المتعة و الترفيه.
ولذلك فمن الطبيعي أن نتفهم وجود مسرح الكوميدي الفرنسي و السيرك و الأبيودروم (ملعب الخيل) والسيرك في تلك المنطقة الضيقة و المحدودة التي نطلق عليها حالياً (ميداني الأوبرا و العتبة ) ..
فالخديوي أسماعيل قام بنقل النموذج الأدائي الفرنسي (كما كان يراه) إلي ذلك الموقع برغم عدم وجود خطة واضحة للفروق الفاصلة بين تلك المظاهر الأدائية (فلم يكن هناك فروق واضحة بين ما يقدم على خشبة مسرح دار الأوبرا و ما يقدم على خشبة مسرح الكوميدي الفرنسي حيث كانت تقدم عليهم الحفلات الموسيقية و البالية و الرقص والأوبريتات و المسرحيات .. وربما لم يكن من تميز لخشبة مسرح الأوبرا غير تقديم عروض الأوبرا عليه ) .. وربما يعود ذلك لكون مسرح الكوميدي الفرنسي -  المفتتح في ربيع 1868 - كان أول دار عرض مسرحي تقيمه الدوله على النمط الأوربي قبلما يتراجع دوره أمام دار الأوبرا (التي تم أنشائها في إطار الإحتفال بإفتتاح قناة السويس) التي قامت بإستيعاب الأدوار التي كان يؤديها ببطء  حتى أصبح غير ذا قيمة تقريباً .. ليختفي في النهاية ذكره .
وربما ينطبق ذلك الأمر على الأبيودروم و السيرك اللذان أختفا في النهاية هم أيضاً..
ولكن ربما يبقي السؤال المنطقي حول السبب الداعي لقرارالخديوي بإعادة بناء مسرح حديقة الأزبكية  في ظل وجود مسرح الكوميدي الفرنسي من ناحية وتزامن الشروع في بناءه مع بناء دار الأوبرا من ناحية أخرى؟
لا نجد إجابة لدي التاريخ الذي يصمت إزاء تلك القضية و يكتفي بسرد الوقائع وتقديم الوثائق الصامته التي تؤشر فحسب على بداية البناء في مايو من عام  1869 ثم أفتتاح مسرح حديقة الأزبكية بعد أربع سنوات في مايو من عام  1873تحت إدارة أنريكو سانتيني.
لذلك ربما تكمن الإجابة في التصميم المعماري ومساحة البناية وموقعها ، فدار الأوبرا الخديوية والمسرح الفرنسي بنيا تماشياً مع أنماط البناء المنتشرة في الغرب خلال القرن التاسع عشر بما يميزها من سمات كضخامه وثقل البناء وبروز ملامح السلطة بها ، ولكن في المقابل نجد أن مسرح الأزبكية يمتاز بصغر حجم البناء و التمازج الطرزي بين النمط الأوربي في بناء المسارح والطرز الإسلامية ...
على مستوي أخر فإن مسرح حديقة الأزبكية ظل مرتبط بحديقة الأزبكية على العكس من دار الأوبرا الخديوية و مسرح الكوميدي الفرنسي اللذان أنفصلا عن جسد الحديقة خلال عملية إعادة التخطيط للمنطقة (والتي أقتطعت مساحات من حديقة الأزبكية لصالح دار الأوبرا و الميادين التي تم إنشائها أو توسعتها على حساب الحديقة كما يشير على باشا مبارك في الخطط التوفيقية.. وهو ما يعني أن مسرح حديقة الأزبكية ربما كان وجوده (في مخيلة المصمم المعماري والمخطط الحضاري وبالمخيلة السياسية) شديد الهامشية بالنسبة لتلك المسارح الكبري التي كانت تشغل حيز أضخم من فضاء الميدان وحضور معماري أكثر بروزاً قي مقابل إنزواء (مسرح حديقة الأزبكية) على أطراف الحديقة وإرتباطه بالنشاطات الفنية التي كانت تدعمها الدولة بالحديقة – مثل أكشاك الموسيقي و الموسيقي العسكرية  .. الخ . وهو ما يتأكد كذلك من إشارة  د.سيد على أسماعيل - بكتابه تاريخ المسرح المصرى فى القرن التاسع عشر – إلي أنفصال مسرح حديقة الازبكية عن إدارة التياترات الخديوية (والتي كانت تضم الاوبرا والمسرح الكوميدي) علاقة إدارته مباشرة بمجلس النظار (مجلس الوزراء) .
ربما لا نمتلك هنا من الأدلة ما يكفي لكشف سبب بناء ذلك المسرح الهامشي و المنزوي في ذات توقيت بناء تلك الصورح المعمارية الضخمة على مقربة منه ..لكننا يمكن أن نكتشف كونه لم يكن ضمن المخطط الثقافي الذي كانت تديره إدارة التياترات الخديوية برغم ملكية الدولة له وهو ما أنعكس بالضرورة على علاقته بالمجال المحيط به وموقعه بالنسبة للحديقة والمسارح المحيطة به سواء التياترات الخديوية الكبري أو التياترات الصغيرة التي كانت تشغل عدد من شوارع القاهرة الأوربية .
كذلك يمكن الربط بين التواريخ المتباينة بين الشروع في بناء مسرح 1869 وتأخره حتى عام 1873 وبين سرعة إتمام المسارح المحيطة به ..
وربما كان إرتباط المسرح بالدولة وأنفصاله عن التياترات الخديوية أحد أهم أسباب بقائه وعدم زواله برغم الأزمات المالية الكبيرة و المتتالية التي تعرض لها والتي أرتبطت في الغالب بالمنافسة القوية و الكبيرة من قبل المسرح الفرنسي الكوميدي و دور العرض الخاصة وبل ومن قبل فرق الموسيقي العسكرية الإنجليزية التي كانت  تقدم عروضها بالحديقة بعد الإحتلال الإنجليزي.
وقد أنتهت مرحلة التأسيس برحيل أنريكو سانتيني نهاية الثمانينيات من القرن الثامن عشر قبلما يتولي توني بارون مالانشون و يمكن أن نرصد أعمال عدد من الباحثين  (سمير عوض و د. سيد على أسماعيل) التي أرخت لتلك المرحلة و التي أنتهت بإستئجار جورج أبيض للمسرح في نوفمبر 1912 أن المسرح كان مستقر للفرق الاجنبية الزائرة و كذلك للحفلات الموسيقية و عروض الحواة  وبالتالي فإن المسرح في تلك المرحلة قد أستقرت بعد هويته التي تأسست في مراحل لاحقة كقاعة عرض مخصصة للعروض المسرحية بشكل محدد.
لكن سرعان ما بدأت نشاءت تلك الصورة التي نعرفها اليوم عن مسرح حديقة الأزبكية(المسرح القومي) عندما حاول جورج أبيض وعدد من الفرقة الكبيرة المستقرة إستغلال إمتلاك الدولة المصرية لقاعة العرض لتأسيس وضعية ملائمة لتطور المسرح المصري بعيداً عن المنافسات العنيفة و الحادة من الملاهي الليلة التي كان تقدم ضمن برنامجها عدة أشكال أدائية متنوعة (رقص ،غناء، اسكتشات كوميدية.. ألخ) وكذلك الفرق المسرحية الكوميدية الناجحة ، حيث تواترت على دار عرض مسرح حديقة الأزبكية فرقة جورج أبيض التي تخصصت في تقديم روائع المسرح العالمي و فرقة الشيخ سلامة حجازي التي أسست للمسرح الغنائي المصري  ، وأخيراً فرقة (شركة ترقية التمثيل العربي جوق عبد الله عكاشة و أخوته وشركائه ) الذي يمثل إستجارها للمصر أخر محطات تحول مسرح حديقة الأزبكية من مسرح هامشي ومهمل إلي أحد المركز الأساسية للحركة المسرحية المصرية خاصة مع دعم طلعت حرب ومشاركته في وضع السياسة العامة للمسرح القومي والمتمحورة  حول إيجاد مسرح مصري جاد والتي وصلت لقمتها مع إعادة بناء دار العرض في عام 1920 والتي أكدت على السمات العربية و الإسلامية في بناءه ، وقد ظل المسرح على حالة حتى حل فرقة أولاد عكاشة حيث شغلت دار العرض بعدهم فرقتي فاطمة رشدي 1929 و فرقة على الكسار في 1930 ...
إن تلك التواريخ و الفرق المتتابعة ربما تكشف لنا عن تحول عميق في العقل المصري ونظرته للفن المسرحي عن نظرته خلال مرحلة التأسيس وهو ما يمكن أن نجمله في عدة أختلافات في مقدمتها أن الدولة المصرية تحولت من كونها القاطرة الأساسية الداعمة للفن المسرحي (عبر تبنيها لإنشاء المسارح و أستضافة العروض الأدائية وتعريف المشاهد المصري بتلك الفنون) إلي شريك لفرق المسرح الجاد في تأسيس لظاهرة مسرحية ذات طبيعة وطنية .. وهو تحول عميق من التبعية المطلقة للمركز الغربي ومحاولة نقل منجزه الحضاري إلي محاولة التأسيس لمسرح يعبر عن الهوية و الوطنية و الثقافية للمجتمع .
كذلك الحال فإن هناك تحول من النظرة لدار عرض مسرح حديقة الأزبكية من مسرح هامشي إلي مركز مسرحي وهو ما يرتبط جزئياً بملكية الدولة للمسرح كما يرتبط بإنتقال مركز الظاهرة الفنية و الأدائية لمنطقة وسط البلد (وبالتحديد شارع عماد الدين) وبالتالي محاولة الفنانين المصريين إستعادة المميزات الجغرافية للموقع وكذا أشراك الدولة .
ولم تبقي بعد ذلك إلا النقلة التاريخية الأخيرة في تاريخ دار العرض عندما خصص في عام 1940 للفرقة القومية .
وخلال تلك الرحلة الطويلة التي تشكلت خلالها هوية المسرح القومي و روحه المميزة أستطاع أن يشغل ذلك الموضع التاريخي الهام للموقع الأدائي الأهم في تاريخ المدينة القديمة ليتحول بالتدريج من هامش منبوذ من المدينة لأحد أهم معالم مدينة القاهرة الحديثة و جزء من قلبها النابض بالحياة.
وربما ذلك يؤشر لنا على الطبيعة المميزة لذلك المسرح كمؤسسة ثقافية و تاريخية أسهمت في الحفاظ على الموقع كمرتكز لفنون الأداء من ناحية واسست لشرعية الفن المسرحي كجزء اصيل من ثقافة مصر الحديثة .


ليست هناك تعليقات:

في انتظار العائلة ... ثنائية البراءة والذنب

  منذ الوهلة الأولى، يتجلى عرض في انتظار العائلة بوصفه دراما تعبيرية تدور في فلك العالم الداخلي لمحامٍ يسعى للموت في أجواء كابوسية، حيث تطال...