لا يمكن التعامل مع عرض (رجالة وستات) للمخرج
أسلام أمام دون أستدعاء ذلك الصوت النسائي الذي أحتل موقع هام بالمسرح المصري منذ عقود
لأسباب متنوعة ... يأتي في مقدمتها التطورات الإقتضادية والاجتماعية الكبيرة التي لحقت
بالمجتمع المصري مع بداية عصر بناء الدولة المصرية الحديثة .. والتي أعادت صياغة العلاقات
الإجتماعية الرابطة بين الرجل و المرأة .. فتآكل نموذج الهيمنة الذكورية على الأسرة
كمعيل ومالك و مركز وأصل وحيد .. يعني الأرتباط به الإنتماء للاسرة .. ليتحول ذلك في
عصر صعود المدينة إلي أنتماء للوطن .
وبالتأكيد فإن ذلك التطور ما كان ليحدث لولا التحول
الكبير من العمل بالفلاحة وتربية الماشية وما يرتبط بهما من صناعات أولية إلي عالم
المصنع والمدينة الحديثة .. فالمرأة المصرية التي عملت بالأرض كان تعمل بالأسرة وللاسرة
.. ولكن بالمدينة أختفت كل تلك الروابط الأسرية لصالح روابط إنتاجية ذات طابع ميكانيكي
صارم ... الأمر الذي جعل من المرأة تشعر بإنفصالها و ذاتها في مقابل الرجل الذي يحاول
الإبقاء على الروابط الزراعية التي تتيح له الهيمنة و السيطرة التامة في ظل مجتمع المدينة
الغير منشغل بالفروق الجنسية بقدر ما هو منشغل بالكفاءة ، والذي لا يربط بين الإنتاج
والأسرة .. بل على العكس يقوم بعمل فصل وتغريب للمنتج عن منتجه كما قال ماركس .
من هنا
كان من الطبيعي أن يرتبط نمو وعي النساء بحقوقهن في مصر بالدولة الحديثة والمدن وبالتحديت صارمشروع تحرير المرأة مرتبطاً
بالمنتميات للطبقات الوسطي و العاملة ..
ربما تبدو تلك المقدمة الطويلة نسبياً مدخلاً
مناسباً للإقتراب من عرض "رجالة و ستات " و الذي قدم فوق خشبة مسرح أوبرا
ملك .فالعرض ينطلق من نقطة صار فيها من الممكن للمرأة و الرجل أن يكتشفا ذاتهما ككائنات
منفصلة وواعية بذاتها بعيداً عن روابط الأسرة أو التسليم بهيمنة الذكر المسبقة .. وذلك
عبر الإنطلاق من محاولة أستكشاف و التعرف بين
الرجل و المرأة في ظل مجتمع المدينة – وهي العلاقات التي لم يكتب لها الإستقرار حتى
الآن- وهو ما تحقق عبر أستعراض للأنماط (الطبيعية والمقبولة أجتماعياً) الممثلة للعلاقة
بين الرجل والمرأة – وهو ما أعطي ذلك للعرض بعض العمق - ذلك أنه لم يحاول أن يبحث خارج
مؤسسة الزواج عن طبيعة العلاقات الممكنة أجتماعياً بين الرجل والمرأة والتي ترتبط بالجندر
(أو النوع الأجتماعي للجنس) (كعلاقات العمل .. العلاقات الجنسية غير الشرعية .. العلاقات
الأبوية والأمومية .. العلاقات المثلية .. الخ ) وبالتالي فلقد أمتلك العرض قدرً من التركيز و التحديد لإزمات صراع السلطة
بين الرجل و المرأة داخل أحد أبسط و أقدم العلاقات الممكنة علاقة الزواج (أو مؤسسة الأسرة) التي أدي تفتت مركزيتها (كما أشرنا) أهتزاز لنموذج أجتماعي قديم ظل لقرون
في مرتبة المسلمات ..
ويمكننا أن نكتشف أثر ذلك بالعرض أنطلاقاً من طبيعة الحكايات التي يعتمدها كنماذج
للعلاقة بين الرجل و المرأة و التي ترتبط كلها
بعالم المدينة عدا حالة واحدة وهامشية للعلاقة بين الرجل الصعيدي وزوجته و التي تكشف
عن طبيعة علاقة يهيمن فيها الرجل بشكل كامل على المرأة وتؤكد على توجه العرض ومصادره.
فمن داخل المدينة يكشف العرض - في إطار كوميدي
- عن عناصر الصراع التي ترتبط في معظمها بالعمل و الولاية المالية للرجل .. فلا توجد
علاقة واحدة من النماج المختلفة التي يقدمها العرض لا يمثل فيها العنصر الإقتصادي عنصر
ضغط أو مساومة أو قمع أو تبرير .. الخ ، كما لا يوجد مشهد لا يوجد به ذكر للعمل وما
يرتبط به من جهد .. وإن كان العرض يحاول تجاوز
مركزية الأثر الاقتصادي بالتأكيد على ما هو أنساني وعاطفي عبر التقسيم البيولوجي بين
مجموعتي الرجال و النساء .
لكن حضور تلك العناصر المرتبطة بالمدينة ونظمها الأقتصادي و الاجتماعي تظل هي الأكثر حضوراً
برغم أعتماد العرض على كتاب (الرجال من المريخ و النساء من الزهرة) الذي يحاول بشكل
دائم تجاوز الوقائع المادية نحو الفروق البيولوجية و النفسية - عبر استعارته الأساسية
التي يعتمدها العرض (المريخيون / الزهريات)- وهي المحاولة التي دعمها العرض عبر أعتماده
على المونولوجات الفردية و السرديات التي تميل لتوجيه المتفرج نحو معالجة الأعراض المصاحبة
للأزمات الأقتصادية و الاجتماعية (كالإنفجارات
العاطفية للنساء .. شكاوى الرجال) كأمور مرتبطة بالفوارق البيولوجية و النفسية بين
الرجل و المرأة .
ولعل ذلك الطرح يتجلى بشكل كامل في نهاية العرض
التي تقوم على مجموعة من النصائح و التوجيهات للنساء و الرجال لكيفية معاملة (شريك/شريكة)
الحياة .. توجيهات ترتبط في معظمها بالإستيعاب والإمتصاص لنتائج التوتر أكثر مما تميل
كشف أسبابه.
ولكن رغم كل ذلك فإن العرض يظل محتفظاً بقدر هائل
من الحيوية التي تتعدد مصادرها بداية من النص (لإسلام إمام بمشاركة ياسمين أمام و أيات
مجدي) الذي يحاول الإجابة على الكثير الأسئلة التي تشغل متفرجه فيها عبر السخرية الدائمة
، أو اللجوء للسرد و المونولوجات كوسيلة لإيقاف إندفاع الكوميديا بخشونتها من ناحية
و لفتح مسارب للتأمل في العلاقة بين الرجل و المرأة من ناحية ثانية ..
كذلك ربما كان للمعالجة السينوغرافية لـ (أسلام
أمام ) - و مهندس الديكور (أحمد شربي) - دور
أساسي في منح العرض قدر من حيويته .. حيث لجاء العرض إلي تشكيل فضاء المسرحي شبه خال
يعتمد على مجموعة من لوحات السيلويت التي تمثل العلاقة المثالية بين الرجل و المرأة
من ناحية .. إلي جانب فردتي حذاء (أحدهم أنثوية و الأخري رجالية) يتم أستعمالهم كـأسرة
أو سيارات .. الخ .. وأخيراً عبر التشكيل بالإضاءة و الموادالفلمية ، وهو ذاته
ما ينطبق على الملابس التي قامت بتحديد لوني لمجموعتي الرجال و النساء .. كعناصر
متضادة و كجماعات منفصلة. وقد أدت كافة تلك المساهمات التشكيلية بالعرض لفتح المجال
أمام المخرج للعمل على تشكيل الفضاء بسهولة ويسر أثناء الإنتقال السريع – والمستمر
– بين المشاهد القصيرة و السريعة .
أخيراً ربما ما كان ذلك العرض ليحقق ذلك الأثر
الإيجابي عند الجمهور لولا مجموعة العمل من
الممثلين (رضا طلبة – ياسمين سمير- هالة مرزوق – تامر الكاشف – وداد عبد المنعم – محمد
خالد – صلاح الدالي – أيات مجدي) حيث أستطاعت مجموعة العمل توظيف قدراتهم الأدائية
للتعامل مع عرض لا يحتاج لتقمص (أو أندماج أنفعالي) بقدر ما يحتاج لمرونة في التنقل
بين شخصيات مختلفة و توظيف جزء من ذواتهم و خبراتهم الشخصية لتكون عنصراً فاعلاً في
بناء العرض .
في النهاية ربما لم يكن عرض رجالة وستات نموذج
مثالي لعرض يحاول مناقشة وضعية العلاقة المعقدة و النامية بين الرجل و المرأة في المجتمع
المصري الحديث.. لكنه يحتفظ بأنه أستطاع ملامسة تلك الأزمة بشكل فني متماسك و أيقاع
منضبط وروح مرحة تدعو للمحبة والتواصل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق