يستعيد عرض (آخر الأحزان) للمخرج مهند مختار وفرقة نادي
مسرح رشدي الكثير الأشياء التي ميزت العالم المسرحي للرحل (مؤمن عبده) .. مستعيداً
معه الكثير من التقنيات و الموضوعات التي ميزت مسرح جيل كامل من صناع المسرح
السكندري .. لعل أولها محاولة العرض مزج الفضاء المسرحي بفضاء التلقي وهو طموح ميز
المسرح السكندري في التسعينيات و بداية الألفية الذي كان مؤمن عبده أحد صناعه
الأساسين .. وهو الطموح الذي كان يسعي نحو توسيع الفضاء المسرحي ليستوعب فضاء
التلقي و مد حدود التجربة لتحويل المتلقين لمشاركين وشركاء في تشكيل العرض لأهداف
مختلفة ليس أقلها تفعيل الجهاز الإنفعالي للمتلقي ودفعه للإنخراط والتورط عاطفياً
في التجربة .
لكن عرض(آخر الأحزان) أنطلق هنا منطقة أكثر حميمية حيث حدد
بشكل مسبق متلقية المحتمل - كما تصرح أحد الشخصيات - (أنهم الزملاء وأبناء المهنة
وشركاء الهواية) وبالتالي يصبح العزاء ليس أستدعاء لطقس أجتماعي وديني مرتبط
بالموت ويهدف لتحقيق مجموعة من المهام وأعادة تشكيل شبكة العلاقات الاجتماعية سواء
المتعلقة ببعالم الأحياء أو تلك المتعلقة بعالم الموتي . لقد تحول الطقس وتحولت
أدواره ليصبح المتلقين لمشاركين في حالة العرض المسرحي عبر الخبرات القاسية و
التاريخ المشترك (سواء المرتبطة بالأصدقاء الراحلين أو المرتبط بمأساة بني سويف أو
حتى المرتبطة بالهموم المشتركة للفاعلين في تجربة مسرح الثقافة الجماهيرية )
وبالتالي تصبح تلك الخبرات المضمرة و التي لا يستطيع أحد فك رموزها وحضورها ما لم
يكن قادراً على قراءة تلك الشكبة المرتبطة بحضور العرض داخل شبكة التاريخ المشترك .
إن طقس العزاء هنا لم يكن سوى مدخل للتأكيد على تشارك العرض لفضاءه مع متلقيه (المحدد) وأتساع فضاء
خشبة المسرح ليشمل قاعة المتلقين/ الشركاء وبالتالي يسقط العرض ذلك الطقس خلفه بعد
قليل و يتحول عنه حتى نهاية العرض عندما توجه البطل (أحمد سمير) نحو الصالة
لإستكمال الطقس و إكماله دون أستكمال لعملية التفرقة بين العالمين (فالمتوفي هو من
يتلقي العزاء) و الطقس ليس سوى أشارة لخبرة مشتركة تستعيد ذاتها دون رغبة في
الإكتمال أو الإنتقال لوقع مختلف ..
على مستوي أخر فإن العرض يلجاء إلي تقنية متعلقة بالزمن
بحيث يعمل العرض على عده مستويات زمنية - سواء المتعلقة بالزمن المشترك بين
المتلقي/ المشارك و العرض أو المتعلق بالزمن الخاص بالزمن الدرامي الداخلي المتعلق
بالعلاقة بين الطبيبة (أو الممرضة) الشابة (نهى جابر) والبطل (أحمد سمير) قبلما
يدخل العرض إلي أزمنة داخلية متداخلة مرتبطة بعالم مسرحيين قصور الثقافة (عصام
بدوي،محمد زغلول) – مستويات ربما كانت أحد الرهانات الأساسية للعرض لتخليق أيقاعه
الخاص و المرتبط بعالمه الدرامي الغارق في الشعر و الحكايات . لكن ذلك الرهان يمكن
ربطه على مستوي أخر بحالة الحنين للماضي المهيمنة على العرض حنين يستدعي الماضي
الخاص بالشخصيات و عالم العرض كله و يعيد أنتاجه كواقع لا يمكن الفرار منه و
لاتوجد تلك الرغبة أيضاً لدي العرض .. فالحنين للماضي ومشاركة ذلك الحنين و تقاسمه
جزء أساسي من عالم العرض و رؤيته لذاته.
وعبر ذلك التداخل الزمني و القائم على اللحظة الراهنة و المشتركة بينه وبين متلقيه
المستهدف .. ينطلق العرض نحو بناء عالم شديد الهشاشة و الخفة فلا توجد سوى تفاصيل دقيقة
وظلال لعالم البطل/المؤلف وذكرياته (لو صح التعامل معها كذكريات) ورغباته في تجاوز
ذلك العالم الذي كان يحياه عبر علاقته من الطبيبة.
إن تلك الخفة و الهشاشة التي يدور في فلكها عالم العرض
لا تكتسب قيمتها سوى من تلك الشفرة الأساسية المتعلقة بالعلاقة بين المتلقي و
العرض (مؤمن عبده) وبدونها ربما كان العرض سيفقد الكثير ذلك الوهج الذي أمتلكه ..
فلا يمكن تمثل البطل لدي المتلقي المستهدف بشكل منفصل عن صورة مؤمن عبده ..
وبالتالي تتحول الأشعار و الحكايات و المشاهد المستعادة من نصوص مؤمن و الأغاني لتقوم
بدور أكثر عمقاً يتجاوز تلك الحكاية البسيطة المرتبطة بشاب مثقف يواجه الموت بصحبه
حلم بالحياة وهو لا يملك سوى عالم متهدم وميت.
إن العرض و كما أشرنا في مقدمة المقال يستعيد العديد من
التقنيات و الموضوعات الخاصة بعالم مؤمن عبده الدرامي بشكل خاص و المسرح السكندري
في زمن التسعينيات بشكل عام .. بداية بطموحه نحو مشاركة ما هو شخصي وحميمي مع
متلقي ينتزع من واقعه أنتزاعاً سواء عبر طقس أو معركة مفتعلة .. الخ ، مروراً بإهتمامه بالتعامل المرن مع الزمن
لمحاولة الوصول لعالم مفتقد .. وربما يكون أستعادة ذلك المسرح في حد ذاته أحد
أهداف العرض.
في النهاية ربما يكون العرض قد نجح في الوصول إلي متلقي
أخر أكثر أنفصالاً عن متلقيه المستهدف عبر تقنيات بناء العرض بداية بالأداء
التمثيلي أو الإضاءة أو عمليات بناء الفضاء المسرحي سواء عبر الديكور أو عبر حركة
الممثلين .
محمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق