ينطلق عرض (السجين 112) للمخرج غانم المصري و
فرقة نادي مسرح رشدي بالاسكندرية من محاولة
ملامسة عالم مغلق و محاصر بشكل أبدي .. عالم لا يملك أي أمل في الخلاص .. فمنذ
لحظة البداية وحتى نهاية العرض يتلاقي المتفرج مع العرض عبر أطار شبكي يفصل خشبة
المسرح ( عالم السجن) عن المتلقي و يحاصره وينفيه ويؤكد على أنعزله و عدم إمكانية
مراقبته أو التفاعل معه دون المحافظة على تلك الفكرة المسبقة .. أنه سجن .. لا
سبيل للتعامل معه أو أستيعابه دون القيود و الحدود و القضبان . ولا سبيل لمعرفته
أو معايشته دون إدارك أنفصاله عن العالم و
أنغلاقه على ذاته .
إن ذلك المدخل الذي يقدمه لنا العرض يطرح مجموعة
من الإتفاقات الأولية والمسبقة التي يتم توقيعها مع المتلقي .. أتفاقات ربما توفر
أرضية مناسبة و ملائمة للعرض حتى يضع متلقيه في الأجواء النفسية التي يراهن على أن
ترفع من فرص ملامسة العرض لأهدافه و إيصال رسائله .وخلف تلك القضبان التي تفصل
المتلقي عن فضاء العرض يدور عالم (السجين
112) في أجواء أكثر ضيقاً .. ليتحول السجن ذاته إلي عالم متسع و رحب أمام ذلك
الصراع بين السجينين (ونستون و جون) قبلما يضيق ذلك العالم أكثر فأكثر مع نهاية
العرض من خلال رحلة الكشف التي تضع المتفرج أمام عالم أكثر ضيقاً و عنفاُ .. عالم وعي
شخصية وينستون بعالمها الضيق و محاولتها للفكاك من قدرها الإبدي عبر ابتكار شخصية
(جون ) التي تحفظ أمكانية أستمرار عالم السجن دون أنهيار.
ربما حاول العرض فتح مساحات أكثر أتساعاً
لذاته و لعالمه عبر المستوي الخلفي الذي يتجلي طوال الوقت كمستوي زمني مختلف
ومهيمن يسيطر على فضاء عالم ونستون الشاب و يحتجزه كلحظة زمنية تنتمي للماضي ..
ولكن حتى ذلك المستوي ربما لم ينجح سوي في فرض مزيد من الحصار على عالم الحكاية
الداخلية عبر حجزها في صورة ماض لا يمكن التعامل معه أو أستبداله أو تغييره .
إن عمليات الحصار المعقدة المستمرة التي تغلق أفق العالم ربما كانت نقطة
أنطلاق مناسبة لأية محاولة للإقتراب من عرض (السجين 112) للمخرج و الكاتب / غانم
المصري .. فالعرض يحاول الحفاظ طوال الوقت على غلق أي أمكانية للتغيير أو تبديل
العالم سواء عبر سلاسل السلطة التي يقع ونستون في قاعها و التي تذوب كلما ظهرت
أمكانية مجاوزتها لسواء عبر الحديث عن أنتيجون أو عبر خبر الإفراج عن ونستون ..
ففي الأولي يقمع (جون) أي أمكانية لتأويل ونستون
لدفن أخيها الميت كفعل يستحق التقدير وذلك عبر التأكيد على كونها مذنبة
بخرق القانون .. وفي الحالة الثانية يتم قمع أمكانية خروج ونستون من السجن عبر
القتل على مستوي العلاقة بين (ونستون و جون)
.. ثم عبر نفي خبر الإفراج ذاته عبر إعادة مشهد السجان الذي يختفي فيه ذلك
الخبر و يتم نفيه ليتحول لوهم ككل عالم ونستون و بالتالي ينتهي العرض بأن ينفي أي
أمكانية للخلاص من اليأس و العدمية التي يسبح فيها طوال الوقت.
على مستوي أخر أخترق العرض كافة تلك الفرضيات
المبدئية عبر الرقصة التي تقدم في بداية العرض و التي تخلق مستوي حكائي تعليقي و
تفسيري للعالم ربما لم يكن العرض بحاجة إليه خاصة أن العرض لا يستخدمها بشكل دائم
أو يعتمدها كأسلوب للمعارضة أو التعليق .. بل تظل عالقة كتعليق معلق في فضاء العرض
بلا جذور .. تعليق يخترق ذلك العالم وييظهر أيدي الكاتب و المخرج وهي تحاول نبش
العرض و كشف أفكاره للمتلقي .
كذلك يكمن أكتشاف ذلك الخرق لمنطق العرض من
خلال أسلوب الأداء الذي أعتمده المخرج والممثلين و الذي بدا في بعض الأحيان مناقض
لتلط الأطروحة التي حاول العرض تنميتها و التي تبدو مغرقة في اليأس و العدمية ..
فعالم بتلك المواصفات ربما تبدو الأنفعالات العميقة و الحادة فيه أمراً غير متسق
معه .. فعندما يصل أنغلاق العالم لتلك الحدود التي يقدمها العرض ربما يصبح من
المنطقي و الطبيعي أن يبدو أي أنفعال محض أنفجار عاطفي بلا قيمة .
أخيراً ربما أنتج وجود مستويان زمنيان
متوازيان على خشبة المسرح قدراً من القلق في الصورة المسرحية .. قلق ربما نتج عن
أزمة تنفيذية لكنها ظلت حاضرة طوال الوقت ومؤدية لقدر غير هين من الشويش الذي كان
يمكن تداركه في العرض عبر مزيد من تنظيم العلاقة بين المستويان .
في النهاية ربما كان العرض قد خالف عدد من
الاتفاقات التي عقدها مع متلقيه والطريق الذي أختاره لذاته لكنه في النهاية ورغم
كل ذلك يظل متستحقاً للتقدير لمحاولته تشكيل فضاء متعدد المستويات .. وقادر على
تخليق علاقات أكثر تعقيداً مع متلقيه مغامراً بإمكانية التشويش .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق